التاريخ الإسلامي

حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري


حول مصنفات وآثار الإمام ابن جأأرير الطبري[1]

يحتلُّ الإمام ابن جرير الطبري المكانة الأولى في سُلَّم التأليف و‌غزارة ‌الإنتاج العلميِّ لعلماء الأمة الإسلامية؛ وقد انعكست سَعة علمه وغزارة فضله على مؤلَّفاته، فقد صنَّف التصانيف الكبار؛ وألَّف في كلِّ علم من العلوم التي أتقنَها على كثرتها، وأبدعَ فيها، وأجادَ فيما حَبَّرته يداه، ورقمته يَراعه؛ فخلَّف بذلك للأمَّة عدَّة مصنَّفات مُحكَمَة فريدة باهرة، لم يُقدَّر أن يصل إلينا منها كاملة إلَّا العدد القليل!

 

وشاهد ذلك – وهو من الأئمَّة المجتهدين[2] – أنَّ كلَّ ما كتبه عن أصول مذهبه الجديد في الفقه قد فُقِد!

 

ورغم ذلك، فإنَّ الطبريَّ يُعَدُّ بحقٍّ من أكثر علماء الإسلام تَصنيفًا وتَأليفًا، ولعلَّ السِّرَّ في ذلك مَنوطٌ بهمَّته العالية التي كانت تُناطح السحاب، وتُعانِق الجوزاء.

 

وهو إلى ذلك رائد عِلمَي التفسير والتاريخ في الإسلام، وعلى هذين العِلمَيْن والأَثَرَيْن (كتاب «التاريخ» و «تفسير القرآن») تقوم مكانته العلمية، وعلى منواله نَسَجَ مَن جاء بعدَه.

 

وبه يُعلَم أنَّ العلمَ الغَزيرَ الذي توفَّر عليه الطبري لم يتركه حبيسَ ذاته وتلامذته، ولكنه – رحمه الله تعالى – حرص على بَثِّه في مختلف كتبه الكثيرة المصنَّفة.

 

قَالَ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ يُوْنُسَ: (وَصَنَّفَ تَصَانِيْف حسنَةً، تَدُلُّ عَلَى سَعَة عِلْمِهِ).

 

وحدَّث أبو علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ (ت: 466هـ) في «كتاب الإقناع» في إحدى عشرة قراءةً، قال: كان أبو جعفر الطبري قَيِّمًا بعلم القرآن، عالمًا بالفقه، والحديث، والتفاسير، والنحو، واللغة، والشِّعْر، والعَرُوض، كثير الحفظ، له في جميع ذلك تصانيف فاق بها سائر المصنِّفين.

 

وممَّا يُتَحسَّر عليه أنَّ جُلَّ هذه الكتب والمؤلَّفات قد ضاع واختفى معظمُها من زمنٍ بعيدٍ، ولم يحظَ بالبقاء، ولا وصلَ إلينا منها إلا القليل، والذي حَظي بالشُّهْرة الواسعة منها كتاب التفسير، وكتاب التاريخ.

 

لكن، لا يزال الأملُ كبيرًا، والفأل الحسن معقودًا في العثور على شيءٍ منه يومًا ما.

 

ولم يكن هذا الإنتاج العلمي الغَزير للطبري بالغَثِّ ولا الرَّثِّ، بل كان سَمينًا ودَسِمًا ومحيطًا بموضوع البحث وما قيل فيه، ولم يكن مجرد جَمْعٍ وتدوينٍ لكتب غيره، بل كان ينتقي ويختار، وكانت شخصيَّتُه بارزةً، وتحليلُه واضحًا، وتعليلُه دقيقًا، وتعمُّقُه ظاهرًا، وترجيحاتُه متوفِّرةً تقريبًا في كلِّ العلوم والروايات والآراء والأقوال، وكان يُصرِّح بالرأي المختار، ويجاهرُ بالصواب من الأقوال، مع تَحرِّي الأمانة العلمية في نسبة الآراء إلى أصحابها، وعَزْو الأقوال إلى مصادرها، مع الثقة بالنفس والحفظ والضبط، والأدب الجَمِّ، والتقدير لِمَن سبقَه، والاحترام لآراء المخالفين، إلى حملةٍ شديدةٍ على المنحرفين والشاذِّين.

 

وقد سَلِمتْ – بحمد اللّه – بعضُ هذه الكتب من عَوادي الدهر، وحَوادث الأيام، ونَكبات التاريخ، فنَجَتْ من الحَرق والإتلاف والغَرق والضَّياع.

 

قال عبدالواحد المراكشي عن الإمام ابن حزم الظاهري: (بلغني عن غير واحدٍ من علماء الأندلس أنَّ مبلغَ تصانيفه[3] في الفقه والحديث والأصول والنِّحَل والمِلَل وغير ذلك من التاريخ والنَّسَب وكتب الأدب والرد على المخالفين له – نحوٌ من أربعمائة مجلَّد – تشتمل على قريبٍ من ثمانين ألف ورقة، وهذا شيءٌ ما علمناه لأحدٍ ممَّن كان في مدة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، فإنَّه أكثرُ أهل الإسلام تصنيفًا، فقد ذكر أبو محمد عبدالله بن محمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بالصِّلَة، وهو الذي وَصَلَ به تاريخ أبي جعفر الطبري الكبير: أنَّ قومًا من تلاميذ أبي جعفر لخَّصوا أيامَ حياته، منذ بلغَ الحُلُم إلى أن تُوفِّي في [مطلع القرن الرابع] سنة 310، وهو ابن سِتٍّ وثمانين سنة، ثمَّ قسموا عليها أوراقَ مصنِّفاته، فصار لكلِّ يومٍ أربع عشرة ورقة؛ وهذا لا يَتَهيَّأُ لمخلوقٍ إلا بكريم عناية الباري تعالى، وحُسن تَأييدِه له).

 

ثمّ – في أخريات حياة الطبري – استقرَّ به المقامُ ببغداد التي كانت نهاية المَطاف، وخاتِمةَ التجوال، فاستوطنَها، وبها أَلقى عصا التَّسيار والتَّرحال، وعمره إذ ذاك سِتٌّ وستُّون سنةً، فأقام بها منقطِعًا للتدريس والتأليف ونشر ما جمعَه من علمٍ، وبها حدَّثَ بأكثر مصنَّفاته.

 

فبفضل تلك الرَّحلات، وذلك التَّطواف في مختلف الأصقاع والأمصار؛ تَيسَّرت لابن جرير فيما بعد أسبابُ جمع مادَّته العلمية التي كانت يَنبوعًا ثرَّة غَذّى بها فيما بعدُ مختلفَ مصنَّفاته في التفسير والحديث والتاريخ والفقه، واللغة و…

 

قَالَ الخَطِيْبُ البغدادي: (سَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ عُبَيدِ اللّهِ بن عبدالغفَّار اللُّغَوِيَّ المعروف بالسِّمْسِمانيِّ يَحْكي أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ جَرِيْر مكثَ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً يَكْتُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا أَرْبَعِيْنَ وَرقَة)[4].

 

وقال صاحبُه وتلميذُه أبو محمد عبدالله بن أحمد الفرغاني في «صلة التاريخ[5]» لَهُ: (إنَّ قومًا من تلامذة محمد بن جرير الطَّبَري حَسَبوا (حَصَّلوا أيام حياته) منذ احتلم، إلى أنْ مات، ثمَّ قسموا عَلَى تِلْكَ المدَّة أوراقَ مصنَّفاته، فصار منها لكلِّ يومٍ أربع عشرة ورقةً[6]).

 

علَّق عليه السُّبكيُّ بقوله: (وَهَذَا لَا يُنافي كَلَام السِّمْسماني لِأَنَّهُ مُنْذُ بلغ لا بُدَّ أَن يكونَ مَضَت لَهُ سِنُون في الطَّلَب لَا يُصنِّفُ فِيهَا).

 

وقال ياقوت الحَمَويُّ: (وهذا شيءٌ لا يَتَهيَّأ لمخلوقٍ إلَّا بحُسن عِناية الخالق).

 

وقال الزُّحيليُّ: (وهذا يعني أنَّه كتبَ نحو ستمائة ورقة).

 

وقال عليُّ بن عبدالعزيز الشِّبْل: (وإذا حسبتَ هذا أيضًا فإنَّه يبلغُ مجموعُ ما كتبَ قريبًا من أربعمائة ألف ورقة؛ أي: نحو ثمانمائة مجلَّدٍ كبيرٍ).

 

يُتبَع…


[1] – تاريخ بغداد (2/ 550)، تاريخ دمشق (52/ 194 – 195)، المنتظم (13/ 216)، الكنى والألقاب (ص241)، طبقات الفقهاء الشافعية (ص109)، تذكرة الحُفَّاظ (2/ 711)، تاريخ الإسلام (23/ 281)، طبقات القرَّاء (1/ 329 – 330)، معرفة القرَّاء الكبار (2/ 529 – 530)، غاية النهاية (2/ 107 – 108)، طبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير (1/ 223). طبقات علماء الحديث 2/ 433)، طبقات الشافعية للسُّبكي (2/ 136)، طبقات المفسِّرين للداوديِّ (2/ 113)، طبقات المفسِّرين للسيوطي (ص97)، معجم الأدباء (6/ 2442 – 2443)، الوافي بالوفيات (2/ 213)، المقفَّى للمقريزيِّ (5/ 482)، طبقات ابن قاضي شهبة (1/ 64)، مفتاح السعادة (2/ 286 – 287)، الطبري: السيرة والتاريخ للعزَّاوي (ص87 – 88)، إمام المفسِّرين والمحدِّثين والمؤرِّخين للشِّبل (ص44)، مقدَّمة “التبصير في معالم الدِّين” للشِّبل (ص53)، الإمام ابن جرير الطبري للزهيري، الإمام الطبري للزحيلي (ص53).

[2] – وكان القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريَّا النهرواني (ت: 390هـ) المعروف بابن طرار على مذهبه.

[3] – ضمير الغيبة راجع إلى ابن حزم الظاهري، وأحاله إلى داود الظاهري في: آيات الصفات ومنهج الطبري في تفسير معانيها (ص28).

[4] – علَّق عليه جرجي زيدان (2/ 202)، فقال: (ولا يخلو ذلك من مبالغة، لكنَّه يشير إلى كثرة عمله). أمَّا د. علي بن عبدالعزيز الشِّبل فقدَّرها في (مقدَّمة “التبصير في معالم الدين” ص53) بخمسمائة وثمانين ألف (80500) ورقة.

[5] – مفقودٌ، ويُسمَّى المُذَيَّل – دائرة المعارف الإسلامية (ص6766) -.

[6] – في الوافي بالوفيات (2/ 213): (سبع عشرة ورقة).





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى