التاريخ الإسلامي

محمود شاكر (شيخ العربية) (3)


محمود شاكر (شيخ العربية) (3)

 

شاكر ونفسه الثائرة:

لا أعرف عالِمًا ومفكِّرًا حَمَلَ في نفسه عزَّة وإباءً وثورة، مثلما حمل محمود شاكر، وكان لتركيبه الخُلقي الحاد الصارم أثره القوي في أن يكون بهذا الشكل، وقد عرَف الرجل من نفسه تلك الاندفاعة، فقال واصفًا نفسه: “هذا ما رُكِّب في أصل خِلقتي من الحِدَّةِ والثورة وضيق الصدر”.

 

مواقفه بشكل عام تعكس روحَ فارسٍ أتى في زمان ذُبحت فيه كل الجياد، وقد آثر أن تكون نفسه بقوة قوسه العذراء، فغدت مواقفه تحمل شكلًا بطوليًّا لم يعُدْ لها وجود إلا في كتب التاريخ أو على ألسنة الشعراء، فهل رشحت على الرجل تلك النَّزعة جرَّاءَ انغماسه في مطالعة التراث العربي وشعره الجاهلي تحديدًا؟

 

أظن، وليس كل الظن إثمًا.

 

محمود سعد الدين محمد شاكر؛ هكذا كان اسم الرجل كما أخبرت زوجه أمُّ فهـر، ولأن هـذا الرجـل كان يحيـا بـروح أمته، ولا يعيش في محبـس الـذات الضيـق فقـد تـقـدم إلى القضـاء بشكوى يطالب فيهـا بتغيير اسمه، والاكتفاء بمحمـود، بـعـيـدًا عـن ذلـك اللقـب الـذي فيـه اسـم سـعد؛ حتى لا يكون بينه وبين سعد زغلول مشابهة ولو بالاسـم؛ لأنـه كـان يـرى أن سعد زغلول أضر الحركة الوطنيـة في مصر ضررًا عظيمًا، وكان ميله إلى الإنجليز، وهذا ما كان يرفضـه شـاكر، فأنِف من المشابهة، وتجشـَّم رفع قضيـة لتغيير اسمه، حتى لا يحمل في بطاقتـه هـذا الاسـم الـذي يؤذيـه!

 

في إحدى المناسبات الثقافية، دعـا د. سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب العلماء والمفكرين والمثقفين إلى حضور احتفال يُقام في دار الأوبرا، وكان من الذين وُجِّهت إليهـم الـدعـوة محمود شاكر، فاستجاب وذهب مبكرًا في صحبة تلميذه د. عادل سليمان جمال؛ لأنه لا يحب التأخـر عـن ميـعـاد ضـربـه لأحد، وكان موعـد الاحتفال في العاشرة، وستحضُره حرم الرئيس؛ سوزان مبارك، فجلس الأستاذ وإلى جـواره تلميذه عادل سليمان، حتى إذا كانت العاشرة ودقائق قام الأستاذ متوكِّئًا على عُكَّازه، وهو يصيح بصوت غاضب: هـذا هـَزْلٌ، لا بد أن أنصرف الآن! هؤلاء ناس لا يحترمون مواعيدهـم، ولا يحترمون وقـت أهـل العلم، فأقبـل الحـرس والأمن، وهمُّهـم النـاس، وأوجس د. عادل في نفسه خِيفة أن يُصاب الأستاذ بمكروه، لا سيما والمكان مليء بقيادات الأمن، الذين أحدقوا به، متسائلين عـن سبب الإصرار على الانصراف، والدكتـور عـادل يخفِّضهـم، متعلـلًا بـسـن الرجل الكبيرة، وأن الجلوس يؤلمه، وشاكر ينهَره، ويقـول: لا، هـؤلاء لا يحترمـون النـاس، ولـن أجـلـس أبـدًا، وعبـثًا حـاول الضباط إفهامَ شاكر أنـه لـن يُسمح لسيارةٍ بالدنـو، وأن عليـه إذا أراد الخروج قطع مسافة طويلة سيرًا للوصول إلى السيارة بالخارج، وشاكر لا يبالي بهذا كلـه، فوافقـوا عـلى ذهابه، فمضى غاضبًا وهـو ينظر إلى الجالسين من الدكاترة والمثقفين، ينهرهـم قائلًا: لـو كـنتـم تحترمـون أنفسكم لقُمتـُم، هؤلاء لا يحترمونكـم، وفي نفـس تلميـذه عـادل سليمان مـا فيهـا؛ جـزعًـا مـن أثـر هـذه الكلمات عليـه وعـلى أستاذه، وأصر شاكر وخـرج، ولم يحضُرِ الحفـل، وتنفـس تلميذه بخروجهـا إلى السيارة الصُّعَداء، فنظر إليـه شاكر قائلًا بعـد هـذا الموقف العصيب بمزاح: “تعـال يـا عـادل تغـد معي، أم فهـر عاملـة الملوخيـة الـلي بتحبهـا”.

 

وفي المغرب يعقـد الملك مجالسَ علمية، يدعـو إليهـا أهـل الـعلـم مـن جنبـات العـالم الإسلامي، وكان منهـم محمود شاكر، فسافر، وقـد أعـد نسـخـًا مـن كـتبـه – كالمتنبي والأباطيل – مجلَّدةً تجليـدًا فـخمًــا؛ ليقدمها هدية للملـك الحسن، وعنـد دعـوة العلماء للسـلام عـلى الملـك أمسك شاكر بكتبـه الفخمة؛ ليسلمها إلى الملـك هـديـة عـنـد السـلام عليـه، فأراد بعـض المشرفين على المراسيم الملكيـة تـسـلُّـم الكـتـب مـن الشـيـخ؛ لتُـودَعَ في مكتبة الملك جريًـا عـلى الرسـوم السـلطانية، و”بروتوكلات” الزيارات، لكـن الشيخ رأى أن مـن الحسن أن يقدمهـا هـو بنفسه، وأنه لا يليق أن يعطيها لغير الملك، لكنهـم أعلمـوه أن لا سبيل إلى ذلك؛ لأن في ذلك مخالفةً للمراسيم السلطانية، فأبى الأستاذ، ونحَّى كتبه جانبًا، ودخل للسلام على الملك بغير الهدية التي أراد تقديمهـا لـه بنفسه، وصافحه مرفوع القامة بدون تقبيل يد الملك، ولا حتى انحناءة.

 

وكانت تلك الاندفاعة تضطره أحيانًا إلى أن يقول كلامًا عواقبه وخيمة وخيمة، فلبس في السجن تسعة أشهر نتيجة عبارة مقتضبة، يروي حيثياتها بنفسه من أنه كان بينه وبين يحيى حقِّي حوار في الهاتف، وقد شكا له الأخير معاناته في الوزارة من فتحي رضوان وبعض الضباط، وأن طلباته لا تُجاب، وجهده لا يُقدَّر؛ فقال له شاكر: “يا يحيى آخر خدمة الغُز عَلقة”.

 

وقد سأله صلاح نصر عن تلك الكلمة وقال له في ثنايا التحقيق معه: “إحنا الغز”.

 

فقال له: “هذا مثل مصري لا أعني به أحدًا، إلا إذا كنتم ترون أنفسكم (الغز)، فهذا شيء آخر”، فضحِك صلاح نصر.

 

وقيل: إن سبب سجنه أنه قال: “الحر مُمتحَنٌ بأولاد الزنا”.

 

وسأله صلاح نصر – أثناء التحقيق معه – عن هذا الشطر من بيت المتنبي، فروى له شاكر بأنه كان مع نفر من أصحابه يقرأ (الأصمعيات) في بيته، وكان يتكلم عن العرب وتاريخهم، وأنهم عنصر كريم، ابتُليَ بمن تسلَّطوا عليه في بعض فترات تاريخه، ثم استشهد ببيت المتنبي.

 

وفي هذا اليوم جاء لزيارته رجل سوداني كان أبوه صديقًا لعائلة شاكر منذ القديم، ولم يكُ دخل بيتهم قبل ذلك اليوم طيلة عشرين سنة، وإنما دخله ذلك اليوم فحسب، وأن هذا الرجل كتب تقريرًا رفع لعبدالناصر، فظن أنه المقصود بالعبارة.

 

وقد علَّق شاكر على الفترة التي قضاها في السجن بقوله: “وأحاطت بي الأسوار، وأظلمت الدنيا، وسمعت، ورأيت، وتقززت … وتسليت عن كل ما ألقى بقول شيخ المعرَّة:

يسوسونَ الأُمورَ بِغَيرِ عَقلٍ
فَيَنفُذُ أَمرُهُم وَيُقالُ ساسَه
فَأُفَّ مِنَ الحَياةِ وَأُفَّ مِنِّي
وَمِن زَمَنٍ رِئاسَتُهُ خَساسَه

 

معاركه الفكرية:

خاض شاكر معاركَ متعددة؛ منها: معركته مع عبدالعزيز باشا فهمي وقضية الكتابة بالعامية… لكن معاركه الضارية كانت طه حسين ولويس عوض.

 

لم يخض شاكر معارك في حياته تقوم على شخصه، ولم ينجرَّ لها في أي وقت، حينما حدث ما حدث في قضية عبارة المتنبي التي أدت به إلى السجن: “الحر ممتحن بأولاد الزنا”، وكانت مجلة آخر ساعة نشرت كلامًا يتعلق بالشيخ الباقوري، وما وقع عليه من النكال جرَّاء ما قاله شاكر، وسأله بعض أصحابه الرد على هذا الأمر بالكتابة في الصحف، فقال شاكر: لا يحسن بي أن أفعل فعل الصبيان، أذهب فأحكي حكايات أرد بها على هذه السخافات، أنا لا أرد على مثل هذه الأشياء السخيفة.

 

إنما كان ينتفض كالأسد حينما يجد أحدًا يناوش عرينه، وعرينه هنا العروبة والإسلام، وحدها فقط يخرج شاهرًا قلمه ليجالد وحده عن قضيته الأم، فإذا ما قام برد المعتدين كلٌّ إلى مخبئه، عاد أدراجه يقرأ ويحلل ويتابع في صمت الرهبان، وفي سبيل ذلك خاض معارك حامية الوطيسِ مع اثنين من أساطين عصره، كانت لهما صولات وجولات في ميدان الفكر، وعلى صفحات الصحف، إنهما الدكتور طه حسين، والدكتور لويس عوض.

 

مع طه حسين:

بدأت بذور الخلاف بين شاكر وطه مبكرًا جدًّا، ففي السنة الأولى لشاكر في الجامعة، سمع من أستاذه طه حسين ما قاله في قضية انتحال الشعر الجاهلي، وعلى الرغم من أنه – أي شاكر – كان مختلفًا مع أستاذه في تلك القضية، لكن خلافه الأكبر الذي كان أكبر من أن يطيقه – أن يكون هذا الطرح منتحَلًا؛ فالأستاذ طوال الوقت يصول ويجول على أن هذا من بنات أفكاره، بينما يجلس في القاعة تلميذه الوافد الجديد للجامعة يقتات صمته بألمٍ من أن يبدر من أكبر رأس في الجامعة هذا السطو الصريح، على أفكار المستشرق (مرجليوث)، فقد قرأ شاكر هذا الطرح في إحدى المجلات الأجنبية، وهو في الثانوية.

 

وفي تلك المقالة كان (مرجليوث) يشكك في صحـة الشعـر الجاهلي، ويراه شعرًا إسلاميًّا وضعه الرواة المسلمون في الإسلام، ونسبوه إلى أهل الجاهلية، وبعد تردد واجه التلميذ أستاذه بما في نفسه، وبدأ حديثه أمـام الطلاب عن هذا الأسلوب، الذي سماه الأستاذ “منهجًا وعن تطبيقه لهذا المنهج في محاضراته، وفُوجِئَ الطلاب بكلام التلميذ للأستاذ، وما كاد التلميذ يفرغ من كلامه حتى انتهره الأستاذ وأسكته، وخرج الجميع من القاعة مستنكرين غاضبين مما قاله زميلهم، ثم أرسل الأسـتـاذ ينادي التلميذ فعاتبه بالقسوة حينًا، والرفق حينًا آخر، والتلميذ صامت لا يستطيع الرد، ولم يستطع أن يكاشفه بأن محاضراته مسلوخة من مقالة (مرجليوث)، ولكنه كـان على يقين أن الأستـاذ يعلم أن تلميذه يعلم بهذه الحقيقة، ومن يومها خرج التلميذ ويبس الثرى بينه وبين الدكتور طه إلى غير رجعة”.

 

وقد تساءل الأستاذ كمال النجمي عن هذه الغضبة العجيبة فكتب: “هل حدث قط في تاريخ الأدب العربي أو في تاريخ الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، أن هاجَرَ أديبٌ من وطنه احتجاجًا على نفرٍ من مواطنيه، زعموا أن الشعر الجاهلي أكثره زائف، وأنه من وَضْعِ الرواة في العصرين الأموي والعباسي لا من نظم امرئ القيس وطَرَفَة، والنابغة وزُهير، وسائر ذلك العقد النظيم، من آباء الشعر العربي في الجاهلية؟ ثم يجيب: نعم، حدثت هذه الهجرة العجيبة المثيرة، حدثت مرة واحدة في تاريخ الأدب العربي وتاريخ الأمة العربية، وكان بطلها هو الكاتب الشاعر اللغوي المحقق الفقيه العلامة الأستاذ محمود محمد شاكر”.

 

​ولم يمنعه من التصريح ومقابلة أستاذه بما يموج في رأسه إلا ما لِـ(طَه حُسين) عليه من يدٍ، تلك اليد التي قادته إلى أن الالتحاق بكلية الآداب، وهو القادم من القسم العلمي رياضيات في الثانوية العامة، فاستثناه طه حسين من اللوائح والقوانين المنظمة.

 

ولأن الإحسان يدِق العنق مع النفوس المستقيمة؛ فإنه جعل محمود شاكر صامتًا، ولسان حاله يقول لأستاذه: كم في الزوايا خبايا، وفي الناس بقايا! فإذا ما جاءت لحظة كسر الصمت، كسره الرجل غير مكترث بما تؤول إليه النتائج.

 

وحينما حاولوا احتواءه بالعودة إلى الجامعة، قال لأساتذته: “إذا أقرَّ الدكتور طه بالأخذ عن مرجليوث فستجدني أول طالب يرابط في هذه الجامعة قبل أن تشرق الشمس، أما مع هذا الصمت، فإن نفسي لا تطيق أن تسكن الديار الخرِبة”.

 

وحينما خرج كتابه الأول (عن المتنبي) عام 1936م كان له دَوِيٌّ في عالم الأدب، ونال من الإعجاب والثناء ما لم يَنَلْهُ أساطين الأدب في عصره، وهو ابن الرابعة والعشرين، لكن بعدها بعامين، وتحديدًا عام 1938م يخرج طه حسين بكتابه (مع المتنبي)، فيرى شاكر أن أستاذه سطا على أفكاره، وأنه تأثر بكتابه، ولم يُشِرْ إلى ذلك صراحة، فخرج الرجل عن صمته، وأخذ يناقح عن كتابه الْمُفترَى عليه فكتب ثلاث عشرة مقالة في جريدة (البلاغ)، حملت عنوان “بيني وبين طه”، اتهمه فيها بأنه سطا على أفكاره وحذا حَذْوَه؛ وقال: “إن كتاب طه حسين محشوٌّ بأشياءَ كثيرة تدل دلالة قاطعة على أن الدكتور طه لم يسلُك هذا الطريق الجديد على كُتُبه في كتاب المتنبي، إلا بعد أن قرأ كتابه”، ولم يقطع تسلسل تلك المقالات، وتلك الحملة الضارية إلا موت أستاذه الرافعي، الذي كان يحمل له حبًّا وإكبارًا.

 

مع لويس عوض:

في عام 1964م نشر د. لويس عوض – المستشار الثقافي للأهرام حينذاك – مجموعة مقالات في الأهرام بعنوان: “على هامش الغفران”، وذهب في كلامه إلى تأثر المعرِّي باليونانيات، كما ألمح إلى أثر الأساطير اليونانية في الحديث النبوي، مما دفع الرجل إلى العودة إلى الكتابة بعد عزلة فرضها على نفسه؛ لبيان خطأ وتهافت منهج لويس عوض، ثم انتقل إلى الكلام عن الفكر والثقافة في العالم العربي والإسلامي، وما طرأ عليها من غزوٍ فكري غربي، واعتُبرت مقالات شاكر في ذلك حدثًا ثقافيًّا مدويًا، كشفت عن علم غزير ومعرفة واسعة بالشعر وغيره من الثقافة العربية، وقدرة باهرة على المحاجاة والبرهان.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى