Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

عرض كتاب (النحو الغريب في مغني اللبيب)


عرض كتاب (النحو الغريب في مغني اللبيب)

 

لا أعرِف كتابًا في النحو بعدَ كتاب سيبويه نال مِن اهتمام الباحثين والدَّارسين في القديم والحديث، مثلما نال كتاب “مغني اللبيب عن كتب الأعاريب”.

 

فمنذُ أخرجتِ العقليَّة الناضِجة، واليد الصناع لابن هشام الأنصاري هذا السِّفر الجليل، وأعناق الباحثين مشرئِبَّة إليه، ونفوسهم متطلِعة إلى منهله العذْب، وأقلامهم تُستقَى مِن معينه.

 

والأمْر لا يَقتصر على شُروح ابن الصائغ، والدَّماميني، والسيوطي، ولا حواشي الدُّسوقي والشُّمُنِّي والأمير، ولا تحقيقات محمَّد محيي الدِّين وغيره، فالقائِمة طويلةٌ طويلة.

 

ولا غروَ في ذلك فابنُ هِشام كما يقول د. يوسف الضبع: “نثر كتابة النحو بين يديه، ونخل هذا العِلم أمام عينيه، وجعل المغني في صَميمه، لا غثاءَ معه، ولا غبارَ عليه”.

 

وما زالتِ الدِّراسات تتوالَى، وما زال “مغنى اللبيب” كالبحر الخضمِّ يُغري شُداةَ النَّحو بالسباحَة في مياهِه.

 

وها هو الدكتور عليّ أبو طالب مدرِّس اللغويات بجامعة الأزهر يأخُذنا في رحلة جديدةٍ مع المغني مِن خلال بحْثه القيِّم: “النحو الغريب في مغنى اللبيب”، وقد أثار انتباهه أنَّ ابن هشام وصَف بعض آراء النحويِّين التي عرَض لها في كتابه بالغرابة دون أن يُعلِّل لذلك، فأراد جمْع هذه الآراء والوقوف علي سِرِّ الغرابة فيها.

 

ولا شكَّ أنَّ أستاذنا الدكتور عليًّا قد بذل جهدًا كبيرًا في القِراءة المتأنية، واستخراج الآراء التي وسَمَها صاحبُ المغني بالغَرابة، ثم تأصيلها مِن المصادر الأصلية المعتمَدة في النحو، وقد بدأ الكاتبُ بحثَه بالتعريف بأبي محمَّد عبدالله بن يوسف بن عبدالله بن يوسف بن أحمد بن عبدالله بن هشام الأنصاري، المصري، ذلك النحْوي المبارَك الذي وُلد بالقاهرة في ذي القعدة عام ثمان وسبعمائة مِن الهجرة، وعاش ثلاثًا وخمسين سَنة، ملأ خلالَها الدنيا علمًا وفضلاً، ولا يزال، وتحدَّث عن شيوخه، وتلاميذه، وعصْره، وأهم مؤلَّفاته المطبوعة والمخطوطة.

 

ووقف طويلاً أمامَ المغني – ذلك الكتاب الذي أبْدَع صاحبُه في منهجه، ورتَّب قواعده على غيرِ مِثال سابق – فتحدَّث عن منهجِه ومصادره النحويَّة وشواهِده.

 

ولعلَّ أستاذنا – عليًّا – كان موفَّقًا عندَما تحدَّث عن السِّمات الأسلوبيَّة للكتاب، ونادرًا ما يهتمُّ دارِسو النحو بهذا الأمْر – والتي ذكَر منها: الإطناب الذي يتحقَّق به بسْطُ الموضوع بسطًا يُفيد المبتدئ، وهو مع ذلك بعيدٌ عن التَّكْرار؛ بل إنَّه نعَى على المعرِبين ما يقَع في كُتبهم مِن ذلك، ثم إنَّه غالبًا ما يتوخَّى الدقَّة في إصدار أحْكامه.

 

وقدْ كان للباحِث وقفةٌ متأنية مع بعضِ الآراء التي حَكَم عليها ابنُ هشام بالغرابة، وبلَغ مجموعها أربعةً وعشرين حُكمًا.

 

فبدأ بذِكْر مفهوم الغريب عندَ اللُّغويِّين، وهو يدور حولَ الغُموض، والخفاء، والنُّدرة.

 

أمَّا مفهوم الغريب عندَ ابن هشام؛ فقد تبيَّن له أنَّه يدور حولَ أحد المعاني التالية:

1- القليل النادر:

ومِن ذلك حُكمه بالغَرابة على مجيء (سوى) بمعنى القصْد، وابن هشام في ذلك تابِع لابن الشَّجَري، حيث قال في حديثه عن معاني (سواء):

(وسواء بمعني القصْد فتقصر مع الكسْر، وهو أقربُ معانيها؛ لقوله:

فَلَأَصْرِفَنَّ سِوَى حُذَيْفَةَ مِدْحَتِي
لِفَتَى العَشِيِّ وَفَارِسِ الْأَحْزَابِ

ذكَرَه ابنُ الشجري).

 

يقول الباحِث: “ولا أعرِف سرًّا لهذه الغَرابة – اللهمَّ – إلا أن يكونَ مرادهما هو أنَّ ورود (سواء) لهذا المعنى يكون على سبيلِ النُّدرة؛ لذا كان استشهادُ المعاجم على ورود (سواء) لهذا المعنى مقصورًا على هذا البيت، ولو قال الشاعِر:

فَلَأَصْرِفَنَّ إِلَى حُذَيْفَةَ مِدْحَتِي
لِفَتَى العَشِيِّ وَفَارِسِ الْأَحْزَابِ

لأراحَنا مِن همِّ البحث عن وجه الغرابة التي ذكرَها ابنُ الشجري وابن هشام”.

 

2- الرأي الذي يخالف مذهبه:

ومِن ذلك حُكمه بغرابة قول الفرَّاء بإفادة الواو للترتيب، ذكَر هذا في معرِض حديثه عن رأي الفرَّاء في الفاء، فهي عندَه لا تُفيد الترتيب خلافًا لجمهور النحويِّين؛ يقول ابن هشام: “وقال الفرَّاء: إنها – يقصد الفاء – لا تُفيد الترتيب مطلقًا، وهذا مع قوله: وإنَّ الواو تُفيد الترتيبَ غريبٌ، واحتجَّ له بقوله تعالى: ﴿ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ [الأعراف: 4]، وأجيب بأنَّ المعنى: أردْنا إهلاكَها، أو بأنها للترتيب الذِّكْري”.

 

وهذا النصُّ مِن ابن هشام يَعني أنَّ مذهب الفرَّاء في معنى الحرفيين – الواو والفاء – على عكس ما ذهَب إليه الجمهور.

 

فالواو عندَ الجمهور لمطلَق الجمْع ولا تُفيد ترتيبًا، والفاء عندهم للترتيب مطلقًا، وما أوهم خلافَ ذلك أوَّلوه كما رأينا.

 

أما الفرَّاء فقد جعَل الواو للترتيب، والفاء قدْ لا تُفيده وهذا غريب!

 

وإذا كان مذهبُ الفرَّاء – كما رأينا – على عكس ما ذهَب إليه الجمهورُ مِن أنَّ الفاء قد لا تُفيد الترتيبَ عندَه؛ فهل هو حقًّا يرى أنَّ الواو تُفيد الترتيب؟

 

الحق كما يذكُر المؤلف أنَّ الفرَّاء يوافِق الجمهور في أنَّ الواو لمطلق الجمع.

 

وقد نصَّ على هذا في (معاني القرآن) بقوله:

“.. فأمَّا الواو فإنَّك إنْ شئتَ جعلتَ الآخر هو الأوَّل، والأوَّل هو الآخر، فإذا قلت: زرتُ عبدالله وزيدًا، فأيهما شئتَ كان هو المبتدأ بالزِّيارة..”.

 

ومِن ثَم فقد خطَّأ ابنُ مالك مَن زعم أنَّ الفراء يرَى أنَّ الواو تُفيد الترتيب، وإذا كان الأمر كذلك فلا وجهَ للغرابة مِن ابن هشام في هذه المسألة، حيث لا مخالفةَ بيْن مذهب الجمهور، والفرَّاء في معنى الواو؛ فهي عندهما لمطلق الجمْع.

 

3- الرأي المنقول نقلاً غير صحيح:

ومِن ذلك أنَّ النحويِّين اختلفوا في المحذوفِ مِن الجار والمجرور أولاً مِن جملة الصفة:

(أ) فقال الكسائي: حذف الجار أولاً، ثم حذْف العائد، وحُجَّته في ذلك أنَّ الظروف عندَه لا يجوز حذفُها.

 

(ب) وذهَب جماعةٌ من البصريِّين والكوفيِّين إلى أنهما حذفَا معًا، وقالوا بأنَّ حذف (فيه) في نحو: ﴿ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ﴾ [البقرة: 48] سائِغ؛ لأنَّ الظروف يتَّسع فيها ما لا يتَّسع في غيرها.

 

(ج) وجوَّز الأخفشُ والزجَّاج الأمرين؛ فيجوز أن يكونَ التقدير: (لا تجزيه) و(لا تجزي فيه).

 

وقد نصَّ ابنُ الشجري والأشموني على أنَّ سيبويه مِن أصحاب المذهَب الثالث؛ يقول ابنُ الشجري: (وقال أكثرُ أهل العربيَّة منهم سيبويه والأخْفَش: يجوز الأمران)، وهذا المذهب المنقول عن سيبويه يخالِف ما في الكتاب؛ إذِ الموجود في الكتاب حذف (فيه)، وهذا نصه: “كما قال سبحانه: ﴿ يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ ﴾ [البقرة: 48]، أضمر (فيه)”.

 

ولما كان هذا النقل مخالفًا لهذا النصِّ قال عنه ابنُ هشام في الباب الخامس: “وهو نقلٌ غريب”.

 

4– الرأي الذي انفرد به أحَد النحْويِّين عن بقيَّة النُّحاة:

ومِن ذلك أنَّ جمهور النحويِّين ذهَب إلى أن (إذ) تلزم الظرفيَّة، فلا تتصرَّف بأن تكون فاعلةً أو مبتدأة، إلا أن يُضاف اسم زمان إليها نحو: حينئذٍ، ويومئذٍ، وجوَّز الزمخشريُّ وقوعَها مبتدأ فقال في قراءة (بعضهم).

 

(لَمِنْ مَنِّ الله على المؤمنين إذْ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم).

وفيه وجهان:

أن يُراد: لَمِن مَنِّ الله على المؤمنين مِنَّة، أو بعضه إذْ بعَث فيهم، فحذف لقيام الدَّلالة عليه، أو يكون (إذ) في كلِّ رفْع كإذا في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائمًا، بمعنى لمن مَنِّ الله على المؤمنين وقت بعْثه.

 

وعدَّ ابن هشام ما ذهَب إليه الزمخشريُّ مِن جواز وقوع (إذ) مبتدأ غريبًا؛ وذلك لأنَّه لم يقلْ به أحدٌ مِن النحويِّين.

 

5- الرأي الذي لم يستسِغْه من حيث المعنى: مِثل حُكمه بغرابة ما ذهَب إليه بعضُهم مِن أنَّ (لها) في قول المُتنَبِّي:

لَوْلاَ مُفَارَقَةُ الْأَحْبَابِ مَا وَجَدَتْ
لَهَا الْمَنَايَا إِلى أَرْوَاحِنَا سُبُلاَ

جمع (لهاة)، وليس جارًّا ومجرورًا.

 

وقد اتَّبع المؤلِّف في ترتيبِ مسائل بحْثه مسلكَ ابن هشام في المغنى، فبدأ بالحروف، ثم بالحديث عنِ الجملة وما يتبعها من أحكام.

 

والبحث زاخِر بالمسائل والقضايا النحْويَّة التي يعرِضها المؤلف في صورة حيَّة نابضة؛ ذلك أنَّه لم يكتفِ بذِكْر رأي ابن هشام فقط، وإنما يأخُذُك معه في تطواف سريع ممتِع بيْن مذاهب النحويِّين وأفكارهم في كلِّ مسألة يعرِض لها، مما يدلُّ على خِبرة الباحِث وعُمق معرفته بأسرارِ هذا الفن الجليل، تلك الخبرة التي جعلتْه ينجو مِن أسْر ابن هشام وشخصيته النحويَّة الطاغِية؛ لذا تجده يخالفه في بعضِ مسائل بحْثه، وفي نهاية المطاف ذيَّل بحثه بخاتمة ذكَر فيها أهمَّ النتائج التي توصَّل إليها خلالَ دراسته.

 

وما زالت شمس (مغني اللبيب) تُضيء آفاقَ العربية رغمَ توالي الأيام، وكرِّ الأعوام.

 

وصدَق صاحبُه حين وصفَه بأنَّه “كتاب تُشدُّ الرِّحال فيما دونه، وتقِف عندَه فُحولُ الرجال لا يَعْدُونه؛ إذْ كان الوضع في هذا الغرَض لم تسمحْ قريحةٌ بمثاله، ولم ينسج ناسجٌ على منواله”. اهـ.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى