Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

المعرفة في الإسلام (1)


المعرفة في الإسلام (1)

الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأُثني عليه الخير كله، أوله وآخره، وظاهره وباطنه، مِلْءَ ما خلق، وعدد ما خلق، وملء ما أحصى كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدِّخرها وأستودعه إياها ليوم لقائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فلقد كانت مشكلة البحث عن المعرفة وأدواتها ومصادرها، وما زالت من أهم المشكلات التي تداولها الفلاسفة منذ أقدم العصور حتى الآن، فاختلفت الطريقة التي تناول بها القدامى من الفلاسفة هذه المشكلةَ – حيث اهتموا بالوجود، ونظروا إلى المعرفة من خلاله – عن تلك التي أرادها فلاسفة العصر الحاضر، الذين عكسوا ما كان عليه القدامى، فاهتموا بالمعرفة، ونظَّروا من خلالها للوجود، فاختزلوا الكون في الكون المشهود، وأنكروا الكون المغيب، واختزلوا عالم الإنسان في عالم الشهادة، وأنكروا الحياة الآخرة، بل حتى عالم الشهادة اختزلوه في العلم بالمحسوسات المادية، متجاهلين حيِّز التجربة العقلية، فاختزلوا مصادر المعرفة الصحيحة في الظواهر المادية فقط دون غيرها، وذلك خلافًا للمنهج الإسلامي الذي لا يقف بمصادر المعرفة عند المنهج التجريبي وحده، إنه لا يهمله ولا يغُضُّ من شأنه، ولا من شأن ثمراته المعرفية – فهو أحد إبداعات الحضارة الإسلامية، فيها تَبَلْوَرَ وأعطى ثمراته، قبل أن ينتقل ويتطور لدى الغرب – ولكنه لا يقول بانفراده كسبيل للمعرفة، ولا يرى أنه سبيل للمعرفة القطعية المطلقة.

 

لقد أقرَّ الإسلام بوجود الحقيقة الموضوعية؛ حيث قرر أن للأشياء وجودًا عينيًّا مستقلًّا عما في الذهن، أدركه الإنسان أم عجز عن إدراكه؛ ومن ثَمَّ فإدراك الإنسان للأشياء لا يقتضي وجودها، وعدمه لا يقتضي عدمها، وقسَّم الإسلام الأشياء إلى نوعين:

1- موجودات عالم الطبيعة (الكون المادي أو المحسوس)، التي يسميها القرآن عالم الشهادة؛ وهي ما يحيط بالإنسان في عالم الطبيعة من جماد ونبات، وحيوان وإنسان، ويدركها بحواسِّه.

2- موجودات عالم ما وراء الطبيعة (الكون الغيبي أو غير المحسوس)، والقرآن يسميها عالم الغيب؛ [مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، الزنيدي، ص: 67]، وهو داخل فيما يسمى بالفلسفة الميتافيزيقية، فهو عالم لا يدخل في حدود الكون المادي، الذي يمكن أن ندرك مكوناته بالحواس، ومن هذا العالم: الروح، والملائكة، والجن، واللوح المحفوظ، والجنة، والنار، والعرش… ونحوها، ولها وجودها الثابت في الخارج.

 

وقد بيَّن القرآن استقلال وجود هذه الأشياء عن الإنسان؛ فالسماوات، والأرض، والملائكة، وغيرها كثير، كان كل ذلك موجودًا قبل مجيء الإنسان وظهوره؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، وهذا الخليفة هو الإنسان؛ حيث كانت الأرض والملائكة، وغير ذلك موجودة؛ يقول سبحانه: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 31].

 

فقد علَّم الله سبحانه آدم عليه السلام أشياءَ كانت موجودة، أو ستوجد، علَّمه أسماءها، أو عرَّفه على ذواتها؛ [جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، ص: 482 – 485، وتفسير القرآن العظيم: ابن كثير، ج1، ص 222، 223] على خلاف المفسرين، ثم عرض هذه الأشياء على الملائكة، مما يدل على وجود خارجي مستقل لهذه الذوات.

 

ومنهج الإسلام فيها أن بإمكان الإنسان معرفة كثير من الأشياء والموجودات، إذا ما سلك السبل المؤدية إلى المعرفة، وعلى هذه المعرفة يكون تعامله الصحيح معها، واستفادته منها، وقد جاءت آيات كريمة كثيرة تحث الإنسان على التفكر والتدبر، والنظر من أجل معرفة الأشياء المبثوثة في الكون من حوله، حتى يستفيد منها في حياته المادية، ويستشعر عظمة خالقها ومدبرها ومجريها على سننها الثابتة.

 

وهذا الإمكان للمعرفة شامل للموجودات بنوعيها؛ من عالم الشهادة والغيب، فليست خاصة بالموجودات المادية المحسوسة، بل يدخل في ذلك – أيضًا – موجودات العالم الغيبي؛ إذ إن الله عز وجل أمرنا بأن نؤمن بغيبيات معينة، والإيمان لا يكون إلا من خلال معرفة ما يؤمن به الإنسان.

 

ومن ثَمَّ كانت دائرة البحث في طبيعة المعرفة والعلم في الإسلام أوسع مدى؛ إذ إنه لم يجعل للمعرفة طريقًا واحدًا – كما تفعل كثير من الفلسفات – فهو يفرق بين أنواع مختلفة من المعارف تختلف وسائل تحصيلها؛ فيمكن التفريق بوضوح بين عدد من وسائل المعرفة، كلٌّ يختص بإدراك أنواع مختلفة من المعارف، فمنهج المعرفة فيما يتعلق بعالم الشهادة الانطلاقُ من الإدراكات الحسية للوصول – عن طريق العقل – إلى المعرفة التعميمية التنبُّؤية التي ينتفع بها الإنسان في تطبيقاته العملية في مجال المادة والحياة، ومنهجها فيما يتعلق بعالم الغيب الانطلاق أيضًا من الإدراكات الحسية ليتجاوز عن طريق المبادئ الفطرية في العقل الإطارَ المادي المحدود، إلى العالم الغيبي؛ حيث يتمكن من المعرفة العلمية بالقضايا الكبرى في هذا الميدان؛ كوجود الذات الإلهية، والربوبية، والألوهية، وبعض الصفات، والنبوة، ثم يأخذ منهج المعرفة في هذا الميدان طريقًا آخر هو طريق الإيمان بهذا العالم وموجوداته بعد تلقِّيه من الوحي، عن طريق النبوة التي عرفها معرفة علمية من الطريق السابق؛ أي: إن قضايا الغيب التي جاء بها الوحي ليست خارجة عن إمكان تصور العقل الإنساني، بل إن وظيفة العقل التي يمكنه القيام بها على أتم وجه هي إثبات صحة الوحي، وصدقه كمصدر صحيح لبعض أنواع المعرفة، فإذا أخبر الوحي الصادق بعد ذلك بقضية من قضايا الغيب، أمكن للعقل أن يتصورها، لكنه لا يمكنه البرهنة عليها مباشرة، إلا عن طريق إثبات أن الخبر بها صادق، ولو لم يكن الأمر كذلك، لَما جاء التكليف بالإيمان بها، فإن الله لا يكلف الناس بما هو خارج عن نطاق إدراكهم وتصورهم، وليس في شيء من قضايا الغيب التي جاء بها الوحي ليؤمن بها المؤمنون – ما هو خارج عن قدرة العقل على إدراكه وتصوره، ولكن الواقع أن مسائل الغيب هذه ليست من القضايا التي يمكن إثباتها عن طريق العقل مستقلًّا عن الوحي؛ لكونها خارجة عن نطاق مادته الأولية وهي المحسوسات، فإن العقل إنما يستدل على قضاياه عن طريق إعمال قوانينه على المحسوسات، ومسائل الغيب ليست محسوسة، فهي خارجة عن نطاق عمله لهذا السبب، ولكنها ليست بخارجة عن قدرته التصورية، ولو كان الغيب يمكن أن يأتي بما يحيله العقل لَما صلح لقيام حجة الله على عباده، فإن حجة الله إنما تقوم على العباد بما يقع في نطاق استدلال عقولهم.

 

وجميع هذه الوسائل يمكن ردُّها إلى الله تعالى؛ فهو الذي خلق وركَّب فيها إمكانيات الوصول إلى المعرفة أو هداه إليها، وطلب أن يستخدمها في النفع العام؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78].

 

فتميزت المعرفة الإسلامية من بين نظائرها باعتمادها على أمهات الأصول المعرفية، وانتهاجها أقوى الطرق اليقينية، وبهذا تتكامل المعرفة اليقينية في النظر الشرعي، وقد جمع القرآن بين طرق المعرفة الثلاثة؛ الحواس، والعقل، والوحي، كما جمع بين مجالات المعرفة؛ الغيب والشهادة، في آية واحدة؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ [يوسف: 109].

 

ومن ثَمَّ يتبين بوضوح تفوُّق المنهج الإسلامي على المذاهب الفلسفية التي تميَّزت بطابع النظرة أحادية الجانب، التي تركز على بُعْدٍ واحد من أبعاد الكيان الإنساني على حساب الأبعاد الأخرى؛ فعلى سبيل المثال: قد ظهر كيف يضخِّم المذهب المثالي من جانب الروح على جانب الجسد بكل ثقله، مستهينًا بما يستشعر ذلك الجسد من حاجات، عازلًا الإنسان عما تموج به الحياة، مخرجًا إياه من فطرته التي فطره الله تعالى عليها، وهذا في مقابل المذهب الطبيعي الذي يفعل العكس تمامًا؛ فليس هناك في ظل ذلك المذهب مُثُلٌ عليا يتجه إليها، غير الانسياق وراء ما تمليه عليه الطبيعة، ولا مكان مرموقًا فيه لقُوى العقل، وضوابط الأخلاق، والثغرات نفسها تشكو منها الفلسفة البراجماتية؛ إذ إن إعداد الإنسان عندها هو الإعداد لحياة هادرة يتقلب الإنسان بعنف وراء أمواجها المتلاطمة، دون تحديد لقواعد ثابتة، يتم الرجوع إليها، وللكمال الذي يأوي إليه، وهذا على خلاف التصور الإسلامي للموقف المعرفي الذي يلتقي جزئيًّا مع بعض المذاهب السابقة في تفسيرها للموقف المعرفي، وقد يختلف أيضًا معها أو مع بعضها، وهذا أمر طبيعي؛ فإن حديث الإنسان عن الموقف المعرفي – مهما علا شأنه – لا بد أن يحمل معه طابع هذا الإنسان، ولون ثقافته، ومذهبه الفكري، كما يعبر عن وجهة نظره التي تأثر بها وانحاز إليها، وهذا الخلاف يفسر تعدد وجهات النظر الفلسفية حول الموقف المعرفي بكامله، ومن ثَمَّ يفسر الفوارق الأساسية بين الحضارات الإنسانية من عصر إلى عصر، ومن بيئة ثقافية إلى أخرى.

 

فالحضارات الإنسانية تستمد أصولها وأهدافها ومقاصدها في الموقف المعرفي، من وجهة نظر الإنسان التي تحمل معها طابعه ولون ثقافته، وعوامل بيئته الزمانية والمكانية، أما الحضارة الإسلامية، فإنها تستمد أصولها وغايتها ومقاصدها المعرفية من الوحي المنزَّه عن التأثُّر بوجهات النظر الإنسانية، المتعالي على عوامل الزمان والمكان، ومن ثَمَّ فإن وظيفة الإنسان في الموقف المعرفي ليست مرتبطة بتحقيق غايته وأهدافه الشخصية، بقدر ما هي مرتبطة بتحقيق أهداف الوحي ومقاصده.

 

إن أهداف الإنسان ومقاصده من المعرفة عُرْضَةٌ للاقتصار على تحقيق مطالبه، ومقاصده، وأهوائه، حتى لو كان ذلك على رقاب الآخرين ومقاصدهم، أما أهداف الوحي ومقاصده فهي تحقيق الخير لكل بني الإنسان، وتوظيف المعرفة لصالح البشرية أجمعها، مؤمنين كانوا أو كافرين، بخلاف المذاهب الفلسفية الأخرى، فإن مقاصدها خاصة، وغاياتها قاصرة على أتباعها فقط؛ [الوحي والإنسان، قراءة معرفية، محمد السيد الجليند، ص: 140، 141]؛ قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].

 

ففي تصور الإسلام لقضية المعرفة ومقاصدها، نجد الإنسان مؤتمنًا على هذا الكون، مكلفًا بعمارته، مطالبًا باكتشاف قوانينه، كما هو مكلَّف بتوظيف العلم والمعرفة حسب هَدْي الوحي، وليس وفقًا لأهواء العلماء ومقاصدهم، يوظِّف الكون لتحقيق خير الإنسان عامة، وليس لتحقيق أهداف شخصية قاصرة؛ ولهذا نجد أن التصور الإسلامي تجاوز ذلك التخبُّط الرهيب الذي ظل يلاحق النظريات الغربية، فهو يتعامل مع الإنسان على بصيرة بمكوناته كلها، دون إغفال إحداها لصالح الأخرى؛ إذ إن ذلك الإغفال هو مدخل الخلل في الكيان البشري، وانعدام التوازن فيه.

 

إن الإسلام بنظرته الشاملة للكون والإنسان والمجتمع، تميَّز في المعرفة بين مجال يرتاض فيه الإنسان بطاقاته العقلية، ويصل فيه إلى اكتشاف حقائق وأسرار، وهو مجال الطبيعة الفسيح، ومجال ما وراء الطبيعة الذي لا قِبَلَ للإنسان بمعرفته، إلا عن طريق الوحي الإلهي؛ أي عن طريق الدين الصحيح؛ ولهذا نجد أن الفلسفة والفلاسفة الذين اعتمدوا في عالم ما وراء الطبيعة على مصادرَ أخرى غير الوحي، لم يستطيعوا تحقيق أي شيء، على الرغم من التراث الفلسفي الكبير الذي قدموه – من الناحية الكمية – ومع ذلك لم يستطيعوا حتى هذا اليوم الوصول إلى الحقيقة الطبيعية بما يسُدُّ الفطرة، ويروي ظمأها، ومن ثَمَّ، عجزت الفلسفة عن الإنتاج المطلوب في هذا الميدان، فاعتبرت البحث في عالم ما وراء الطبيعة لغوًا لا فائدة من ورائه، ولا معرفة فيه.

 

وفضلًا عن هذا، فإن تاريخ الفلسفة قد أثبت أن الفلاسفة لم يتفقوا على شيء من تلك المسائل، كما هو الحاصل بالنسبة للعلم الطبيعي؛ [مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، الزنيدي، مصدر سابق، ص: 196 – 198]، بخلاف الوحي الذي تطرق لجميع موضوعات عالم ما وراء الطبيعة، موضحًا ما يحتاجه الإنسان بشأنها، بيانًا لواقعها أو غايتها، أو علاقة الإنسان بها، وتُمثِّل هذه المباحث جزءًا كبيرًا من الوحي، وتحتل مركز الثقل فيه، بصفتها القاعدة التي تقوم عليها حياة المسلم كلها، فما من مسألة من المسائل الكلامية والفلسفية التي خاض فيها الخائضون في العصور التالية، إلا وكانت أُوضِحَت في القرآن، فقد أمدَّ المسلمين بتقريرات وبيانات عن الذات الإلهية، وصفاتها، ومسائل التوحيد، والنبوات، واليوم الآخر، والإنسان بدء خلقه ومصيره، موقفه من الكون… وعدة حقائق من عالم الغيب؛ كالملائكة والجن؛ [قواعد المنهج السلفي، مصطفى حلمي، ص: 41]، وقد راعى الوحي في ذلك الطبيعة البشرية المتلقية لهذه المسائل؛ من حيث قدرتها على إدراكها وفهمها، ومن حيث حاجتها في أمور دينها ودنياها.

 

وختامًا، فإن ما يتطلع إليه البشر من الصيغة الْمُثلى للمعرفة، من حيث ارتكازها على الحقائق اليقينية، وما لا يعتريه أي نقص أو قصور في المصدر، لا يمكن أن يتحقق إلا بالمنهج الإلهي الذي جاء بالحكم الفصل في كل قضايا الإنسان والوجود؛ ليقود حركة الحياة بدقةٍ وضبطٍ ونظامٍ؛ وعلى هذا فإن المعرفة التي تفتقدها الإنسانية بحقٍّ هي تلك التي تُستمَدُّ من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي هذه المعرفة وحدها – مضمونًا ومصدرًا ومنهجًا – الأجوبة الشافية الوافية لأسئلةٍ كثيرةٍ، حار الإنسان فيها زمنًا طويلًا، وفيها وحدها كذلك الحلول الحاسمة لكل ما يعترض الفكر البشري من مشكلات في تفسير الوجود والحياة والإنسان؛ مصداقًا لقول الله عز وجل: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].

 

يتبع بإذن الله…





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التاريخ الإسلامي

المعرفة في الإسلام (1)


المعرفة في الإسلام (1)

الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأُثني عليه الخير كله، أوله وآخره، وظاهره وباطنه، مِلْءَ ما خلق، وعدد ما خلق، وملء ما أحصى كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدِّخرها وأستودعه إياها ليوم لقائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فلقد كانت مشكلة البحث عن المعرفة وأدواتها ومصادرها، وما زالت من أهم المشكلات التي تداولها الفلاسفة منذ أقدم العصور حتى الآن، فاختلفت الطريقة التي تناول بها القدامى من الفلاسفة هذه المشكلةَ – حيث اهتموا بالوجود، ونظروا إلى المعرفة من خلاله – عن تلك التي أرادها فلاسفة العصر الحاضر، الذين عكسوا ما كان عليه القدامى، فاهتموا بالمعرفة، ونظَّروا من خلالها للوجود، فاختزلوا الكون في الكون المشهود، وأنكروا الكون المغيب، واختزلوا عالم الإنسان في عالم الشهادة، وأنكروا الحياة الآخرة، بل حتى عالم الشهادة اختزلوه في العلم بالمحسوسات المادية، متجاهلين حيِّز التجربة العقلية، فاختزلوا مصادر المعرفة الصحيحة في الظواهر المادية فقط دون غيرها، وذلك خلافًا للمنهج الإسلامي الذي لا يقف بمصادر المعرفة عند المنهج التجريبي وحده، إنه لا يهمله ولا يغُضُّ من شأنه، ولا من شأن ثمراته المعرفية – فهو أحد إبداعات الحضارة الإسلامية، فيها تَبَلْوَرَ وأعطى ثمراته، قبل أن ينتقل ويتطور لدى الغرب – ولكنه لا يقول بانفراده كسبيل للمعرفة، ولا يرى أنه سبيل للمعرفة القطعية المطلقة.

 

لقد أقرَّ الإسلام بوجود الحقيقة الموضوعية؛ حيث قرر أن للأشياء وجودًا عينيًّا مستقلًّا عما في الذهن، أدركه الإنسان أم عجز عن إدراكه؛ ومن ثَمَّ فإدراك الإنسان للأشياء لا يقتضي وجودها، وعدمه لا يقتضي عدمها، وقسَّم الإسلام الأشياء إلى نوعين:

1- موجودات عالم الطبيعة (الكون المادي أو المحسوس)، التي يسميها القرآن عالم الشهادة؛ وهي ما يحيط بالإنسان في عالم الطبيعة من جماد ونبات، وحيوان وإنسان، ويدركها بحواسِّه.

2- موجودات عالم ما وراء الطبيعة (الكون الغيبي أو غير المحسوس)، والقرآن يسميها عالم الغيب؛ [مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، الزنيدي، ص: 67]، وهو داخل فيما يسمى بالفلسفة الميتافيزيقية، فهو عالم لا يدخل في حدود الكون المادي، الذي يمكن أن ندرك مكوناته بالحواس، ومن هذا العالم: الروح، والملائكة، والجن، واللوح المحفوظ، والجنة، والنار، والعرش… ونحوها، ولها وجودها الثابت في الخارج.

 

وقد بيَّن القرآن استقلال وجود هذه الأشياء عن الإنسان؛ فالسماوات، والأرض، والملائكة، وغيرها كثير، كان كل ذلك موجودًا قبل مجيء الإنسان وظهوره؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، وهذا الخليفة هو الإنسان؛ حيث كانت الأرض والملائكة، وغير ذلك موجودة؛ يقول سبحانه: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 31].

 

فقد علَّم الله سبحانه آدم عليه السلام أشياءَ كانت موجودة، أو ستوجد، علَّمه أسماءها، أو عرَّفه على ذواتها؛ [جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، ص: 482 – 485، وتفسير القرآن العظيم: ابن كثير، ج1، ص 222، 223] على خلاف المفسرين، ثم عرض هذه الأشياء على الملائكة، مما يدل على وجود خارجي مستقل لهذه الذوات.

 

ومنهج الإسلام فيها أن بإمكان الإنسان معرفة كثير من الأشياء والموجودات، إذا ما سلك السبل المؤدية إلى المعرفة، وعلى هذه المعرفة يكون تعامله الصحيح معها، واستفادته منها، وقد جاءت آيات كريمة كثيرة تحث الإنسان على التفكر والتدبر، والنظر من أجل معرفة الأشياء المبثوثة في الكون من حوله، حتى يستفيد منها في حياته المادية، ويستشعر عظمة خالقها ومدبرها ومجريها على سننها الثابتة.

 

وهذا الإمكان للمعرفة شامل للموجودات بنوعيها؛ من عالم الشهادة والغيب، فليست خاصة بالموجودات المادية المحسوسة، بل يدخل في ذلك – أيضًا – موجودات العالم الغيبي؛ إذ إن الله عز وجل أمرنا بأن نؤمن بغيبيات معينة، والإيمان لا يكون إلا من خلال معرفة ما يؤمن به الإنسان.

 

ومن ثَمَّ كانت دائرة البحث في طبيعة المعرفة والعلم في الإسلام أوسع مدى؛ إذ إنه لم يجعل للمعرفة طريقًا واحدًا – كما تفعل كثير من الفلسفات – فهو يفرق بين أنواع مختلفة من المعارف تختلف وسائل تحصيلها؛ فيمكن التفريق بوضوح بين عدد من وسائل المعرفة، كلٌّ يختص بإدراك أنواع مختلفة من المعارف، فمنهج المعرفة فيما يتعلق بعالم الشهادة الانطلاقُ من الإدراكات الحسية للوصول – عن طريق العقل – إلى المعرفة التعميمية التنبُّؤية التي ينتفع بها الإنسان في تطبيقاته العملية في مجال المادة والحياة، ومنهجها فيما يتعلق بعالم الغيب الانطلاق أيضًا من الإدراكات الحسية ليتجاوز عن طريق المبادئ الفطرية في العقل الإطارَ المادي المحدود، إلى العالم الغيبي؛ حيث يتمكن من المعرفة العلمية بالقضايا الكبرى في هذا الميدان؛ كوجود الذات الإلهية، والربوبية، والألوهية، وبعض الصفات، والنبوة، ثم يأخذ منهج المعرفة في هذا الميدان طريقًا آخر هو طريق الإيمان بهذا العالم وموجوداته بعد تلقِّيه من الوحي، عن طريق النبوة التي عرفها معرفة علمية من الطريق السابق؛ أي: إن قضايا الغيب التي جاء بها الوحي ليست خارجة عن إمكان تصور العقل الإنساني، بل إن وظيفة العقل التي يمكنه القيام بها على أتم وجه هي إثبات صحة الوحي، وصدقه كمصدر صحيح لبعض أنواع المعرفة، فإذا أخبر الوحي الصادق بعد ذلك بقضية من قضايا الغيب، أمكن للعقل أن يتصورها، لكنه لا يمكنه البرهنة عليها مباشرة، إلا عن طريق إثبات أن الخبر بها صادق، ولو لم يكن الأمر كذلك، لَما جاء التكليف بالإيمان بها، فإن الله لا يكلف الناس بما هو خارج عن نطاق إدراكهم وتصورهم، وليس في شيء من قضايا الغيب التي جاء بها الوحي ليؤمن بها المؤمنون – ما هو خارج عن قدرة العقل على إدراكه وتصوره، ولكن الواقع أن مسائل الغيب هذه ليست من القضايا التي يمكن إثباتها عن طريق العقل مستقلًّا عن الوحي؛ لكونها خارجة عن نطاق مادته الأولية وهي المحسوسات، فإن العقل إنما يستدل على قضاياه عن طريق إعمال قوانينه على المحسوسات، ومسائل الغيب ليست محسوسة، فهي خارجة عن نطاق عمله لهذا السبب، ولكنها ليست بخارجة عن قدرته التصورية، ولو كان الغيب يمكن أن يأتي بما يحيله العقل لَما صلح لقيام حجة الله على عباده، فإن حجة الله إنما تقوم على العباد بما يقع في نطاق استدلال عقولهم.

 

وجميع هذه الوسائل يمكن ردُّها إلى الله تعالى؛ فهو الذي خلق وركَّب فيها إمكانيات الوصول إلى المعرفة أو هداه إليها، وطلب أن يستخدمها في النفع العام؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78].

 

فتميزت المعرفة الإسلامية من بين نظائرها باعتمادها على أمهات الأصول المعرفية، وانتهاجها أقوى الطرق اليقينية، وبهذا تتكامل المعرفة اليقينية في النظر الشرعي، وقد جمع القرآن بين طرق المعرفة الثلاثة؛ الحواس، والعقل، والوحي، كما جمع بين مجالات المعرفة؛ الغيب والشهادة، في آية واحدة؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ [يوسف: 109].

 

ومن ثَمَّ يتبين بوضوح تفوُّق المنهج الإسلامي على المذاهب الفلسفية التي تميَّزت بطابع النظرة أحادية الجانب، التي تركز على بُعْدٍ واحد من أبعاد الكيان الإنساني على حساب الأبعاد الأخرى؛ فعلى سبيل المثال: قد ظهر كيف يضخِّم المذهب المثالي من جانب الروح على جانب الجسد بكل ثقله، مستهينًا بما يستشعر ذلك الجسد من حاجات، عازلًا الإنسان عما تموج به الحياة، مخرجًا إياه من فطرته التي فطره الله تعالى عليها، وهذا في مقابل المذهب الطبيعي الذي يفعل العكس تمامًا؛ فليس هناك في ظل ذلك المذهب مُثُلٌ عليا يتجه إليها، غير الانسياق وراء ما تمليه عليه الطبيعة، ولا مكان مرموقًا فيه لقُوى العقل، وضوابط الأخلاق، والثغرات نفسها تشكو منها الفلسفة البراجماتية؛ إذ إن إعداد الإنسان عندها هو الإعداد لحياة هادرة يتقلب الإنسان بعنف وراء أمواجها المتلاطمة، دون تحديد لقواعد ثابتة، يتم الرجوع إليها، وللكمال الذي يأوي إليه، وهذا على خلاف التصور الإسلامي للموقف المعرفي الذي يلتقي جزئيًّا مع بعض المذاهب السابقة في تفسيرها للموقف المعرفي، وقد يختلف أيضًا معها أو مع بعضها، وهذا أمر طبيعي؛ فإن حديث الإنسان عن الموقف المعرفي – مهما علا شأنه – لا بد أن يحمل معه طابع هذا الإنسان، ولون ثقافته، ومذهبه الفكري، كما يعبر عن وجهة نظره التي تأثر بها وانحاز إليها، وهذا الخلاف يفسر تعدد وجهات النظر الفلسفية حول الموقف المعرفي بكامله، ومن ثَمَّ يفسر الفوارق الأساسية بين الحضارات الإنسانية من عصر إلى عصر، ومن بيئة ثقافية إلى أخرى.

 

فالحضارات الإنسانية تستمد أصولها وأهدافها ومقاصدها في الموقف المعرفي، من وجهة نظر الإنسان التي تحمل معها طابعه ولون ثقافته، وعوامل بيئته الزمانية والمكانية، أما الحضارة الإسلامية، فإنها تستمد أصولها وغايتها ومقاصدها المعرفية من الوحي المنزَّه عن التأثُّر بوجهات النظر الإنسانية، المتعالي على عوامل الزمان والمكان، ومن ثَمَّ فإن وظيفة الإنسان في الموقف المعرفي ليست مرتبطة بتحقيق غايته وأهدافه الشخصية، بقدر ما هي مرتبطة بتحقيق أهداف الوحي ومقاصده.

 

إن أهداف الإنسان ومقاصده من المعرفة عُرْضَةٌ للاقتصار على تحقيق مطالبه، ومقاصده، وأهوائه، حتى لو كان ذلك على رقاب الآخرين ومقاصدهم، أما أهداف الوحي ومقاصده فهي تحقيق الخير لكل بني الإنسان، وتوظيف المعرفة لصالح البشرية أجمعها، مؤمنين كانوا أو كافرين، بخلاف المذاهب الفلسفية الأخرى، فإن مقاصدها خاصة، وغاياتها قاصرة على أتباعها فقط؛ [الوحي والإنسان، قراءة معرفية، محمد السيد الجليند، ص: 140، 141]؛ قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].

 

ففي تصور الإسلام لقضية المعرفة ومقاصدها، نجد الإنسان مؤتمنًا على هذا الكون، مكلفًا بعمارته، مطالبًا باكتشاف قوانينه، كما هو مكلَّف بتوظيف العلم والمعرفة حسب هَدْي الوحي، وليس وفقًا لأهواء العلماء ومقاصدهم، يوظِّف الكون لتحقيق خير الإنسان عامة، وليس لتحقيق أهداف شخصية قاصرة؛ ولهذا نجد أن التصور الإسلامي تجاوز ذلك التخبُّط الرهيب الذي ظل يلاحق النظريات الغربية، فهو يتعامل مع الإنسان على بصيرة بمكوناته كلها، دون إغفال إحداها لصالح الأخرى؛ إذ إن ذلك الإغفال هو مدخل الخلل في الكيان البشري، وانعدام التوازن فيه.

 

إن الإسلام بنظرته الشاملة للكون والإنسان والمجتمع، تميَّز في المعرفة بين مجال يرتاض فيه الإنسان بطاقاته العقلية، ويصل فيه إلى اكتشاف حقائق وأسرار، وهو مجال الطبيعة الفسيح، ومجال ما وراء الطبيعة الذي لا قِبَلَ للإنسان بمعرفته، إلا عن طريق الوحي الإلهي؛ أي عن طريق الدين الصحيح؛ ولهذا نجد أن الفلسفة والفلاسفة الذين اعتمدوا في عالم ما وراء الطبيعة على مصادرَ أخرى غير الوحي، لم يستطيعوا تحقيق أي شيء، على الرغم من التراث الفلسفي الكبير الذي قدموه – من الناحية الكمية – ومع ذلك لم يستطيعوا حتى هذا اليوم الوصول إلى الحقيقة الطبيعية بما يسُدُّ الفطرة، ويروي ظمأها، ومن ثَمَّ، عجزت الفلسفة عن الإنتاج المطلوب في هذا الميدان، فاعتبرت البحث في عالم ما وراء الطبيعة لغوًا لا فائدة من ورائه، ولا معرفة فيه.

 

وفضلًا عن هذا، فإن تاريخ الفلسفة قد أثبت أن الفلاسفة لم يتفقوا على شيء من تلك المسائل، كما هو الحاصل بالنسبة للعلم الطبيعي؛ [مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، الزنيدي، مصدر سابق، ص: 196 – 198]، بخلاف الوحي الذي تطرق لجميع موضوعات عالم ما وراء الطبيعة، موضحًا ما يحتاجه الإنسان بشأنها، بيانًا لواقعها أو غايتها، أو علاقة الإنسان بها، وتُمثِّل هذه المباحث جزءًا كبيرًا من الوحي، وتحتل مركز الثقل فيه، بصفتها القاعدة التي تقوم عليها حياة المسلم كلها، فما من مسألة من المسائل الكلامية والفلسفية التي خاض فيها الخائضون في العصور التالية، إلا وكانت أُوضِحَت في القرآن، فقد أمدَّ المسلمين بتقريرات وبيانات عن الذات الإلهية، وصفاتها، ومسائل التوحيد، والنبوات، واليوم الآخر، والإنسان بدء خلقه ومصيره، موقفه من الكون… وعدة حقائق من عالم الغيب؛ كالملائكة والجن؛ [قواعد المنهج السلفي، مصطفى حلمي، ص: 41]، وقد راعى الوحي في ذلك الطبيعة البشرية المتلقية لهذه المسائل؛ من حيث قدرتها على إدراكها وفهمها، ومن حيث حاجتها في أمور دينها ودنياها.

 

وختامًا، فإن ما يتطلع إليه البشر من الصيغة الْمُثلى للمعرفة، من حيث ارتكازها على الحقائق اليقينية، وما لا يعتريه أي نقص أو قصور في المصدر، لا يمكن أن يتحقق إلا بالمنهج الإلهي الذي جاء بالحكم الفصل في كل قضايا الإنسان والوجود؛ ليقود حركة الحياة بدقةٍ وضبطٍ ونظامٍ؛ وعلى هذا فإن المعرفة التي تفتقدها الإنسانية بحقٍّ هي تلك التي تُستمَدُّ من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي هذه المعرفة وحدها – مضمونًا ومصدرًا ومنهجًا – الأجوبة الشافية الوافية لأسئلةٍ كثيرةٍ، حار الإنسان فيها زمنًا طويلًا، وفيها وحدها كذلك الحلول الحاسمة لكل ما يعترض الفكر البشري من مشكلات في تفسير الوجود والحياة والإنسان؛ مصداقًا لقول الله عز وجل: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].

 

يتبع بإذن الله…





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى