Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

المسيح ابن مريم عليه السلام (3)


المسيح ابن مريم عليه السلام (3)

 

ذكرتُ في ختامِ الفصل السابق أن مريم عندما وضعت المسيح عليه السلام ناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًّا، وقد قرئ في السبعة بفتح الميم (مَنْ) وكسرها، أي قرئ: (فناداها مَن تَحتَهَا)، وقرئ: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 24 – 26]، والذي نادى مريم هو جبريلُ عليه السلام، وكان في مكانٍ أسفل منها، وقيل: هو عيسى عليه السلام، والأول أظهر، والسَّرِي هو النهر، قال في المصباح: السري: الجدول؛ وهو النهر الصغير، وقال في الصحاح في السَّري: نهر صغير كالجدول، وقال في القاموس المحيط: وكغني، نهر صغير يجري إلى النخل، قيل: وسمي النهر سريًّا؛ لأن الماء يسري فيه، وقيل: المراد بالسري هنا هو السيد الشريف، والمراد به عيسى عليه السلام، قال ابن كثير رحمه الله: والصحيح الأول؛ لقوله: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، فذكر الطعام والشراب؛ ولهذا قال: ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ﴾؛ اهـ.

 

وفي قوله تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25] دليلٌ على أنه ينبغي للإنسان الصالح أن يأخذ بالأسباب مع توكُّلِه على الله ولا يتواكل، وقد أُمِرت مريم بهزِّ جذع النخلة مع ما هي فيه من حالة النفاس والولادة؛ لما يجلبه لها ذلك من نسيان أحزانها وآلامها التي تتوقعها من ملاقاة قومها؛ علمًا بأن الله كان يسوق لها الرزق في أوَّلِ حياتها من غير سبب، كما أن قدرتها على هزِّ الجذع محدودة، فعليها أن تهزَّ الجذع وعلى الله إسقاط الرطب.

 

ومعنى قوله: ﴿ وَقَرِّي عَيْنًا ﴾ [مريم: 26]؛ أي: طيبي نفسًا، فلا تجعلي للحزن إلى نفسك سبيلًا، وأمرها كذلك أنها إذا رأت بشرًا تمتنع عن الكلام وتفهمه بالإشارة أو نحوها أنها نذرت للرحمن صومًا؛ أي: إمساكًا عن الكلام، فلن تكلم اليوم إنسيًّا، فاطمأنَّ خاطرُها، وأكلت مِن الرطب الجني، وشربت من السري، وقرَّت عينها بمولودها، فجاءت به إلى قومها وهي تحمله، فلما رأوها تحمله وعليها آثار وضعه قالوا: يا مريم، لقد ارتكبت أمرًا منكرًا فظيعًا، وفعلتِ فاحشة بشعة، كيف ترتكبين جريمة الزنا يا أخت هارون، وأنت ابنة عمران الصالح، وأمك كانت من الصالحات؟! وقولهم لها: يا أخت هارون، يحتمل أنه كان رجلًا صالحًا في زمانها من أهلها، وكانت تُشبَّه به في الصلاح والعبادة قبل مجيئها بعيسى، أو أنه كان رجلًا فاسدًا معروفًا لديهم بالانحراف فشبهوها به، والظاهر الأول؛ لما رواه مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون؟ يا أخت هارون، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فَرُحْتُ فَذَكَرْتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم؟))، وهذه الشبهة الداحضة التي أثارها بعضُ نصارى نجران ونسب إلى محمد بن كعب القرظي الإسرائيلي أنه زعم أنَّ مريم أم المسيح هي أخت موسى وهارون عليه السلام، وهذا مِن أفحش الخطأ الذي نسب إلى محمد بن كعب القرظي، ولا يزال يشبه بها بعض أعداء الإسلام على بعض الأغرار في بعض البلدان المحاربة للإسلام إلى اليوم.

 

ولما أشارت مريم إلى طفلها المسيحِ عليه السلام ازدادوا استغرابًا واستنكارًا، وقالوا لمريم: كيف نكلِّمُ مَن كان في المهدِ صبيًّا؟ فنطق عيسى عليه السلام وتكلَّم بما يقطع ألسنة أعداء الله وأعداء المرسلين، وقال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ [مريم: 30]؛ أي: قضى وحكم بأن ينزل عليَّ الإنجيل ﴿ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30 – 33].

 

فَأَقَرَّ بالعبوديَّة لله وحدَه ونزَّه جنابَ الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله، بل هو عبده ورسوله وابن أمته البتول الطيبة الطاهرة، وبرَّأ أمه مما نسبها إليه الحاقدون والجاهلون وقذفوها به؛ إذ كان نطقُه وجوابُه تبرئة لها من كلِّ بهتان.

 

وفي قصة حمل مريم بالمسيح عليه السلام وولادته يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [آل عمران: 45 – 49].

 

وقال تعالى في سورة مريم: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 16 – 33].

 

ويقول تعالى في سورة الأنبياء: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91].

 

ويقول تعالى في سورة التحريم: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12].

 

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى