التاريخ الإسلامي

محمود شاكر (شيخ العربية) (4)


محمود شاكر (شيخ العربية) (4)

عروبته

عاش محمود شاكر حياته بشكل عروبيٍّ كامل، لم يقتصر على اللسان والقلم، بل بسلوك العربي ومِزاجه، شامخًا عصيًّا على الانكسار، العروبة بمعناها الشامل، وحياته كلها ناطقة بذلك.

 

يأتيه الإذاعي الشهير أحمد فرَّاج ومعه مخرج وإذاعي آخر لإنتاج فيلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، يمسك الرجل بالأوراق، وما أن تقع عيناه على الصفحة الأولى إلا ويلقي بها على الطاولة وهو يقول: كلام فارغ.

 

تعجب أحمد فراج، وقال: تعلَّمنا منك يا أستاذنا ألَّا نحكم على الأشياء قبل أن نحيط بها علمًا.

 

كان شاكر قد قرأ في الصفحة الأولى حوارًا متخيلًا بين رجلين يقول أحدهما للآخر: يا سيدي، فقال شاكر: هاتِ لي أحدًا يعرف العرب وقرأ تاريخها يُوجِد لي عربيًّا في ذلك الزمان يقول للآخر: يا سيدي.

 

سافر إلى بريطانيا مع ابنته زلفى، وكان هناك طبيب يتحدث الإنجليزية، وشاكر يتقن اللغة كأهلها، يكفي الإشارة إلى أنه ترجم قصائد بعض الشعراء الإنجليز وأوسكار وايلد، وقرأ شكسبير بلغته، وعلى الرغم من ذلك استمسك بالحديث إلى الطبيب بالعربية، وجعل بينهما مترجمًا يترجم عنه.

 

وهـذا نللينو، المستشرق الإيطالي المعـروف، يجلس إليه، يتحدثان معًا، وكان ممـا قـالـه لـه نللينـو: لماذا لا تأتي إلى إيطاليـا يـا أستاذ محمود؛ لتكـون أستاذ كرسي الأدب في جامعاتها، تدرس فيهـا الطلبـة وتلقى منا كل تقدير واحترام؟ فنظر إليه محمود محمد شاكر قائلًا: أنا؟! أنا لا أدخل بلادكم إلا غازيًـا.

 

كما طُبع على سخاء العرب، هذا الكرم الذي جعل بيته فندقًا ومكتبة ومنتدى، يقصِده القاصدون من شتى بقاع العالم العربي والإسلامي؛ موائد في حالة وضع ورفع متكرر، على وفق حال القادم، وظروفه التي قد تستدعي طعامًا معينًا وفي وقت محدد، ومشروبات متعددة باختلاف أذواق الجلوس، وأسِرَّة مُعَدَّة للقادم الذي لا ينقطع ويحتاج للراحة، وخلف هذا الجوِّ الْمُفْعَمِ بروح حائم الطائي تقف زوجته – أم فِهر – بكل حبٍّ وودٍّ على خدمة الضيوف، وليسوا كما قد يظن البعض بأنهم “أكلة رأس” ولا حتى بضع ضيوف، إنهم يمثلون في الغالب عشرات، وقد يصلون إلى مائة.

 

ولأن العربي لا يقبل الضَّيم، ولا يرضى الدُّون؛ فلم يرتضِه لأحدٍ من جلسائه، بقطع النظر عن موضعه الاجتماعي، يجلس على مائدته حلاقه مع الوزير!

 

جلس على مائدته يومًا: محمـد رشـاد مـهنـا، والشيخ أحمـد حسـن الباقوري، ومحمـد فـؤاد جلال، وكان يجلس على المائدة نفسها الأسطى أنور الحلاق، وفي صباح اليـوم التالي اتصل به الشيخ الباقوري وقال له: إن محمـد فـؤاد جلال – وكان وزيرًا للشؤون الاجتماعيـة – عايـب عليـك لـوجـود الأسـطـى أنـور بيننا.

 

وانتظر شاكر حتى كان لقاؤه في الجمعة التاليـة بمحـمـد فـؤاد جـلال، فقال شاكر له: اسمع يـا فـؤاد، أنـت وزيـر هـنـاك في مجلـس الـوزراء، ولكنـك هـنـا في بيتـي واحـد مـن عـامـة النـاس، مثلـك مثـل الأسـطـى أنـور وغيره.

 

أخذ من العربي شهامته في نجدة مَن استنجد به، وقد عرَف المحيطون به هذا النُّبل فدخلوا إليه من خلاله، إذا أُغلقت دونهم أبوابه.

 

ولطالما عُرضت عليه لقاءات إذاعية ومتلفزة، وهو مُعرِض عنها؛ فيأتيه الإعلامي أحمد فرَّاج عبر الهاتف بادئًا كلامه: “أستاذنا… أنا محتاج لك”.

 

فيرد بود: “خير؟ اؤمرني”.

 

فيقول أحمد فراج: “أريد فقط من حضرتك عشر دقائق للإذاعة”.

 

فيرد عليه: “حاضر، موافق”.

 

ولأن الرجل حفِظ المتنبي في طفولته، وضمَّن ما احتواه من قِيَمٍ عربية في ضميره، فقد كان منقادًا في تصرفاته حيال الآخرين ببيت أبي الطبيب:

وقيَّدتُ نفسي في ذُراك محبة
ومَن وَجَدَ الإحسانَ قَيدًا تقيَّدا

يضعف بصره ويصبح مهددًا بفقده وإصابته بالعمى فيرحـل إلى الأندلس، على نفقة الأمير نايف بن عبدالعزيز، ويمُنُّ الله عليه بالشفاء، فيكتب: “وأما الرجـل الـذي أجرى الله على يديـه لطفه بي، واستنقذني بمروءتـه مـن العمى، وحاطني حتى عـدت بصيرًا، فإني لا أملك لـه جـزاء إلا الإقرار بفضله، وإلا الدعـاء لـه كـلـما أصبحتُ وأمسيت، صديق لا تنام صداقتـه عـن أصحابه، ورجـل لا تغفـل مروءتـه عـن غـيـر أصحابه، ثـم هـو بعـد غـنـي عـن اللقب بمكارم أخلاقه، وفـوق كل لقب بساحة شِيَمه: نايـف بـن عبدالعزيـز آل سعود، لم يَزَل مـنـذ عرفتـه قـديـمًـا، يزداد جوهره على تقادم الأيـام شـنًّا وسناء، صرحت بذكر اسمه مطيعًا لما يرضيني، عاصيًا لما يرضيه”.

 

و​في عام 1936 كانت مسافة المدنية والتحضر بين مصر والمملكة العربية السعودية كما هي الآن بين الشرق والغرب، كانت القاهرة في ذلك الزمان الوجهة الأم لكل مثقف ومستنير، فيأتي خلاف محمود شاكر مع أستاذه، فيضطر إلى أن يستدبر تلك الوجهة موليًا وجهه شطر جدة بالمملكة العربية السعودية، غير عابئ بهالات الأضواء التي كانت تغطي سماء القاهرة، مُفضِّلًا عليها هدأة الصحراء وراحة النفس.

 

إنسانية شاكر وعاطفته الجياشة:

على الرغم مما قلناه عن الشيخ شاكر من صلابته وثورته التي لا تهدأ حتى تقوم، فإنه كان يحمل بين جنبيه قلبَ طفلٍ.

 

قال عنه د. عبداللطيـف عبدالحليم: “إن محمود شاكر يشبه جوز الهند؛ يرتدي معطفًـا قاسيًا صلبًا في خارجها، بينما هي طيبة هيئة عامرة باللين والحنـان، والرحمة والطفولة في أعماقهـا”.

 

كان في بيته قِطٌّ – له مكان ومكانة، لا سيما عند زوجته – وكانت تنتاب هذا القط نوباتُ صرع، ثم سرعان ما تُقلع عنه، وبعدها يخلُد للنوم، وفي إحدى الليالي داهم الصَّرَعُ القط، وكان وقتئذٍ على سرير شاكر، ثم نام حيث صُرع، فلما أقبل الرجل ليدخل في سرير، وجد القط نائمًا، فهمَّت زوجته بنقل القط من السرير، لكنه قال لها: لا تزعجيه، سأنام على الأرض.

 

ويـوم أن كان يزور مكـة مـن بعـد، فيأوي إلى بيت صاحبـه وتلميذه أبي محمـد محمـود الطناحي – فقد كان يدرس في جامعة أم القرى – كان شاكر يأبى النـوم عـلى السرير ويفترش الأرض، رهبـة مـن جـوار الحـرم، ومضاعفة الآثـام فـيـه؛ مرددًا قولـه تعـالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].

 

وكان شاكر رجَّاعًا إلى الحقِّ بغير امتعاض ولا كِبرٍ؛ وقع في خطأ في كتابه “طبقات فحول الشعراء”، فجاءته رسالة من المستشرق الإسرائيلي مائير قسطـر يصحح له هذا الخطأ؛ فكتب يقول: “كنتُ أخطأتُ بيان ذلك في طبعتي السالفة من الطبقات، فجاءتْنِي مِن الأرض المُقدَّسةِ التي دنَّستْها يهود رسالةٌ رقيقةٌ من (م. ي. قسطر)، فدلَّني على الصواب الذي ذكرتُه آنفًا، فمن أمانة العِلم أذكرُه شاكِرًا كارهًا لهذا الذِّكْر”.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى