Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

المسيح ابن مريم عليه السلام (1)


المسيح ابن مريم عليه السلام

 

نتحدَّثُ إليكم عن عبدِ اللهِ ونبيِّه ورسوله، وأحد أولي العزم من المرسلين، المسيح عيسى ابن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، العبد المنعم عليه، المجعول مثلًا لبني إسرائيل، المخلوق من غير أب، الآية ابن الآية عليه الصلاة والسلام، ولما كانت اليهود والنصارى قد ضَلُّوا في المسيح ضلالًا كبيرًا، فادَّعت اليهود أنه ولد زنا، وأن أمَّه زانية، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، كما أن النصارى أفرطوا فيه فجعلوه ابنًا لله، واتخذوه وأمَّه إلهين من دون الله، وجاؤوا بقولٍ ﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 90 – 93]؛ لذلك بسط الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم قصَّةَ ولادة أمه مريم العذراء البتول، الطيبة الطاهرة، سيدة نساء العالمين، فذكر ما كان من أمها عندما حملت بها، وأنها نذرت لله ما في بطنها محرَّرًا، أي: خالصًا مفرغًا للعبادة وخدمة بيت المقدس، وقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35]، فلما ولدت، ورأت أن مولودَها أنثى توجَّعتْ لفواتِ مقصودها؛ حيث إن الأنثى لم تجرِ العادة عندهم أن تتفرَّغ لخدمة بيت المقدس، فأظهرت ضراعتها لله، وقالت: رب إني وضعتها أنثى، والأنثى ليست كالذكر في خدمة بيت المقدس، مع يقينها أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، وأنه يعلم ما وضعت، وقد سمَّتْها مريم، وطلبت من الله أن يعصمها ويحرسها ويحفظها ويصونها هي وذريتها من الشيطان الرجيم، وقد تقبل الله تبارك وتعالى من أم مريم بقبول حسن كريم وأنبت مريم نباتًا حسنًا كريمًا.

 

وقد كان عمرانُ والد مريم الذي سمِّيتْ سورة من القرآن العظيم باسم آله، وهي سورة آل عمران، وليس له من آلٍ سوى مريم وابنها المسيح عليه السلام – قد كان عمران هذا موصوفًا بالتقوى في بني إسرائيل، ومحبوبًا لدى كبرائهم، كما كانت زوجته أم مريم كذلك، وقد أشاد الله تعالى بذكرهم في الصالحين حيث قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 33، 34]، ونظرًا لموت عمران هذا وحاجة مريم إلى من يقوم بكفالتها بعد أبيها، وقد ألقى الله محبَّتها في قلب كلِّ من رآها، فرغب كلُّ واحد من كبراء بني إسرائيل في القيام بكفالتها، وتنازعوا في ذلك حتى اقترعوا أيُّهم يكفل مريم، وكفلها الله تبارك وتعالى نبي بني إسرائيل وقتئذٍ وهو زكريا عليه السلام، وكان زوجًا لأختها أو خالتها؛ فخرج السهم في الاقتراع له، فأمسكها في قصره، وجعلها تحت عنايته ورعايته، وقد لاحظ زكريا عليه السلام أنه كلما دخل عليها القصر وجد عندها ألوانًا من الرزق لم يجلبها لها، ولا علم له بمصدرها، فاستغرب ذلك وخاطبها قائلًا: ﴿ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾؟ أي: من أين جاءك هذا الرزق؟ ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، ولما اكتملت أنوثة مريم في طهارة وعفاف، وعبادة واستقامة، خاطبتها الملائكة لتثبيتها على أعلى درجات السلوك، وقالت لها: ﴿ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾ [آل عمران: 42، 43]؛ أي: أديمي الخشوعَ له، واثبتي على طاعته، واسجدي واركعي له لتندرجي في سلك عبادِه الصالحين القانتين الراكعين الساجدين.

 

وقد ذكرتُ في الفصل الرابع والأربعين من هذا الكتاب أنه لا يلزم من مجيء الملك لعبدٍ من عباد الله الصالحين أن يكون نبيًّا أو رسولًا، عند الكلام على معنى الوحي في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، وضربْتُ لذلك مثلًا بما ورد في الحديث المتفق عليه عند الشيخين البخاري ومسلم في قصة الأعمى والأقرع والأبرص ومجيء الملك إلى كلِّ واحدٍ منهم، كما سُقت الحديثَ الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي زار أخًا له في الله، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكًا… إلخ الحديث.

 

وبيَّنْتُ أن من هذا النوع مخاطبة الملائكة لمريم أم المسيح عليه السلام، وفي قصة ميلاد مريم ونشأتها يقول الله تبارك وتعالى:

﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 35 – 37].

 

وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 42 – 44].

 

وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود يولد إلا مسَّه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا من مسِّ الشيطان إياه إلا مريم وابنها))، ثم يقول أبو هريرة: “اقرؤوا إن شئتم ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]”، وفي لفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود يولد إلا نَخَسَه الشيطان فيستهلُّ صارخًا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه))، ثم قال أبو هريرة: “اقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾”، وفي لفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ بني آدم يمسُّه الشيطان يومَ ولدته أمه إلا مريم وابنها)).

 

وقد وَصَفَ الله تبارك وتعالى مريمَ بنت عمران بأنها صِدِّيقَة؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75]، وفي قوله تعالى: ﴿ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ إشارة إلى بشريتهما وأنهما ليسا إلهين؛ فالذي يأكل الطعام من شأنه أن يبول ويتغوط، ومن كانت هذه حاله لا يليق بعاقل أن يجعله إلهًا، وقد جمع الله تبارك وتعالى في هذه الجملة الكريمة أشرف ما لعيسى وأمه من نعوتِ الكمال البشري؛ إذ أثبت لعيسى الرسالة ولأمِّه الصِّدِّيقيَّة، ثم ذكر الوصف المشترك بينهما وبين جميع أفراد البشر من أنهما يأكلان الطعام.

 

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى