Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

قراءة لكتاب “السنن الإلهية في الخلق” لمؤلفه: عبدالحميد محمود طهماز


قراءة لكتاب “السنن الإلهية في الخلق” (1)

لمؤلفه: عبدالحميد محمود طهماز

لله – تعالى – في خلقه سُننٌ تدلُّ على عظيم قدرته وحكمته، كما تدلُّ على كمال مشيئته ونَفاذِها في كلِّ ذرَّة من ذرَّات الموجودات، وقد ذَكر – تعالى – بعضَ هذه السنن في سياق الآيات التي تحدَّثَت عن بعض أحداث التاريخ وتجارِب الأمم السالفة؛ كي نتَّعظ بذِكْرها وبصماتها الباقية الواضحة.

 

والسنة الكونية: هي الطريقة المسْلُوكة العامة الشاملة من الكون، والمراد به جميع المكونات التي أخرجها الله – تعالى – من العَدَم إلى الوجود.

 

وقد جاء ذِكر بعض هذه السُّنن في آيات قرآنية كثيرة، منها قولُه – تعالى -: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137]، وقولُه – تعالى -: ﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ ﴾ [الأنفال: 38].

 

وقولُه – تعالى -: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 60 – 62].

 

وقولُه – عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 84 – 85]، وغيرها من الآيات.

 

كما دلَّ على وجود هذه السننِ آياتُ اللهِ الكونيةُ المبثوثة حولنا، وشواهِدُ تاريخ الوجود البشري على الأرض.

 

وسنن الله – تعالى – ثابتة باقية، لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، كما سبق بها علم الله – تعالى – وتعلَّقَت به مشيئته، وقد تتغيَّر سُنة من سنن الله الكونية بمشيئته – تعالى – وحكمته، كما في خروج الشمس من مغربها قبل قيام الساعة.

 

من سنن الله – تعالى – في خلقه (الدنيا دار ابتلاء وفناء):

قرَّر – سبحانه – ذلك في قوله – تعالى -: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [لملك: 2]، وأكَّده – تعالى – في قوله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [هود: 7].

 

وابتلاؤه – سبحانه وتعالى – لعباده يكون بالخير تارةً، وبالشرِّ تارةً، بالشدَّة والرَّخاء، بالصِّحة والسقم، بالغِنَى والفقر، بالحلال والحرام، بالطاعة والمعصية، كما قال – تعالى -: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، وفي هذه الآية العظيمة تتجلى وحدانية الله – عزَّ وجلَّ – الحي الذي لا يموت، وكلُّ مَن سواه إلى فناء.

 

من سنن الله – تعالى – في خلقه (التكليف تشريف):

جعل – سبحانه – أساسَ الابتلاء تكليفَ العباد بطاعتِه وعِمارةِ الأرض، وجعل هذا التكليفَ تشريفًا لمن يقوم به؛ إذ يحقِّق الإنسان بطاعة الله عبوديته له – سبحانه – التي هي أعظم تشريف وكمال يناله المرء؛ ولذا قال ربُّنا في أكمل الخلق؛ الأنبياء: ﴿ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ص: 47]، وأثنى – تعالى – عليهم بقوله: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90]، ولهذا كان يقوم – صلَّى الله عليه وسلَّم – من الليل حتى تَرِمَ قدماه، ثم يقول: ((أفلا أكون عبدًا شَكورًا))؛ رواه البخاري.

 

ووصف الله – تعالى – نبيَّه – صلَّى الله عليه وسلَّم – بصفة العبودية في أعلى المقامات، مقامِ الدَّعوة إليه، فقال: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 19]، كما وصفه بها في مقام التكريم؛ مقام الإسراء، فقال: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى ﴾ [الإسراء: 1]، وبنفس الوصف في مقام المعراج فوق السموات السبع، فقال – تعالى -: ﴿ وَهُوَ بِالأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 7 – 10].

 

وعموم التكليف شامل وعامٌّ للثقلَين، كما أعلَنَ – تبارك وتعالى – منذ فجْرِ الوجود البشري، عندما هبط الأبوانِ إلى الأرض، فقال – تعالى -: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 38 – 39].

 

من سنن الله – تعالى – في خلقه (آجال الأمم والحضارات):

وكما جعل الله – تعالى – أجلاً لكلِّ فرد حيٍّ تنتهي به حياتُه الدنيا، كذلك جعل – سبحانه – للأمم والحضارات آجالاً تنتهي إليها، وتسقط في نهايتها؛ قال – تعالى -: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس: 49].

 

فلِحَركة التاريخ الجماعي للأمم سننٌ كثيرة دقيقة تسير عليها، قدَّرَها الحكيم العليم، لا تقصر الأمم عنها ولا تتجاوزها، وهذه السُّنة من سنة التَّداول للأيام بين الأمم والحضارات؛ كما قال – تعالى -: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140].

 

وهذه السنة من كمال قدرة الله على خلقه، وظهوره عليهم بأقداره وحكمته، كما قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((حقٌّ على الله ألاَّ يَرتفع شيءٌ مِن هذه الدنيا إلا وَضَعه))؛ رواه البخاري.

 

من سنن الله – تعالى – في خلقه (التكليف الجماعي والإهلاك الجماعي):

ومن سننه – تعالى – التي جعلها سببًا لإهلاك الأمم وسقوط حضارتها، أنه قدَّر أن تكون المسؤوليةُ في الحياة الدنيا عن التزام أحكام دينه جماعية، أما المسؤولية يوم القيامة ففردية.

 

ولهذا جاء الخطاب في قوله – تعالى – في صدر سورة الأعراف، التي بيَّن فيها أسباب هلاك الأمم، جاء الخطاب خطابًا جماعيًّا: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3]، ثمَّ أعلَمَنا – تعالى – عقب هذه الآية بكثرة المجتمعات البشرية التي أهلكها ودمَّرها؛ بسبب إعراضهم عن اتباع ما شرع وأمر، فقال – عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 4 – 5].

 

من سنن الله – تعالى – في خلقه (شؤم المعاصي):

المعاصي إذا انتشرتْ في مجتمع من المجتمعات، قد يمتدُّ شُؤْمُها إلى جميع أفراد المجتمع، فيعمُّهم العقاب الرباني؛ كما قال – تعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25].

 

وكما ورد في حديث زينب بنت جحش – رضي الله عنها – أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلَّم – دَخَل عليها فزِعًا يقول: ((لا إله إلا الله، ويْلٌ للعَرَب مِن شرٍّ قد اقترب، فُتِح اليومَ مِن رَدْم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه)) وحلَّق بإصبَعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثُر الخَبَث))؛ أخرجه البخاري.

 

وقد بيَّن ذلك – صلَّى الله عليه وسلَّم – في المثَلِ الرائع الذي ضرَبه؛ تحذيرًا لأمته من شؤم المعاصي وعواقبها الوخيمة على جميع أبناء المجتمع، فقال: ((مثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمَثل قوم استَهَموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلها إذا استَقَوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرَقْنا في نصيبنا خرْقًا ولم نُؤْذِ مَن فوقنا؟ فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوا ونجوا جميعًا))؛ أخرجه البخاري من حديث النُّعْمان بن بَشير.

 

من سنن الله – تعالى – في خلقه (الناجون من العقاب الجماعي):

الناجُون من عقاب الله الجماعي للأمم والمجتمعات المُعرِضة عن دينه، هم الرُّسل وأتباعهم ممن أَمروا بالمعروف ونَهوا عن المنكر؛ كما قال – تعالى -: ﴿ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 102 – 103].

 

وأتباع الرسل هم كلُّ مَن سار على نَهْجهم في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، وهم البقِيَّة الباقية بعد المجتمَعات الهالكة، والحضارات المنقرِضة الساقطة، الذين قال الله فيهم: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 116 – 117].

 

وللحديث بقية إن شاء الله – تعالى.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى