Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

أسماء بنت عميس.. بطولة رائدة، ونموذج يحتذى


من سِيَرِ السابقات إلى الإسلام

أسماء بنت عميس… بطولة رائدة، ونموذج يُحتذى

حين أشرق نور الدعوة في أرجاء مكة، كانت الدعوة تنتشر انتشارًا بطيئًا لا يكاد يُرى، وكان الداخلون قلة قليلة في سنوات الدعوة الأولى، ولم يكن قاصرًا على الرجال، بل دخل في الإسلام في سنواته الأولى نساء كريمات، كانت لهن يد طُولى في بلوغ الدعوة مستقرَّها، كان منهن أسماء بنت عميس رضي الله عنها، الجليلة الماجدة التي كانت ضمن السابقين الأولين من المسلمين.

 

لم يحدد المؤرخون على وجه الجزم العامَ الذي أسلمت فيه أسماء رضي الله عنها، ولكن يقولون: إنها أسلمت قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، الذي كان عامَ أربعة من البعثة، فإسلامها كان مبكرًا.

 

لم يكَدْ أمر الدعوة تتواتر أخباره بين أهل مكة، إلا وبدأ التضييق على أهل الدعوة الجدد بالتعذيب، الذي وصل أحيانًا للقتل.

 

الهجرة إلى الحبشة:

مع اشتداد التضييق والتعذيب الذي مارسه كفار مكة على المؤمنين بالدعوة، أذِن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، كانت أسماء رضي الله عنها ضمن هؤلاء مع زوجها جعفر رضي الله عنه.

 

كان وجود أسماء رضي الله عنها مع زوجها جعفر رضي الله عنه هو الفصل الأول في حياتها، فهي بلاد غريبة في طِباع أهلها ولغتهم ودينهم، هذا مع محاولات كفار مكة مع النجاشي لاستعادتهم من هناك.

 

العودة من الهجرة:

استوت الدعوة على سُوقِها، واستقر المسلمون في المدينة آمنين، وجاء المهاجرون من الحبشة وصادف يوم فتح خيبر، واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين بفرح شديد؛ حتى إنه قال: ((ما أدري بأيهما أنا أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر))[1].

 

وهنا بدأ فصل آخر في حياة أسماء رضي الله عنها، فلم يمضِ عام على قدوم مهاجري الحبشة، حتى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب، ضمن قادة جيش مؤتة، وهناك لقِيَ ربه شهيدًا، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم بيته بعد أن اطَّلع على مكنون الأمر، وطلب أبناء جعفر، ثم ذرفت عيناه، فسألته أسماء عن الخبر، وعلمت بوفاة زوجها، فأخذت تصيح حتى اجتمع النسوة عليها، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فقال: ((لا تُغفِلوا آل جعفر أن تصنعوا لهم طعامًا؛ فإنهم قد شُغلوا بأمر صاحبهم))[2].

 

لقد كانت أسماء نعم الزوجة لجعفر، ففي يوم فتح مكة، أخذ عليٌّ رضي الله عنه ابنة عمه حمزة، ليضمها لأولاده الصغار، وما إن ذهب للمدينة حتى انبرى له جعفر أخوه وزيد بن حارثة يريدان أخذ الصغيرة منه، قال جعفر له: ابنة عمي وخالتها عندي – يعني أسماء بنت عميس – وقال زيد: ابنة أخي، وكان الرسول قد آخى بينه وبين حمزة رضي الله عنهما، لكن عليًّا قال: أنا أخذتها، وهي ابنة عمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما أنت يا جعفر، فأشبهت خُلُقي وخَلْقي، وأما أنت يا علي، فمني وأنا منك، وأما أنت يا زيد، فأخونا ومولانا، والجارية عند خالتها، فإن الخالة والدة))[3].

 

وهو نموذج فذٌّ للخصومة في أبهى صورها؛ إذ يتخاصم الجمع في كفالة صغير، ولولا ثقة جعفر بزوجته، وأنها لن تضيق بوجود الصغيرة وهي تقوم عليها ما اختصم فيها زوجها جعفر، وصمم على أخذها والدفع بالحجة التي مكَّنته من كفالتها؛ وهي أن خالتها زوجته، فهي الأولَى والأحق بها.

 

زواج المجاهدة من الصدِّيق:

كانت البيوت قديمًا والمجتمع لا يعرف بقاء المرأة بلا زوج، وقلما تركت امرأةٌ الزواجَ بعد زوجها المتوفَّى عنها أو المطلقة منه، مهما بلغت درجة الحب بينهما، فما إن تنقضِ عِدَّة المرأة، إلا ويتكاثر الخُطَّاب بباب أوليائها، فربما نهض الشاب لثيِّب تكبره، ولها من زوجها أولاد، فلم يعرف المجتمع قديمًا من الزواج إلا تشوُّفًا للسكن والمودة، والتمتع بين الزوجين بما أباح الله، بل نهت بعض آيات الذكر الحكيم العَجَلَة التي كان عليها الخطَّاب للمرأة المتوفى عنها زوجها، ونهت المرأة كذلك من التعجل في الزينة بغرض الزواج حتى تنقضي العدة؛ فصفحة الزواج الذي انتهى بالطلاق أو الوفاة تُطوى سريعًا، ولا تكون عثرة للزواج بعده أبدًا.

 

والزواج بعد انتهاء الزوجية بموت أو طلاق لا يُعَدُّ شيئًا منكورًا، لا في الشريعة، ولا في المجتمع، مهما كانت منزلة الزوج ومكانته، فالزواج تشريع لا يخدِش الكرامة، ولا ينزل من مقام زوج أو امرأة سابقًا أو لاحقًا، ففي السنن أنه كان لعلي بن أبي طالب ابنة تسمى أم كلثوم رضي الله عنهما، تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما تُوفِّيَ، تزوجها عون بن جعفر، ثم تزوجها بعده محمد بن جعفر، فلما توفي تزوجها عبدالله بن جعفر، وماتت عنده[4].

 

هكذا عاش المجتمع قديمًا لا يعرف العنوسة ولا يعرف امرأة تبيت بغير زوج، حتى ولو كانت شريفة من سلالة بيت النبوة، إلا أن تكون في عِدَّة، أو عجوزًا لا أرَبَ لها في الرجال.

 

بعد انقضاء عدة أسماء تزوجها الصديق رضي الله عنه، وظلت معه حتى توفي، وقد أوصاها أن تغسِّله، وكانت في يوم موته صائمة، وعزم عليها أن تفطر، حتى تقوى على أمر غسله، فلما انتهت من غسله، تذكرت يمينه آخر النهار، فدعت بماء فشربت، وقالت: والله لا أتبعه اليوم حنثًا[5].

 

وتلك صورة نادرة للوفاء بعد الموت، ويدل على ما كان عليه أبو بكر من الخُلُق الكريم، وما كانت عليه هي رضي الله عنها من طِيب عشرتها وحسن تبعُّلها له، ووفائها بحقه بعد موته.

 

وهنا لا بد أن نقول: إن صفحة جعفر زوج أسماء السابق طُويت بالكلية، رغم شدة وجدها عليه يوم مات، لكنها أخلصت لزوجها بعده، حتى إنه أوصاها بأن تغسِّله دون غيرها من الناس، ثقة في حبها له، وثقة في دينها وأمانتها، وليس في وفائها للصديق نكران لجعفرٍ، أو تنكُّر له، بل هو القيام بالحق في موضعه.

 

الزواج بأمير المؤمنين:

ما إن انتهت عدة أسماء رضي الله عنها حتى تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعاش في بيتها مع علي رضي الله عنه محمَّدان؛ محمد بن أبي بكر زوجِها السابق، ومحمد بن جعفر زوجها الأسبق، وكان الشقيقان يتباريان تباري الإخوة، وذات يوم قال كل منهما لأخيه: أبي خير من أبيك، فقال علي رضي الله عنه لأسماء: احكمي بينهما؛ فهي الأم الواحدة للولدين ذي الأبوين المختلفين، فقالت كلمة كلها وفاء وحسن عهد: فقالت لابن جعفر: “أما أنت يا بني، فما رأيت شابًّا من العرب كان خيرًا من أبيك، وأما أنت يا بني فما رأيت كهلًا من العرب كان خيرًا من أبيك، فقال لها علي: ما تركتِ لنا شيئًا، ولو قلتِ غير هذا لمقتُّكِ”[6].

 

لقد وفَّت أسماء بحق زوجيها السابقين، ولم تشأ أن تُدخِلَ حزنًا على واحد من أبنائها، ثم عاتبها عليٌّ عتاب المحب لها ولمن أثنت عليهما؛ أخيه جعفرٍ، والصدِّيق أبي بكر، ولكنها قالت له: “والله إن ثلاثة أنت أخسُّهم لأخيارٌ”.

 

مواقف من حياة المجاهدة:

لقد كانت أسماء رضي الله عنها مكينة في المجتمع، قريبة بأقرب ما يكون من بيت النبوة، فإن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم اختارتها دون غيرها لتتولى غسلها؛ فقالت لها: “لما أحست بدنو الأجل: يا أسماءُ، إذا أنا مِتُّ فاغسليني أنتِ وعلي بن أبي طالب”[7].

 

فقد كانت أسماء رضي الله عنها وقتئذٍ زوجة لأبي بكر، فالعلاقة بين بيت فاطمة وبيت أبي بكر علاقة ارتباط لا دخن فيها ولا كدورة، وإلا لما تمكَّنت أسماء زوج أبي بكر من الاختصاص بفاطمة رضي الله عنهما.

 

وتلك صفحة من التاريخ يجب أن تأخذ حقها من البحث والدرس، خلافًا لمن صور صراعًا حاميَ الوطيس بين الصِّدِّيق وبيت فاطمة وزوجها علي رضي الله عنهم.

 

ولما مرضت فاطمة رضي الله عنها أهمَّها أمر حملها على الأعناق، فبثت همومها لأسماء زوج أبي بكر قائلة: “ألا تَرَين إلى ما بلغتُ، أُحمل على السرير ظاهرًا؟ فقالت أسماء: سأصنع لك نعشًا كما رأيت يصنع بأرض الحبشة، قالت: فأرِنِيه، فأرسلت أسماء إلى جرائد رطبة، فقطعت من الأسواف، وجعلت على السرير نعشًا، وهو أول ما كان النعش، فتبسمت فاطمة، تقول أسماء: ما رأيتها تبسمت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا يومئذٍ[8].

 

فضل ومنزلة:

كانت أسماء رضي الله عنها ذات منزلة كبيرة في مجتمع الصحابة في عصره الأول، فهي ممن هاجر هجرتين، وصلى إلى القبلتين، ويبدو أنها كانت شجاعة مقدامة، فقد دخلت على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة ذات يوم، وجاء عمر وهي عندها، فقال عمر حين رآها: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضِبت، وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطعِم جائعكم، ويعِظ جاهلكم، وكنا في دار البُعَداء البُغَضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وايمُ الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا، حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسأله، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((يا نبي الله، إن عمر قال: كذا وكذا؟ قال: فما قلتِ له؟ قالت: قلت له: كذا وكذا، قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم – أهلَ السفينة – هجرتان))، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالًا، يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هُمْ به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو موسى الأشعري يأتي لأسماء يستعيد منها هذا الحديث؛ فرحًا به[9].

 

أخيرًا:

هكذا كانت سيرة أسماء رضي الله عنها، مهاجرة مع زوجها لأرض غريبة، ثم تكون نعم الزوجة لمن تزوجت من الرجال؛ جعفرٍ، وأبي بكر، وعليٍّ رضي الله عنهم، ثم هي نعم الحاضنة المأمونة لابنة أختها بنت حمزة رضي الله عنها حين ضمها جعفر زوجها لكفالته، ثم نعم الأم حين تحكم بين ولديها، فلا تُغضبهما، ولم تكن أسماء إلا نعم الصاحب؛ حيث كانت لفاطمة رضي الله عنه كذلك، تدخل عليها وتفرج عنها، ثم توصيها دون غيرها من النساء بغسلها… إنه نموذج الأخيار من النساء اللائي صنعهن الإسلام وغيَّر مسار حياتهن.


[1] المستدرك، للحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.

[2]تاريخ الإسلام (2/ 488).

[3] مسند أحمد (1/ 98).

[4] السنن الكبرى (7/ 70).

[5] الطبقات الكبير (3/ 186).

[6]حلية الأولياء (2/ 76).

[7] السنن الكبرى (4/ 34).

[8] المستدرك (3/ 162).





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى