التاريخ الإسلامي

محمود شاكر (شيخ العربية) (1)


محمود شاكر (شيخ العربية) (1)

من هو؟

هو محمود بن محمد شاكر بن أحمد بن عبدالقادر، من أسرة أبي علياء الحسينية في جرجا بصعيد مصر، ولد في الإسكندرية في ليلة الأول من فبراير سنة 1909 م، وانتقل إلى القاهرة في العام نفسه مع والده، إذ عُيِّن والده وكيلًا للجامع الأزهر، وكان قبل ذلك شيخًا لعلماء الإسكندرية.

 

ومحمود شاكر هو السابع في ترتيب إخوته: أحمد، وعليٍّ، وصفية، ومحمد، وفاطمة، وحسن، ومحمود، وعزيزة.

 

حصل شاكر وهو في المهد على لقب الباشوية! فقد كانت الصداقة قد توطَّدت بين الشيخ مـحـمـد شـاكـر (والده) وبين الخــديوي عباس حلمي الثاني، وحـدث أن زاره الخديوي مهنئًا، وطلب رؤية المولود.. فأحضره، فسأل عن اسمه فقيل له: محمود سعد الدين شاكر، فحمله في صدره وهو يقول: بل هو محمود باشا شاكر.

 

دراسته وتكوينه:

كان لبيت محمود شاكر الأثر الكبير في تكوينه العلمي؛ حيث وضعت بذوره الأولى، هذا البيت الذي كان ربُّه الشيخ العلامة محمد شاكر، وصاحبه فيه أخوه الأكبر أحمد الذي كان يكبره بسبع عشرة سنة، فسمح فارق السن بأن يكون له في البيت الواحد أبوان، أحدهما صديق زامله في بعض إنتاجه العلمي.

 

وكان هذا الشقيق الصديق -أحمد- وهو بصدد تثقيف أخيه -محمود- يلزمه بحفظ لسان العرب لابن منظور! روى د. عبدالقدوس صالح -أحد تلاميذ شاكر- فيقول: “كنت أنظر في لسان العرب في مكتبته، فرأيت في بعض الصفحات إشارات تشبه إشارة الضرب في الحساب (x) وليس بجانبها أي تعليق كان، وقد دفعني الفضول إلى أن أسأله عن هذه الإشارات المبهمة، فقال لي: غفر الله لأخي الشيخ أحمد، فقد كان يطلب إليَّ أن أحفظ ما بين كل إشارة وتاليتها في زمن يحدده لي”.

 

انتهى شاكر من قراءة لسان العرب والأغاني، وهو بعد صغير، وحفظ ديوان المتنبي كاملًا وهو في الرابعة الابتدائية، ودار في أروقة الشعر الجاهلي ولم يبلغ الحلم!

 

تلقى أولى مراحل تعليمه في مدرسة الوالدة أم عباس في القاهرة سنة 1916 ثم بعد ثورة 1919 ذهب إلى مدرسة القربية بدرب الجماميز، وهناك تأثر كثيرًا بدروس الإنجليزية لاهتمامهم بها ولكونها جديدة عليه. ولأن حصص الإنجليزية كانت في بداية اليوم المدرسي، في حين تذيلت حصص العربية اليوم الدراسي؛ فقد كانت درجاته مرتفعة في الإنجليزية ورسب في العربية حينما كان في الشهادة الابتدائية! وأعاد السنة كلها، فلا ملحق لها حينئذٍ.

 

وفي سنة 1921 دخل المدرسة الخديوية الثانوية ليلتحق بالقسم العلمي ويتعلق بدراسة الرياضيات. وبعد اجتياز الثانوية ورغم حبه للرياضيات، وإجادته للإنجليزية؛ فضل أن يلتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية. ولأنه كان من القسم العلمي فقد تعذر دخوله لكلية الآداب بداية، إلا أنه بوساطة من طه حسين لدى أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة المصرية آنذاك استطاع أن يلتحق بما يريد سنة 1926.

 

وتعرَّف في المرحلة الثانوية على الشيخ السيد بن علي المرصفي الذي كان له الأثر القوي في تكوين الرجل وفي حبه للشعر والأدب، بل وربما في بذر البذرة الأولى التي قام عليها منهجه في التذوق. ولم ينقل عن شاكر إعجابه بأحد ممن تتلمذ عليهم -إذا استثنينا مصطفى صادق الرافعي- مثل إعجابه بأستاذه المرصفي، قال فيه: “كانت للشيخ -رحمه الله وأثابه- عند قراءة الشعر وقفات: يقف على الكلمة، أو على البيت، أو على الأبيات، يعيدها، ويرددها، ويشير بيديه، وتبرق عيناه، وتضيء معارف وجهه، ويهتز يَمْنةً ويَسْرةً، ويرفع من قامته مادًّا ذراعيه مُلوِّحًا بهما يهم أن يطير! وترى شفتيه والكلمات تخرج من بينهما تراه كأنه يجد للكلمات في فمه من اللذة والنشوة والحلاوة ما يفوق كل تصور… كنت أنصت وأصغي وأنظر إليه لا يفارقه نظري، ويأخذني عند ذلك ما يأخذني، وأطيل النظر إليه كالمبهوت، لا تكاد عيني تطرف، وصوته يتحدر في أقصى أعماق نفسي كأنه وابل منهمر تستطير في نواحيه شقائق برق يومض إيماضًا سريعًا خفيفًا ثاقبًا…. وهو يشرح ويبين كأنه هو أيضًا يحس بأنه لم يبلغ مبلغًا يرضاه في الإبانة عن أسرار هذه الكلمات والأبيات. هكذا كان الشيخ -رحمه الله-! أي علَّامة ذوَّاقة كان!”.

 

وإذا كان الشيخ المرصفي أستاذًا لشاكر وطه حسين، فإن ما أخذه شاكر من أستاذه لا يضارعه ما أخذه طه حسين منه، فشاكر تتلمذ على الرجل تلمذة خاصة في بيت المرصفي، وتلمذة عامة في الأزهر، وكان حال الأستاذ يختلف باختلاف المكان، ففي البيت كان على سجيته منفعلًا مع درسه وشعره أيما انفعال، بينما كان وقورًا جادًّا في دروسه بالأزهر. وقد وضح هذا الفرق في الاستفادة من الأستاذ بقوله: “فهذا موضع فرق بين الذي أخذته أنا عن الشيخ والذي أخذه عنه الدكتور طه. وما كان على كل حال بقادر على أن يأخذ عنه ما أخذت؛ فإن الذي أخذته عنه وأحدث في نفسي ما أحدث، لا يبلغ السماع بالأذن منه شيئًا؛ لأنه وليد المشاهدة والعيان لا وليد الألفاظ والكلمات”.

 

دخل محمود شاكر جامعة الملك فؤاد (القاهرة الآن)، حيث التحق بكلية التجارة؛ لأنه جاء من الثانوية بقسمها علمي رياضيات، لكنه تحوَّل إلى كلية الآداب بتوسط طه حسين له إلى أحمد لطفي السيد، حيث أقنع الأول الأخير بجدارة الفتى، وأنه يحفظ الأغاني ولسان العرب؛ فقُبِل شاكر بكلية الآداب.

 

وفي الجامعة استمع شاكر لمحاضرات طه حسين عن الشعر الجاهلي وهي التي عرفت بكتاب “في الشعر الجاهلي”، وكم كانت صدمته حين ادَّعى طه حسين أن الشعر الجاهلي منتحل، وأنه كذب مُلفَّق لم يقُلْه أمثال امرئ القيس وزهير، وإنما ابتدعه الرواة في العصر الإسلامي، وضاعف من شدة هذه الصدمة أن ما سمعه من المحاضر الكبير سبق له أن اطَّلَع عليه بحذافيره في مجلة استشراقية في مقال بها للمستشرق الإنجليزي مرجليوث!

 

وتتابعت المحاضرات حول هذا الموضوع، وصاحبنا عاجز عن مواجهة طه حسين بما في صدره، وتمنعه الهيبة والأدب أن يقف مناقشًا أستاذه، وظل على ذلك زمنًا لا يستطيع أن يتكلم حتى إذا لم يعد في الصبر والتحمُّل بقية، وقف يرد على طه حسين في صراحة وبغير مداراة، لكنه لم يستطع أن يواجهه بأن ما يقوله إنما هو سطو على أفكار مرجليوث بلا حياء أو اكتراث.

 

ومن هنا يكون طه حسين هو السبب في دخول شاكر لكلية الآداب، وهو نفسه المتسبب في تركه إياها!

 

بعد ترك الرجل للجامعة عكف على قراءة الشعر الجاهلي، بل وكل كلام عربي، سواء كان شعرًا جاهليًّا، أو إسلاميًّا، أو شعرًا حديثًا، وأخذ منه هذا الموقوف عقدًا من الزمان استمر من عام 1928 حتى عام 1938.

 

حفظه وذاكرته القوية:

يقول د. عبدالقدوس صالح -أحد تلاميذه-: “من شواهد حفظه للشعر القديم ما رأيته من محاورة تمَّت أمامي بين الصديق الدكتور “محمد علي الهاشمي” وبين الدكتور “حسين نصار”، وكان الدكتور الهاشمي يحقق جمهرة أشعار العرب، فسأل الدكتور حسين نصار عن بعض الأبيات في الشعر الجاهلي لم يهتدِ إلى قائلها، وما كان من الدكتور نصار إلا أن قال له دون تردُّد: اسأل شيخك محمود شاكر فهو يحفظ الشعر الجاهلي.

 

وكنت في أثناء تحقيقي لشرح ديوان ذي الرمة وقفت حائرًا أمام نحو أربعين شاهدًا من شواهد الشرح، لم أستطع الاهتداء إليها في مظانِّها على ما بذلت من جهد، ولما سألت الشيخ محمود شاكر عنها، إذا به يرشدني فورًا إلى نحو نصفها، ذاكرًا اسم القائل واسم المصدر الذي يحتوي الشاهد، أما النصف الآخر فقد أراد أن يسهل عليَّ متابعة البحث عنها، فقال لي عن كل شاهد منها: ليس هذا البيت معروف القائل، ولا هو من شعر فلان وفلان وفلان”.

 

وقد وقفت عاجزًا عن تخريج عبارة وردت في أثناء شرح ديوان ذي الرمة، وهي قولهم: “إن ابن آدم ومتاعه على قَلَتٍ إلا ما وقى الله”؛ أي: على هلاك. ولما سألت عنها الشيخ محمود لم يتلبث في الإجابة بأكثر مما يتلبث المشتغل على الحاسوب “الكمبيوتر” في الضغط على أزرار الجهاز، ثم قال لي: “أظن أني قرأت هذه العبارة في الطبعة القديمة لكتاب “البيان والتبيين” للجاحظ، وما دامت الطبعة التي حقَّقها الأستاذ عبدالسلام هارون تحتوي على فهرس لغوي فانظر فيها لعلك تجد هذه العبارة”. وقمت من فوري لأنظر في البيان والتبيين، حيث وجدت العبارة بنَصِّها، وأخذ مني العجب مأخذه حين قرأت في مقدمة التحقيق التي كتبها الأستاذ عبدالسلام هارون أن الطبعة القديمة التي قرأها الشيخ محمود شاكر، ورأى فيها تلك العبارة، مضى على صدورها نحو من ستين عامًا!

 

على أن أطرف ما حدث بيني وبين الشيخ محمود شاكر أني سألته عن معنى بيت عويص من شواهد شرح ديوان ذي الرمة، ولما أخذ ينظر في البيت رآني قد عزوته إلى كتاب “معاني الشعر” للأشنانداني، فأنكر عليَّ ذلك، ومضى على عادته يسلقني بلسانه الحاد قائلًا: لا أدري كيف تدرس في الجامعة وأنت تخطئ في عزو بيت من الشعر إلى مصدر لم يرد فيه.

 

وأجبت قائلًا: إنني تلميذك يا أستاذ محمود، وقد درست في الجامعة نحوًا من ثماني سنوات، ومن المحال أن أقع في مثل هذا الخطأ الذي لا يقع فيه طالب مبتدئ. وهنا ثارت ثائرة الشيخ وقال بالحرف الواحد: “انتظر، وسأريك مدى جهلك ومكابرتك”.

 

وأسرع الشيخ إلى إحدى الغرف الداخلية- وغرف البيت كلها مملوءة بأرفف الكتب- وجاء بكتاب “معاني الشعر” للأشنانداني، وفتح الكتاب على الصفحة التي عزوت إليها الشاهد العويص، فإذا بالشاهد مثبت في الكتاب كما عزوته بالضبط، وهنا احمرَّ وجه الشيخ خجلًا، وظهرت عليه أمارات الضيق والتبرُّم، وكان يتلفت يَمْنةً ويَسْرةً، ويعيد النظر في الكتاب، وكأنه لا يصدق ما يرى بأُمِّ عينه، ولا يصدق أن ذاكرته العجيبة قد خانته هذه المرة.

 

وقلت للشيخ مهدئًا روعه، بعد أن أخذت الكتاب من يديه، ونظرت في غلافه وعرفت اسم المحقق: هوِّن عليك يا أستاذ محمود، فأنت قرأت كتاب معاني الشعر في طبعته التي حققها الأستاذ “عز الدين التنوخي”، وأنا رجعت في عزو هذا البيت إلى الطبعة التي حققها الدكتور “صلاح الدين المنجد” الذي عثر على مخطوطة للكتاب لم تصل إلى الأستاذ التنوخي، وفي هذه المخطوطات زيادات منها هذا البيت دون شك.

 

وسارع الشيخ محمود شاكر مرة أخرى ليأتي من إحدى الغرف بطبعة الأستاذ عز الدين التنوخي، وتأكد أن الشاهد لم يرد فيها، وعندئذٍ تنفَّس الصعداء قائلًا: “الله يرضى عليك.. لقد خفت أشد الخوف وقلت: محمود شاكر قد خرف”.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى