Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

مقتطفات من سيرة الإمام: سفيان الثوري رحمه الله


مقتطفات من سيرة الإمام: سفيان الثوري رحمه الله

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وعالم من علمائها الأماجد، وسيد من ساداتها، وإمام من أئمة الدين، طلب العلم وهو حدث باعتناء والده المحدث الصادق سعيد بن مسروق الثوري، كان إمامًا من أئمة المسلمين، وعلمًا من أعلام الدين مجمعًا على إمامته، بحيث يُستغنى عن تزكيته مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد، قال عنه الذهبي: شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أبو عبد الله سفيان الثوري الكوفي المجتهد، مصنف كتاب الجامع.

ذكر أحمد بن عبد الله العجلي وغير واحد أن مولده كان سنة سبع وتسعين وفي بعض ذلك خلاف، قال المزي: والصحيح ما ذكرنا والله أعلم،

وقال غيره: ولد في خلافة سليمان بن عبدالملك.

وقد كثر ثناء العلماء عليه وتزكيتهم له، قال البراء بن رنيم: سمعت يونس بن عبيد يقول: ما رأيت أفضل من سفيان، فقيل له: فقد رأيت سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء، ومجاهدًا، وتقول هذا؟ قال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان.

وقال عباس الدوري: رأيت يحيى بن معين لا يقدم على سفيان أحدًا في زمانه، في الفقه والحديث والزهد وكل شيء.

وقال عبد الله بن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان، وقال أيضًا: ما نُعت لي أحد، فرأيته إلا وجدته دون نعته، إلا سفيان، وقال ابن مهدي: رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلًا فقال: ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: 12].

وقال ابن عيينة: «ما رأيت رجلًا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري».

وقال بشر الحافي: كان الثوري عندنا إمام الناس، وقال: سفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما.

وقال شعيب بن حرب: إني لأحسب أنه يجاء غدًا بسفيان حجة من الله على خلقه، يُقال لهم: لم تدركوا نبيكم، قد رأيتم سفيان، وقال شعبة بن الحجاج: إن سفيان ساد الناس بالورع والعلم.

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: كان إمامًا من أئمة المسلمين، وعلَمًا من أعلام الدين، مجمعًا على أمانته بحيث يُستغنى عن تزكيته مع الإتقان والحفظ والضبط والورع والزهد.

وقال قبيصة: ما جلست مع سفيان مجلسًا إلا ذكرت الموت، ما رأيت أحدًا كان أكثر ذكرًا للموت منه.

وقال رواد بن الجراح: سمعت الثوري يقول: كان المال فيما مضى يُكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن، ونظر إليه رجل وفي يده دنانير، فقال: يا أبا عبد الله، تمسك هذه الدنانير؟ قال: اسكت، فلولاها لتمندل بنا الملوك.

وقال سفيان رحمه الله: من كان في يده من هذه شيء فليصلحه، فإنه زمان إن احتاج كان أول ما يبذله دينَهُ.

قال الذهبي رحمه الله: كان رأسًا في الزهد، والتأله والخوف، رأسًا في الحفظ، رأسًا في معرفة الآثار، رأسًا في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم ولا يرى الخروج أصلًا، وكان يدلس في روايته، وربما دلس عن الضعفاء، وكان سفيان بن عيينة مدلسًا، لكن ما عُرف له تدليس عن ضعيف.

قال محمد بن يوسف الفريابي: حدثنا أبي، سمعت سفيان يقول: إن قومًا يقولون: لا نقول لأبي بكر وعمر إلا خيرًا، ولكن عليَّ أولى بالخلافة منهما، قال سفيان: فمن قال ذلك فقد خطَّأ أبا بكر وعمرًا وعليًّا والمهاجرين والأنصار، ولا أدري ترتفع مع هذا أعمالهم إلى السماء؟

قال سفيان رحمه الله: أدخلت على المهدي بمنى، فسلمت عليه بالإمرة فقال: أيها الرجل، طلبناك، فأعجزتنا، فالحمد لله الذي جاء بك، فارفع إلينا حاجتك، فقلت: قد ملأت الأرض ظلمًا وجورًا، فاتق الله، وليكن منك في ذلك عبرة، فطأطأ رأسه، ثم قال: ارفع إلينا حاجتك، قلت: أبناء المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان بالباب، فاتَّق الله، وأوصل إليهم حقوقهم، فطأطأ رأسه، فقال: أبو عبد الله أيها الرجل، ارفع إلينا حاجتك، قلت: وما أرفع؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر، فقال لخازنه، كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهمًا، وإني أرى ها هنا أمورًا لا تطيقها الجبال.

وقال شجاع بن الوليد: كنت أحج مع سفيان فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا.

ومما يدل على قوة حفظه للسنة والأحاديث أنه قال: ما استودعت قلبي شيئًا فخانني.

وقال أيضًا: إني لأمر بالحائك، فأسد أُذني مخافة أن أحفظ ما يقول، قال القطان وعبد الرحمن: ما رأينا أحفظ من سفيان.

ولهذا الإمام أقوال عظيمة وحكم باهرة تدل على زهدة وورعه وتقواه:

فمن ذلك أنه قال: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قِصَرُ الأمل، وارتقاب الموت.

ومنها قوله: احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئًا من الدنيا فلا تجده أن تسخط على ربك.

وقال أيضًا: لأن أترك عشرة آلاف دينار يحاسبني الله عليها أحب إليَّ من أن أحتاج إلى الناس.

قال سفيان رحمه الله: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا قط إلا عملت به ولو مرة.

ومن أقواله رحمه الله أنه قال: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى.

قال عبدالله بن المبارك: قال لي سفيان: إياك والشهرة فما أتيت أحدًا إلا وقد نهى عن الشهرة.

وقال أحمد بن يونس: سمعت سفيان يقول: ما رأيت للإنسان خيرًا من أن يدخل جحرًا.

وقال أيضًا: السلامة في ألا تحب أن تُعرف.

وقال أيضًا: من سُرَّ بالدنيا نُزع خوف الآخرة من قلبه.

وقال أيضًا: إن هؤلاء الملوك قد تركوا لكم الآخرة، فاتركوا لهم الدنيا.

قال عبد الرحمن بن مهدي: بات سفيان عندي، فجعل يبكي، فقيل له، فقال: لذنوبي عندي أهون من ذا، ورفع شيئًا من الأرض – إني أخاف أن أُسلب الإيمان قبل أن أموت، وكان رحمه الله مشهورًا بالعبادة والتأله.

قال عطاء الخفاف: ما لقيت سفيان إلا باكيًا، فقلت: ما شأنك؟ قال: أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقيًّا.

وكان ينهى عن مجالسة أهل البدع، فقال رحمه الله: من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم، خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه، وقال أيضًا: من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه لا يُلْقِهَا في قلوبهم.

قال الذهبي رحمه الله: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة والشُّبه خطافة.

قال ابن مهدي: مرض سفيان بالبطن، فتوضأ تلك الليلة ستين مرة، حتى إذا عاين الأمر، نزل عن فراشه، فوضع خده بالأرض، وقال: يا عبد الرحمن، ما أشد الموت، ولما مات غمضته، وجاء الناس في جوف الليل وعلموا.

وقيل: أُخرج بجنازته على أهل البصرة بغتة، فشهده الخلق وصلى عليه عبد الرحمن بن عبدالملك بن أبجر الكوفي بوصية من سفيان لصلاحه.

مات سنة إحدى وستين ومائة وكان عمره أربعًا وستين سنة، وقد رؤيت له رحمه الله منامات كثيرة مبشرة.

قال سعيد بن الخميس: رأيت سفيان في المنام يطير من نخلة إلى نخلة وهو يقرأ: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74].

قال إبراهيم بن أعين: رأيت سفيان بن سعيد فقلت: ما صنعت؟ قال: أنا مع السفرة الكرام البررة، وساق الخطيب البغدادي بسنده إلى محمد بن أبي محمد قال: رأى رجل في المنام أنه دخل الجنة، قال: فرأيت الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم، وعدة، قال: فقلت: ما لي لا أرى سفيان الثوري معكم فقد كان يُذكر؟ فقالوا: هيهات، ذاك فوقنا ما نراه إلا كما نرى الكوكب الدُّرِّي، ثم ساق الخطيب بسنده إلى أبي خالد الأحمر قال: رأيت سفيان بن سعيد بعدما مات فقلت: أبا عبد الله كيف حالك؟ قال: خير حال استرحت من غموم الدنيا وأفضيت إلى رحمة الله[1].

رحم الله الإمام سفيان الثوري وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] تهذيب الكمال للمزي (11/ 154 – 169)، البداية والنهاية لابن كثيررحمه الله (13/ 489 – 491)، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (9/151 – 174)، سير أعلام النبلاء (7/ 229 – 279) باختصار وتصرف.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى