غزوة بني النضير
غزوة بني النضير
وفيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعلي ونفر من أصحابه إلى بني النضير لكي يستعينهم على دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية؛ لما في ذلك من الاتفاق على العون في مثل هذه الأمور في كتاب الموادعة، وقيل: للحلف الذي كان بين بني عامر – والقتيلان منهما – وبين بني النضير، فقالت بنو النضير للنبي صلى الله عليه وسلم: نعم نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض وتآمروا على قتله، وكان قد جلس مع أصحابه تحت جدار لهم، فقالوا: من يصعد هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش، فنهاهم عن ذلك سلام بن مكشم، وقال: هو يعلم، فلم يقبلوا منه، وصعد عمرو بن جحاش، فأتى الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما عزموا عليه، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، ورجع إلى المدينة، فلما أبطأ قام أصحابه في طلبه ليعرفوا سبب تأخره، فأخبرهم الخبر وأمر المسلمين بحربهم، ونزل بهم جيش المسلمين فحاصرهم، فتحصنوا منه في صياصيهم، فقطع النخل وأحرقه، وقالوا: إنك تنهى عن الفساد في الأرض، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ وقد تولى الله الجواب، كما سيأتي في القُرْآن، وبعث إليهم عبدُالله بن أبيٍّ ابنُ سلولَ وجماعة من المنافقين: أن اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح، فأجابهم إلى ذلك، وقد استغرق الحصار خمسة عشر يومًا، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم كنانة بن الربيع وحيي بن أخطب، وخرج قسم آخر إلى الشام، وقد نقلوا متاعهم واحتملوا معهم حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم، وأسلم منهم يامين بن عمير، وأبو سعيد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
ونزل في هذه الغزوة قُرْآن يكشف خبيئات نفوسهم ومدى جبنهم؛ قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 2 – 4]، ثم يذكر لجوء المسلمين إلى قطع نخلهم أو تحريقه؛ وذلك ليعلموا أنه لم يعد لهم مقام في هذه الديار، ويعفي المسلمين من تبعة قطع النخل: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5]، ثم يذكر نعمة الله على رسوله والمسلمين من الفيء الذي حصل من هذه الغزوة دون قتلى أو سفك دماء: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الحشر: 6]، وبعد ذلك يذكر حالة المنافقين الذين أرادوا أن يثبِّتوا اليهود ويشدوا من عزيمتهم على المقاومة، وكأن ابن سلول لم يكفِه ما فعل بنو قينقاع وكيف وقف معهم: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [الحشر: 11، 12]، وهكذا أفشل الله تعالى خطط المنافقين في إيجاد حليف لهم يتخذونه دريئة للاعتداء على المسلمين، ويعملون هم من ورائه خفية، فقذف في قلوب اليهود الرعب؛ ليجرد المنافقين من حليفهم؛ لذلك أتبع هذا التوهين لليهود بذكر ما يعتمل في صدور المنافقين واليهود تجاه المسلمين: ﴿ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الحشر: 13]، ثم وصفهم بالجبن وعدم المقدرة على المواجهة: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحشر: 14]، وهكذا أُجلِيَتْ بنو النضير بعد بني قينقاع، وبقيت بنو قريظة، ولعلها أخذت العبرة من سابقتيها.