Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

الجدل: رؤية نفسية


الجدل: رؤية نفسية

 

رَوَى الحاكم والترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: ((مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ)) ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 58][1].

قال الأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: بَلَغَنِي أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ شَرًّا أَلْزَمَهُمُ الْجَدَلَ، وَمَنَعَهُمُ الْعَمَلَ.

وروى البيهقي عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْعَمَلِ، وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْجَدَلِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْعَمَلِ، وَفَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْجَدَلِ.

قال أحد العلماء: وأعظم ما يُحيل الإنسان عن الحق، ويُحيده عنه، هو كثرة مخالطة الباطل حِسًّا ومعنًى، بلا معرفة سابقة بالحق محكمة، وكما جاء في الأثر: ((كثرةُ النظرِ في الباطل تذهبُ بمعرفة الحقِّ من القلبِ))، ولهذا جاءت النصوص في الوحيَيْن بالتحذير من الخوض في الباطل وإدامة النظر فيه أو الجلوس بين المُبطلين: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140]؛ لأن القلب يُشرب الفكرة والرأي شيئًا فشيئًا، حتى تستحكم منه؛ لذا قال الله تعالى بعد ذلك مبينًا المآل: ﴿ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ؛ أي: حالكم سيكون كحالهم، وهذا سبب أكثر الانحراف في البشر؛ لذا قال المشركون لما سئلوا: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42]، قالوا: ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر: 45]، وروى أحمد عن ابن مسعود قال: أكثر الناس خطايا أكثرهم خوضًا في الباطل.

وقد رأيت من يُكثِر مطالعة الباطل أكثر من الحق؛ ككتابات الصحف ومقالات ولقاءات إعلامية وغيرها ويوغل فيها، فتُذهب معرفة الحق من قلبه من حيث لا يشعر، فالعقل والنقل يدل على أنه ما من فكرة أو عقيدة ولو كانت موغلة في الشر، إلا ولها قبول ولو كان كامنًا دقيقًا في النفوس.

وإعمال العقل المتجرد في سبر الحقائق وفحصها بلا مؤثر نادر جدًّا، وكثيرًا ما يظن الإنسان أنه اعتقد ما يراه حقًّا بالعقل المتجرد، ودوافع النفس الدقيقة الأخرى مجتمعة أقوى من دافع العقل.

فالشرع ما منع من مجالسة المبطلين ضعفًا في الحق الذي جاء به، ولكن صونًا للعقل أن تغلبه دوافع النفس فتختلط بالعقل ويتدثر بها؛ لذا نجد كثيرًا من الناس بلغوا حدًّا مفرطًا من العقل والذكاء يعبدون البقر والحَجَر؛ بل الفأر، فضلًا عمَّا فوقها من دركات الفكر والرأي، بسبب المخالطة الحسية والمعنوية.

ومزلة الأفهام أن يظن كثير من الناس أنه توصَّل لقناعة عقلية قاطعة في شيء، والحق غير ذلك، فالعقل الصحيح لا يتنافر إطلاقًا مع النقل الصريح.

ومن كوامن النفس، وبواطنها الخفية إذا اندفعت بقوة بلا تجرُّد إلى تقرير مسألة أو دفع حجة قوية، الإغضاء عن نقض ما تقرره النفس من وجوه أخرى، فكُفَّار قريش يعترضون على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كونه بشرًا مثلهم فقالوا: ﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون: 34] بينما لم تلفت نفوسهم إلى إلههم «الحَجَر»، فرضي المشركون بالإله الحَجَر، وردُّوا نبوة النبي؛ لأنه بشر، لأن النفس منشغلة في صد محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والطعن في نبوته، على أي وجه كان، منصرفة عن طلب الحق، كحال من يُفتِّش في كُتُب السنة ليقف على نص مشتبه، ويضع أُصبعيه في أذنيه عن سماع دِرَّة عُمر على رؤوس الرجال وهو يُفرقهم عن النساء، كما رواه الفاكهي في «تاريخ مكة» وهذا النحو ليس من طرائق أهل العدل والعلم والإيمان.

ويقول أيضًا: وفطرة البشر لا تُحب أن يخالف الإنسان قوله فعله، فكثير من الذين يقعون في بعض المخالفات ويمارسونها إذا ورد إليهم أقوال متعارضة ولو كان أحدها شاذًّا يسبق إلى أذهانهم القول الموافق لفعلهم، فتميل النفس له وتؤيده لهذا الدافع النفسي الكامن الذي يتغالب مع العقل المتجرِّد ويغلبه كثيرًا دون شعور؛ لأن النفس لا تحب أن تقول ما لا تفعل.


[1] قال شعيب الأرنؤوط: حديث حسن بطرقه وشواهده.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى