Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

القرآن يسجل غزوة أحد


القُرْآن يسجل غزوة أُحد

 

سجل القُرْآن الكريم غزوة أُحد وما دار فيها من أحداث، وغاص في أعماق النفوس، فكانت المرآة الحقيقية لما حدث، حيث البعد عن إضافات الرواة ورؤيتهم من زاوية نظرتهم الخاصة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 122، 123]، بيان المصافة قبل بدء المعركة، وتوزيع النبي صلى الله عليه وسلم لقواته وَفْق تكتيك حربي معين، ما بين ميمنة وميسرة وقلب، وقادة الفرق، وحملة الألوية، ومعنى ﴿ تُبَوِّئُ ﴾؛ أي: تري كل فئة منهم مكانهم الذي سيقفون فيه قبل بدء القتال، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على مكان الرماة الخمسين بقيادة عبدالله بن جبير بقوله: ((انضحوا الخيل عنا، ولا نؤتين من قِبلكم، الزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أو علينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم)).

 

وأما الطائفتان المذكورتان، فقد قال جابر بن عبدالله: فينا نزلت نحن بنو حارثة وهم الأوس، وبنو سلِمة وهم الخزرج، وكان الخلاف بعد أن انسحب عبدُالله بن أبيٍّ ابنُ سَلُولَ من دخول المعركة بثلث الجيش، وكان الخلاف في الرجوع أو الإقدام وعدم مجاراة المنافقين فيما فعلوا، فتولوا الله حبًّا في الدفاع عن دينه، فكان الله وليهما، وأما في أُحد فلم تقاتل الملائكة، وكان المدد مشروطًا بالصبر والتقوى: ﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 125]؛ فعن ابن عباس قال: “كانت سيما الملائكة في يوم بدر عمائم بيضاء قد أرسلوها بين ظهورهم، وفي يوم حنين عمائم حمراء، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر”، وكان حضورهم في الغزوات عددًا ومددًا لا يضربون، وقال تعالى: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128]؛ أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسِرت رَبَاعِيَتُه يوم أُحد، وشُجَّ وجهُه حتى سال الدم، فقال: ((كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟))؛ فأنزل الله: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ [آل عمران: 128].

 

ثم كانت بعد ذلك آيات فيها استطراد وتنبيه وتعليم، ثم عودة إلى موضوع غزوة أُحد: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 139 – 141]، فيه تقوية لعزيمة المسلمين، وطمأنة لهم بأنهم الأعلون مهما حصل لهم، وأن هذه النكسة كانت درسًا لأخذ العبرة لمزيد من الإيمان والتماسك والالتزام بتعليمات القيادة، ومع ذلك فلا تظنوا أن الإيذاء والجراحات قد أصابتكم وحدكم، وأن عدوكم لم يصب بأذى، وأنه خرج سليمًا من المعركة، فلقد أصيب هو أيضًا، ومسه قرح مثلكم تمامًا، والأمر دُوَل، مرة لكم، ومرة عليكم، ولكن دون استئصال؛ لأن الله أراد لهذا الدين أن ينتشر، وأنتم مَن اختارهم الله لنصرة نبيه ونصرة الإسلام.

 

واعلموا أن ما حصل لكم في أُحد هو اختبار وتمحيص لصبركم، وليتبين المؤمن الذي يقاتل لإعلاء كلمة الله ممن جاء للدنيا أو المغنم؛ لأن دخول الجنة له شروطه واختباره؛ ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]؛ فالله تعالى هو العالم بمن سيدخل الجنة، ولكن هذا الاختبار لكي يرى منكم المجاهدة، ويُشهد ملائكته عليكم، وأما الذي تمنوا لقاء العدو لأنه فاتهم في بدر فها قد أتاكم في أُحد؛ ﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [آل عمران: 143]، فتمنِّي القتال أمر ليس سهلًا، وإنما يحتاج إلى مصابرة وقوة تحمُّل وثبات؛ فالموت ورؤيا الدماء تسيل والرؤوس تتطاير لا يكفيه التمني، وإنما المعايشة في ساحة القتال والصبر على الجراح، فالذين تمنوا لقاء العدو وكانوا يظنون الأمر سهلًا ها هم عندما قامت الحرب علَتْهم رهبة، وعرفوا شدة البأس في ساحات القتال، وأنها تتطلب القوة والصبر؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تتمنوا لقاء العدو، وسَلُوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف))، ثم عاتب الله تعالى مَن كان قد سمع دعوى الكفار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل، فأسقط في يده ورمى سلاحه وجلس ينتظر الموت؛ لأن الدنيا في نظره قد انتهت، وهذا الشعور أمر محبط، واستسلام مهين؛ فالدنيا قائمة، والحياة مستمرة إلى وقت معلوم، ومجاهدة الكفار لا تنقطع، فإن غيب الموت قائدًا فليس هذا نهاية الدنيا، فليستلم من بعده قائد آخر، وإلا فإن الكفر يستشري ويقوى، وما أحسن من قال: قاتلوا وموتوا على ما مات عليه نبيكم، أمثال أنس بن النضر؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].

 

ثم ضرب الله مثلًا بمن سبق من الأنبياء الذين قاتلوا الأعداء فكانوا مثال الصبر والتحمل والثبات في ساحات القتال، ولم يوهن قوتهم ما أصابهم فيها: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، ثم أعطانا الله السلاح القوي الذي يجعلنا نتفوق به على أعدائنا: ﴿ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 150] الاعتماد على الله؛ فهو الناصر لعباده، وهو الذي يقذف الرعب في قلوب المشركين: ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 151]، سلاحانِ قويان للمؤمن يدرع بهما؛ الاعتماد على الله، ثم ما يقذف الله مِن الرعب في قلوب المشركين، ولقد قال عليه الصلاة والسلام: ((نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر)).

 

ثم عاد السياق القُرْآني إلى المعركة ليوقفنا على مشاهدَ من المعركة: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152]، في بداية المعركة عندما أقدمتم بقلوب مفعمة بالإيمان خالية من حب الدنيا نصركم الله عليهم، فكانت بداية المعركة لكم، وأراكم في عدوكم ما تحبون من النصر حتى ولوا الأدبار ومنحوكم ظهورهم، ولما مِلتم إلى الدنيا والغنائم وتسابقتم عليها، تُركتم إلى قصدكم وهوى أنفسكم، فانقلب أمركم، وأعمل العدو فيكم سيفه، ألم يأمر نبيكم الرماة بالمحافظة على الموقع وعدم تركه مهما حصل؟ ثم إذا بهم لما رأوا الغنائم يتركون موقعهم من أجل حطام الدنيا، ونازعوا قائدهم ابن جبير عندما ذكَّرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستمعوا إلى تذكيره، فكان منكم من يريد الآخرة، وآخرون أرادوا الدنيا، فاضطربت القلوب، واختلفت في المقصد، فانعكس هذا على الأداء وسير المعركة، ثم كشف الله تعالى من أمرهم أكثر فقال معاتبًا لهم: ﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 153]، فقد صعدوا الجبل منهزمين لا يلتفتون إلى شيء، وبقيت القلة القليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ناداهم أن هلموا إليَّ عباد الله، وكما حدث في بدر من الرأفة بالمسلمين فغشيهم النعاس، فقد خفف الله عنهم في أُحد فغشاهم النعاس أيضًا: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 154]، وقد رُوي أن النعاس في الصلاة من الشيطان، وفي القتال من الله تعالى، يزيل به هم المسلم، وقد روي عن أبي طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أُحد حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، يسقط وآخذه، وفي رواية أخرى له: غشينا النعاس في مصافنا يوم أُحد، فجعل السيف يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، وفي رواية أخرى له: قال: فرفعت رأسي أنظر وما منهم أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس، وأما الطائفة الأخرى من الذين أهمتهم أنفسهم فهم المنافقون، ليس لهم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأخذلهم للحق، وأهل شك وريب في الله، لكأن الإسلام لم يدخل في قلوبهم وهم مقيمون على معتقد الجاهلية، وقد اعتقدوا أن الإسلام سينتهي من الوجود ولم يكن عندهم يقين بانتصار الإسلام وانتشاره ليبلغ مشارق الأرض ومغاربها، ويخفون الشك في الإسلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ [آل عمران: 154] هكذا سمع الزبير قول معتب بن قشير، ورد الله تعالى على قولهم: ﴿ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ﴾ [آل عمران: 154]، لقد كانت غزوة أحد درسًا بليغًا، محَّص الله فيه أهل الحق من أهل الزيغ، وكشف فيه عن خبيئات المنافقين، وأن هؤلاء لا يعتد بهم عند الجد، وفي حومة القتال، ولا يؤمن جانبهم، حتى ولو كانوا مع المسلمين في الظاهر؛ فهم عنصر مثبط منهزم، يفلون من معنويات المقاتلين.

 

ثم يأتي العتاب الشديد للمنهزمين، وأن الشيطان قد أغواهم، فالذي يرتكب مخالفة شرعية يصبح حليف الشيطان، وواقعًا تحت تأثيره وإغوائه، وهذا من زلل الشيطان للإنسان: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155]، لكن – كما يروى – كان هناك مجموعة من المتولين الهاربين يوم الزحف من خيار الصحابة، وهم بعيدون عن النفاق، فكان ذلك في حقهم زلة، وعن عبدالرحمن بن عوف أنهم ثلاثة، واحد من المهاجرين، واثنان من الأنصار: عثمان بن عفان، وخارجة بن زيد، ورافع بن المعلى، ولسابقتهم وفضلهم تاب الله عليهم، ثم أعقب ذلك تنبيهات عامة للمسلمين: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [آل عمران: 156 – 158]، تعليم للمسلمين بألا يدخلوا في قاموسهم واعتقادهم كلمة “لو”؛ لأنها – كما ورد – تفتح عمل الشيطان؛ فإن الأمر كله مقدر من الله ومكتوب، فلا تغير الحروب والغزوات مما قد كتبه الله وقدره، وإن مَن تكتب له الشهادة في هذه الغزوات التي هي ضد الكفر ولحماية الدعوة الإسلامية فإنه يكون قد فاز ونال رحمة الله ورضوانه، وأسكنه الله فسيح جناته، ثم يُظهر المولى تعالى بعضًا من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، ثم أخبَر تعالى بأنه إن نصر عبده أو عبيده فلن يهزمهم أحد مهما أوتي من القوة: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ﴾ [آل عمران: 160]، فـ “لا” نافية للجنس؛ أي: لا أحد يغلبكم أبدًا إن كان الله معكم وأراد نصركم، وبالمقابل: ﴿ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160]، وعلى المؤمنين أن يثقوا بنصر الله لهم ما داموا على الحق يقاتلون أعداء الله، مخلِصين له النية، ومتوكلين عليه، فهم لن يخذلوا أبدًا، وأما الانكسارات التي يتعرض لها المسلمون فهي نتيجة أخطاء في الفكر، وأخطاء مماثلة لِما كانت عليه حالة المسلمين في أُحد، فإذا تجنب المسلمون هذه الأخطاء فالله ناصرهم على أعدائهم ولن يغلبهم أحد أبدًا، وقد فهم عمر هذا وأفهمه للفاتحين: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله”، لقد وازن المسلمون بين ما كان في غزوة بدر وما جرى لهم في أُحد، فحزنوا على ما أصابهم، وبكَوا قتلاهم، فكان العتاب الرقيق الذي يجبُرُ كسرهم، ويقوِّي عزيمتهم: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165]، فقد قتَل المسلمون في بدر سبعين وأسروا سبعين، وقُتل منهم في أُحد سبعون، فقد أصابوا من قريش ضعف ما أصابت قريش منهم، فضلًا عن أكثر من عشرين قتيلًا من قريش في أُحد: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 166 – 168]، بيان أن الذي أصابهم في أُحد من القتل والجراح كان بعلم الله، وبقضائه وقدره، ﴿ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 166]؛ فالله عالم بهم، ولكن ليريهم أنفسهم إذا خالفوا حتى يمروا بهذه التجرِبة الأليمة فلا يعودوا لمثلها في اللقاءات القادمة، وكذلك ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ [آل عمران: 167]، فكان جوابهم ﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ [آل عمران: 167]، فكانوا يتذرعون بالحجج الواهية، أو تعالوا دافعوا عن أنفسكم فهذا الجيش قاصد المدينة ليقتل أهلها بلا تفريق بين مسلم أو منافق، فكان الجواب نفسه ﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ [آل عمران: 167]، بذلك عرفوا بنواياهم السيئة وأنهم كانوا ﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ [آل عمران: 167]؛ فكلامهم في الظاهر شيء، وما أخفوا في باطنهم ضد الإسلام شيء آخر، فهم يعملون ضد الإسلام؛ فلا تصدِّقوا أقوالهم الظاهرة؛ لأنها كذب وغطاء لما في نفوسهم من حقد، ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ [آل عمران: 167]، وكانوا يرددون عبارة ابن سلولَ ﴿ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ [آل عمران: 168]؛ لأن رأيه كان قتالهم داخل المدينة، لكن المتخاذل يصطنع الأعذار، حتى ولو كانوا مع رأيه في قتال الكفار داخل المدينة لخذل المسلمين أيضًا بأعذار أخرى، إن المسلم المطيع يكون مع الجماعة حتى ولو قررت خلاف رأيه، فكيف وقد قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج؟ فعليه الالتزام، ويروى أنه لما انخذل عن المسلمين بثلث الجيش، وقال: أطاعهم وعصاني – يعني النبي – والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا؟ فرجع بمن تبعه من أهل النفاق، ولحق به عبدالله بن عمرو بن حرام، فقال له: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولما لم يسمعوا منه وأبوا إلا الانصراف، قال لهم: أبعدكم الله أعداء الله وأعداء رسوله، فسيغني الله عنكم، ثم أتت البشارة من الله تعالى للشهداء وما سيلاقون في آخرتهم من سعادة ونعيم وأنهم وإن ماتوا في الدنيا فإنهم أحياء في الآخرة: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 169 – 171]، ورد أن هذه الآية نزلت في حمزة وأصحابه من شهداء أُحد، وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما أصيب إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترِد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا!))، وفي لفظ: ((قالوا: مَن يبلغ إخواننا أنَّا أحياء في الجنة نرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب؟! فقال الله: أنا أبلغهم عنكم))؛ فأنزل: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ﴾ [آل عمران: 169].



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى