Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين)


﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 122]

 

لقد كانت هناك وجهَتي نظرٍ في تحديد الطائفة التي تتفقه في الدين طبقًا لهذه الآيةِ المباركة من سورة التوبة: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].

 

فهناك من ذهب إلى أنَّ الطائفة التي تظل مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه العلم الشرعي، ويعلموا معانيه، ويفقهوا أسراره، وليعلموا غيرهم، عند عودتهم من الجهاد، قائلين أن في هذا فضيلة العلم، وخصوصا الفقه في الدين، وأنه أهم الأمور، وأن من تعلم علمًا، فعليه نشره وبثه في العباد، ونصيحتهم فيه، فعلى المسلمين في حالة عدم النفير العام، أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين:

1- قسم يبقى مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليتفقه في دينه.

 

2- وقسم آخر يخرج للجهاد في سبيل الله، فإذا ما عاد المجاهدون، فعلى الباقين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يبلغوا العائدين ما حفظوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

وهنا يظهر للعيان أن الذين يبررون هذا الرأي يفضلون القاعدين لأجل تعلم الفقه من رسول الله، وأنهم هم العلماء وأنهم أفضل درجة من الذين خرجوا للجهاد، وأنَّهم هم الذين سيعلمون العائدين من الجهاد ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله بين ظهرانيهم، وهذا يثير الاستغراب! لأنَّ رسول الله هو مُبلغ وحي الله ولا يزال يمارس دوره كرسولٍ للبشرية يبلِّغ رسالته.

 

أما الرأي الآخر، فيرى أن الطائفة النافرة هي التي ستتفقه بما تعاين من نصر الله لأهل دينه ولأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فتفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإِسلام، وظهوره على الأديان، من لم يكن فقه، ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ﴾ فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله، مثل الذى نزل بمن شاهدوا، ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك، إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾؛ أي: لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله، حذرًا من أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم.

 

وهذا الرأي له أصل من تأويل ابن عباس – رضي اللّه عنهما – ومن تفسير الحسن البصري، واختيار ابن جرير، وقول لابن كثير – أن هذا الدين منهج واقعي، لا يفقهه إلا من يتحرك به؛ فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه؛ بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه؛ وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به.

 

أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا، لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا؛ ولا فقهوا فقههم؛ ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون.

 

وهذا الرأي له ما يشير إلية القرآن الكريم في سورة العلق حيث يأمرنا الله أن نفقه الواقع أولًا، في الأمر بالقراءة الأولى، حتى نستطيع أن نستوعب ونفهم ما جاءنا من كتاب ربنا في الأمر بالقراءة الثانية: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 – 5].

 

فالتعمُّق في دراسة الواقع وفهمه ومعرفته معرفةً تامّةً يثمر نضجًا في فهم الدين؛ ذلك أن تنزيل حكمٍ شرعيٍّ على واقعةٍ ما، لا يُمكن إلا بفهم ملابسات وظروف هذا الواقع.

 

ويتعلَّق فقه الواقع بمسألةٍ مهمّة ذات بعدٍ عقدي، وهي صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان، وهذا مقتضى شمولها وكمالها، إنَّ فقه الواقع مبني على دراسة الواقع المعيش دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصائيات.

 

فالفقيه هو الذي يتفقَّد أحوال الناس، ويخرج إلى أماكن عملهم في المؤسسات التعليمية، والطبية، والحكومية، والدكاكين، والبساتين، وورشات الأعمال، والمقاولات؛ حتى تكون له دراية بما يجري في عالم الناس.

 

مع العلم أن تاريخ الأمة الإسلامية سجل لنا حضورَ الفقهاء ومشاركاتِهم في ميادين كثيرة من المهن، والحرف، وأنواع التجارة، فكان منهم الخراز، والزيات، والخياط، والنساج، والجندي وهلم جرًّا..

 

وعلى ضوء ما سبق، يمكن القول: إنَّه لا يمكن إيجاد الأحكام، أو تنزيلُها تنزيلًا صحيحًا على المستجدَّات إلا من قِبَلِ الفقيه المجتهد الذي توفَّرت فيه ضوابطُ وشروط الاجتهاد، وكان أيضًا ماهرًا في كيفية التنزيل، ومحيطًا إحاطةً كاملةً بفقه الواقع الذي يعيشُه هو أولًا، ومجتمعه ثانيًا، فمن كان ضعيفًا فيه زلَّ في تقرير الأحكام، والْتبستْ عليه المسائل حتى صار يتخبَّط في كثيرٍ من الأوهام.

 

والتجارب تقطع على أن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه؛ مهما تفرغوا لدراسته في الكتب – دراسة باردة! – وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس؛ ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق! الجالسين في استديوهات التصوير والنشر في الفضائيات والنت، ويُجيشون من ينافقهم ويمجدهم ويعلوا بهم ويتعصب لرأيهم سواء بالحق أو الباطل.

 

فالحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه، والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه. ولم يكن قط فقهًا مستنبطًا من الأوراق الباردة، بعيدًا عن حرارة الحياة الواقعية!

 

وهذا ما يؤكده قول الله تعالى: ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].

 

لقد انتشر الإسلام في بقاع الأرض بحركة هؤلاء الحاملين للواء حركة الحياة بشمولها، في القرون الأولى للإسلام، ثم توقف هذا المد وتجمد، في العصور الحالية، بل تم هيمنة أعداء الله علي بقاع الأرض بتوقف منهج الله في الحياة وحركتها، وأصبح القاعدون بين الأوراق، ثم بين كمرات التصوير وجدران الفضائيات، وصفحات النت، ويدَّعون أنهم ورثة الجيل الأول من الصحابة، ولديهم أوراق فهم هذا الجيل من الصحابة في خزائنهم، ويفتون بعلمهم دون فهم واقع الحياة، وليس أدل على ذلك من اختلاف المسلمين في توقيت أعيادهم لجمود هؤلاء في فقههم.

 

وقد تعجبت كمسلم أن أرى اختلاف قبلة بعض المساجد لعشرات السنين على بعد مئات الأمتار من بعضها لتمسك البعض على رأيه رغم التقدم العلمي في تحديد القبلة، بل ذهب البعض أن يرفض إزالة التراب من المسجد على أساس أن التراب طاهر، ودليله أننا نتيمم به ونصلي، وأنه يعلم هذا من الدين والآخرون جهلة لا يعلمون مثله.

 

لا يخفى أننا نعيش اليوم في أمواج التكنولوجيا العاتية، والتي فيها أمورٌ غامضةٌ جدًّا، فلا بد إذًا من الإحاطة بتلكم الأحداث، وتلكم المسائل التي صارت جزءًا لا يتجزَّأ من حياة الناس اليوم.

 

لذلك لم يجعل الله تعالى الأنبياء ملائكة، بل بشرًا يوحى إليهم، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتزوجون وينجبون، حتى تكون حياتهم مشابهة لحياة الناس، قريبين منهم، يعايشونهم ويفهمون أحوالهم، ويرشدونهم إلى تطبيق الدين في واقعهم، وينبغي لأهل العلم أن يكونوا كذلك على قدر كافٍ من القرب من الناس ومعايشتهم وفهم واقعهم، حتى تتحقق فيهم صفة القدوة ويكونوا أقدر على الإرشاد.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى