Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

معاوية الملك المحنك


معاوية الملك الْمُحنَّك

 

” لقد كان معاوية ملكًا حقًّا، لكنه كان يملك من العبقرية والكفاءة ما يجعله خليقًا بهذا الْمُلك، ولم يعتمد البطش والإرهاب سبيلًا لسيطرته واستتباب حكمه، بل كانت السياسة الرشيدة العاقلة الحكيمة التي اختطَّها هي التي حفِظت له هذا الملك عشرين عامًا دون منازع، ولا أبالغ إذا قلتُ: إن نهج معاوية في هذا الشأن هو قبس من نهج النبوة، فكان غزوُ القلوب والإحسان إليها هو الأصل، مع الوعي والحذر الشديدَين ألَّا تنتفضَ الأمة عليه “.

 

روى أبو داود من حديث سعيد بن جمهان عن سفينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلافة النبوة ثلاثون سنةً، ثم يُؤتي الله الملك – أو ملكه – من يشاء))؛ قال سعيد: قال لي سفينة: “أمْسِكْ عليك: أبا بكر سنتين، وعمر عشرًا، وعثمان اثنتي عشرة، وعليٌّ كذا، قال سعيد: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليًّا عليه السلام لم يكن بخليفة، قال: كذبت أسْتَاهُ بني الزرقاء؛ يعني بني مروان”.

 

قال الذهبي: “وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالَون فيه، ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد وُلِدوا في الشام على حبِّه، وتربَّى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق”.

 

ذكر ابن كثير في البداية عن الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ أنه وفد على معاوية، قال: فلما دخلت عليه حسبت أنه قال: سلمت عليه، فقال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟ قال: قلت: ارفضنا من هذا، وأحْسِن فيما قدمنا له، فقال: لتكلمني بذات نفسك، قال: فلم أدَعْ شيئًا أعيبه عليه إلا أخبرته به، فقال: لا تبرأ من الذنوب؟ فهل لك من ذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك؟ قال: قلت: نعم، إن لي ذنوبًا إن لم يغفرها هلكت بسببها، قال: فما الذي يجعلك أحق بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوالله لما إليَّ من إصلاح الرعايا، وإقامة الحدود، والإصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل الله، والأمور العظام التي لا يحصيها إلا الله، ولا نحصيها أكثر من العيوب والذنوب، وإني لَعلى دين يقبل الله فيه الحسنات، ويعفو عن السيئات، والله على ذلك ما كنت لأُخيَّر بين الله وغيره إلا اخترتُ الله على غيره مما سواه، قال: ففكرت حين قال لي ما قال، فعرَفت أنه قد خصمني، قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك، دعا له بخير.

 

روى الطبراني في “المعجم الكبير” عن أبي قبيل، يأثُر عن معاوية بن أبي سفيان أنه صعِد المنبر يوم الجمعة فقال عند خطبته: “إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، فمن شاء أعطيناه، ومن شئنا منعناه”، فلم يُجِبْهُ أحد، فلما كان الجمعة الثانية، قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد، فلما كان الجمعة الثالثة، قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن حضر المسجد فقال: كلا، إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا، فنزل معاوية فأرسل إلى الرجل فأدخله، فقال القوم: هلك الرجل، ثم دخل الناس، فوجدوا الرجل معه على السرير، فقال معاوية للناس: إن هذا الرجل أحياني أحياه الله؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيكون أئمة من بعدي، يقولون ولا يُرَدُّ عليهم، يتقاحمون في النار، كما تتقاحم القردة))؛ [قال الهيثمي: رجاله ثقات]، وإني تكلمت أول جمعة، فلم يرد عليَّ أحد، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية، فلم يرد عليَّ أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم، ثم تكلمت في الجمعة الثالثة، فقام هذا الرجل، فردَّ عليَّ فأحياني، أحياه الله.

 

قال الليث: حدثني علوان بن صالح بن كيسان، أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقِيَهُ الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجَّه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار، صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم؛ فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا، ودخل، فسكَّن عائشة بن عثمان، وأمرها بالكف، وقال لها: يا بنت أخي، إن الناس أعطَونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبِعْناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشترَوا منا، شحُّوا علينا بحقنا، وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم، نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا، وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إليَّ أن تكوني أمة من إماء المسلمين، ونِعْمَ الخَلَفُ أنا لكِ بعد أبيكِ.

 

روى أبو داود الطيالسي عن عبدالرحمن بن أبي بكرة، قال: وفدنا إلى معاوية مع زياد، ومعنا أبو بكرة، فدخلنا عليه، فقال له معاوية: حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفعنا به، قال: نعم، كان نبي الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا الصالحة، ويسأل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: ((أيكم رأى رؤيا؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، إني رأيت رؤيا، رأيت كأن ميزانًا دُلِّيَ من السماء، فوُزنت أنت وأبو بكر، فرجَحتَ بأبي بكر، ثم وُزِن أبو بكر بعمرَ، فوزن أبو بكر عمرَ، ثم وُزْن عمر بعثمان، فرجَح عمرُ بعثمانَ، ثم رُفع الميزان، فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء))، فغضب معاوية، وزَخَّ في أقفائنا فأُخْرِجنا، فقال زياد لأبي بكرة: ما وجدت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا تحدث به غير هذا؟ فقال: والله لا أحدثه إلا به حتى أفارقه، قال: فلم يَزَلْ زياد يطلب الإذن، حتى أذِن لنا، فأدخلنا، فقال معاوية: يا أبا بكرة، حدِّثنا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفعنا به، قال: فحدَّثه أيضًا بمثل حديثه الأول، فقال معاوية: لا أبا لك، تخبرنا أن نكون ملوكًا، فقد رضينا أن نكون ملوكًا.

 

إن جوَّ الحرية الذي مارسه المسلمون في ظل معاوية هو الذي هيَّأ المجال الخصب للطاقات الإسلامية أن تنموَ وأن تُبْدِعَ، وهيَّأ المناخ لمتابعة الفتوحات الإسلامية التي توقفت قرابة عشر سنين؛ نتيجة الصراعات الداخلية، والفتنة الكبيرة في الدولة الإسلامية.

 

ومعرفة معاوية بالرجال، وحرصه على الكفاءات، سدَّ الطريق أمام المتسلقين والمتزلِّفين والمنافقين أن يكون لهم صَولةٌ في سلطانه، حتى الشخصيات الكبيرة كان لا يغفر لها الهفوة والذلة، إذا كانت تمس المبدأ والعقيدة؛ فعبدالرحمن بن خالد رضي الله عنهما كان من أبرز الشخصيات بجوار معاوية في محنته، وكما رأينا معاوية مع أخيه عنبسة كيف يعزله عندما رأى عنصر التشفي والحقد هو الذي يحكمه، فها هو يعامل ابن خالد كذلك.

 

قال عبدالرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة لمعاوية: أما والله لو كنا بمكة على السواء، لعلمت، قال معاوية: إذًا كنت أكون معاوية بن أبي سفيان، منزلي الأبطح، ينشق عني سيله، وكنت عبدالرحمن بن خالد، منزلك أجياد، أعلاه مَدَرَةٌ، وأسفله عَذِرة.

 

وفَخَرَ مولًى لزياد بزياد عند معاوية، فقال له معاوية: اسكت، فوالله ما أدرك صاحبك شيئًا بسيفه، إلا أدركت أكثر منه بلساني.

 

أما ما يتعلق بالتوريث، فقد أخطأ معاوية بلا شك، ولكنه خطأ لا ينال من مكانته؛ فقد كان رأيه الخشية على الأمة من الفتنة والانقسام بعدما عاش فتنة قتل عثمان رضي الله عنه، وما حدث من قتال علي رضي الله عنه، ثم قتل علي، ثم خلافة الحسن والانقسام.

 

فكان يرى أنه لا بد من جمع الناس خشية تفتُّت الدولة، خاصة وقد فتح الله عليه بالجهاد في سبيل الله بلادًا عديدة (42 غزوة تمت في عهده، حتى وصلت إلى أسوار القسطنطينية)، واتسعت دولة الإسلام.

 

قال ابن كثير: “وقد كان معاوية لما صَالحَ الحسن عهِد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوِيَ أمر يزيدَ عند معاوية، ورأى أنه لذلك أهل؛ وذاك من شدة محبة الوالد لولده، ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك، ومعرفتهم بالحروب، وترتيب الملك والقيام بأُبَّهتِه، وكان ظنَّ ألَّا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى؛ ولهذا قال لعبدالله بن عمر فيما خاطبه به: إني خفت أن أذَرَ الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راعٍ، فقال له ابن عمر: إذا بايعه الناس كلهم، بايعته، ولو كان عبدًا مُجدَّع الأطراف”.

 

أما من يتفلسفون بالليبرالية وحرية الشعب، فإن أوروبا ظلت قرونًا عديدة تُحكَم بالملكية، ولم نَرَ منهم نقدًا لهم، وما زالت الملكية البريطانية تحكم، ولها سلطات، وتشمل الصلاحيات الملكية صلاحيات قبول تعيين رئيس الوزراء في جلسة خاصة تسمى جلسة تقبيل اليدين، لا يتم الموافقة إلا بها، وتعيين الوزراء وعزلهم، وتنظيم الخدمة المدنية، وإصدار جوازات السفر، وإعلان الحرب، وصنع السلام، وتوجيه أعمال الجيش، والتفاوض والتصديق على المعاهدات والتحالفات والاتفاقيات الدولية، ولا يعترضون، ولا تسمع لهم همسًا؛ لأنهم عبيدٌ للغرب.

 

ولا يفوتني التأكيد على أن الشريعة الإسلامية تفرض على المسلمين الشورى في اختيار الحاكم، والتفصيل يطول في اختيار الحاكم.

 

“ومن جهة ثانية، فإمكانات الحكم ورجاله وسلاحه كلها متوفرة في الشام، وبنو أمية عصب الملك؛ قد تمرَّسوا بمسؤوليات الحكم، وخَبَروا أساليبه، وجمهور قاعدة الحكم من الجنود وأجهزة الدولة قد انصاعوا على الولاء لمعاوية رضي الله عنه، فأي تغيير جديد في هذه الأجهزة قد يعيد البلبلة والفوضى من جديد”.

 

فلقد ذكر ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي قال: قال معاوية: “يا أيها الناس، ما أنا بخيركم وإن منكم لَمن هو خير مني – عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل – ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدرَّكم حلبًا”.

 

ولقد صدق الواقع حدس معاوية ونبوءته، فبعد هلاك يزيد، ماذا كان الأمر؟ العراق والحجاز لعبدالله بن الزبير، والشام لعبدالملك بن مروان، وسالت الدماء أنهارًا، حتى انتصر عبدالملك على خصمه.

 

وتلك العراق التي أقضَّت مضجع الخلافة الإسلامية هي نفسها التي تعلن الثورة على يزيدَ، وتستدعي الحسين بن علي رضي الله عنهما، ثم تقوده إلى الذبح متخلية عنه، بعد أن منحوه قلوبهم، وشهروا عليه سيوفهم.

 

وعندما دُعِيَ ابن الزبير رضي الله عنه إلى أن يمضي إلى الشام، رفض ذلك؛ لأن أركان الحكم في الشام، وجنوده وأعوانه لا يرتاح إليهم أولًا، ولا يمكن أن يخلصوا له من جهة ثانية.

 

لقد تركَّز الملك ومفاهيمه في الشام، ولقد تبدَّل الكثير من أسس الخلافة الأولى التي كانت تربِط الأمة بالمبدأ أكثر من ربطها بالشخص.

 

هكذا آل الوضع، وصدق معاوية حين قال: رضينا بها ملكًا.

 

والجمع بين معاوية وابنه يزيدَ بحكم واحد جهلٌ وخَلَلٌ في الفَهم، وظلم، فمعاوية صحابي جليل، يترضَّى عنه أهل السنة، بخلاف ابنه يزيدَ، فهو ليس صحابيًّا، وهو الذي في حكمه تم قتل الحسين رضي الله عنه ومن معه من أهله؛ وقد قال الله تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم: 38].





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى