اخبار وثقافة

لويس التاسع فى الأسر.. القصة الكاملة للحملة الصليبية السابعة وهزيمتها فى مصر

ثقافة أول اثنين:


تمر اليوم ذكرى أسر ملك فرنسا لويس التاسع، وذلك بعدما ترأس حملة صليبة جديدة هى رقم (7) فى تاريخ الحملات وقرر الاستيلاء على مصر.


يقول كتاب “مُجمَل تاريخ دمياط : سياسيًّا واقتصاديًّا” لـ جمال الدين الشيال:


فى 25 أغسطس سنة 1248م/4 جمادی الأولى سنة 646  أبحر من مياه فرنسا أسطولٌ ضخم يزيد على 1800 سفينة تحمل ثمانين ألف مقاتل ومعهم عدتهم وسلاحهم ومئونتهم وخيولهم، وكان قائد هذه الحملة الملك القديس لويس التاسع ملك فرنسا.


ومرت هذه الحملة – فى طريقها إلى مصر – بجزيرة قبرص، فقضت بها بعض الوقت وقد أخطأت فى هذا، لأنها لو اتخذت طريقها إلى مصر دون تلكؤ لفاجأت الجيش المصرى قبل أن يستعدَّ ويتخذ للحرب أهبته.


ثم أقلعت الحملة من قبرص، ودمياط قبلتها، ولكن رياحًا عاصفة اعترضتها فى طريقها، فاضطرت عددًا كبيرًا من سفنها – نحو ٧٠٠ سفينة – إلى الانفصال والجنوح إلى شواطئ الشام.


وكانت علاقات الودِّ والإخاء تربط بين ملوك الأيوبيين — منذ عهد الملك الكامل — وبين ملوك صقلية النورمانديين، ويقال إن ملك صقلية فى ذلك الوقت — الملك فردريك الثانى — أرسل أحد رجاله متخفيًا فى زى تاجر إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب — وكان مقيمًا فى الشام حينذاك — ليبلغه نبأ هذه الحملة كى يستعدَّ لمقابلتها.


الفرنج ينزلون بدمياط في عهد الملك الكامل.


وكان الملك الصالح مريضًا مرضًا خطيرًا يعوقه عن ركوب فرسه، غير أنه انزعج لهذا الخبر، ولم يُبالِ بآلام مرضه، وأمر أن يُحمَل فى مَحفَّة، وعاد مسرعًا إلى مصر، ونزل عند قرية أشموم طناح فى المحرم سنة ٦٤٧ (أبريل ١٢٤٩م) وأصدر أوامره فى الحال بالاستعداد.


فشُحنت دمياط بالأسلحة والأقوات والجنود، وبعث إلى نائبه فى القاهرة — الأمير حسام الدين بن أبى على — يأمره بإعداد سفن الأسطول، ففعل وأرسلها إلى دمياط شيئًا بعد شيء، ثم أرسل الملك الصالح الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ على رأس جيشٍ كبير ليُعسكر فى البر الغربى لدمياط ليكون فى مقابلة الفرنج إذا قدموا.


هذه الحوادث الأولى وحوادث الحملة جميعًا تدل على أن المصريين أفادوا كل الفائدة من الحملة الماضية، كما تدل على أن الصليبيين لم يفيدوا شيئًا من أخطائهم فى الحملة السابقة، فقد أدرك المصريون أن حملة جان دى بريين قد نزلت أول ما نزلت على الشاطئ الغربى لدمياط؛ ولذلك أمر الملك الصالح جيشه بأن يعسكر على هذا البر ليمنع نزول الصليبيين عليه، وقد كان السبب الأكبر فى فشل الحملة الأولى أنها نزلت على دمياط وأرادت الوصول إلى القاهرة بالمسير بمحاذاة فرع دمياط فاعترضتها المجارى المائية الكثيرة المتفرعة عن هذا الفرع، وكان يمكنهم أن يتفادوا هذا الخطأ فى محاولتهم الثانية فينزلوا على الإسكندرية ولكنهم لم يفعلوا.


 


وفى الساعة الثانية من نهار الجمعة لتسع بقین من صفر سنة 647 (يونيو1249) وصلت سفن الفرنسيين إلى الشاطئ المصرى وأرست بإزاء المسلمين، فراعهم كثرة الجيوش المصرية على الشاطئ، كما خطف بأبصارهم بريق أسلحة المسلمين، وعلا صهيل خيولهم وزادت جلبة جندهم، فأفزع الفرنسيين وهم لا يزالون فى سفنهم. يصف «جوانفيل» — مؤرخ الحملة وأحد قوادها — الرهبة التى ملكت على الفرنسيين أنفسهم عند رؤية الجيش المصرى فيقول: «وصل الملك أمام دمياط، ووجدنا هنا كل جيوش السلطان تقف علی الشاطئ: كتائب جميلة تسر الناظرين، ذلك أن أسلحة السلطان قد صُنعت من ذهب، فكانت الشمس تشرق على هذه الأسلحة فتزيدها بريقًا ولمعانًا، وكانت الجلبة التى يأتون بصنوجهم وأبواقهم الشرقية تُدخل الرعب فى أفئدة السامعين”.


 


وفى اليوم التالى استطاع الفرنسيون أن ينزلوا الجند إلى البر — بعيدًا عن معسكر المصريين — وبدأت المناوشات بين الجيشين.


وهكذا بدأت المعركة: الجيش المصرى كبير العدد وافر العُدَّة — كما وصفه الفرنسيون أنفسهم — ودمياط على الشاطئ الشرقى مدينةٌ مسوَّرة حصينة قوية قد شحنت بالجند والأقوات والأسلحة؛ لأن السلطان لم ينسَ أن هزيمتها السابقة إنما كان سببها انعدام الأقوات بعد طول الحصار، فلو أن الأمور سارت سيرًا طبيعيًّا لاستطاع المصريون أن يهزموا هذه الحملة — رغم قوتها وكثرة جندها — ويردوها عن مصر فى يسر وسهولة، ولكن الحوادث تطورت تطورًا آخر.


 


فكما أن مؤامرة ابن المشطوب كادت تُنزِل الهزيمة بالجيش المصرى وتُوقِع الفرقة والاضطراب بين جنوده فى عهد الكامل، كذلك جد فى حوادث هذه الحملة حادثٌ خطير كاد ينتهى بها إلى نفس النتيجة.


 


كان السلطان الملك الصالح نجم الدين مريضًا — کما ذكرنا — ومقيمًا فى أشموم طناح، وقد اشتد به المرض حتى أصبح على شفا حفرة من الموت، فلما وصلت السفن الفرنسية إلى شاطئ دمياط أطلق الأمير فخر الدين الحمام الزاجل يحمل النبأ إلى السلطان، وتعدَّدت رسائله دون أن يتلقى ردًّا، فأدرك أن السلطان قد مات، فانتظر حتى وافى الليل وانسحب بجيشه كله من الشاطئ الغربى إلى دمياط، ثم تركها وسار جنوبًا متجهًا إلى معسكر السلطان عند أشموم طناح، وأعمته العجلة فلم يحطم الجسر الذى كان يصل بين الشاطئين الشرقى والغربى فتركه کما هو.


 


ونظر أهالى دمياط فوجدوا الجيش الذى أتى لحمايتهم قد غادر المدينة، فخافوا على أرواحهم وخرجوا فى الليل تاركين مدينتهم وأموالهم وديارهم «ولحقوا بالعسكر فى أشموم طناح وهم حفاة عرايا جياع حيارى بمن معهم من النساء والأولاد، وفرُّوا هاربين إلى القاهرة، فأخذ منهم قطاع الطرق ما عليهم من الثياب وتركوهم عرايا


 


ومع أن السلطان كان فى أشد حالات المرض فقد غضب على فخر الدين ومن كان معه من القواد غضبًا شديدًا، وأنَّبه على فعلته، وأمر بشنق خمسين أميرًا من أمراء الكنانية الذين كانوا يتولون الدفاع عن المدينة، وكاد يأمر بقتل فخر الدين نفسه، غير أن الوقت كان حرجًا فكتم غيظه إلى أن تنكشف الغمة، وأصبح الفرنسيون فوجدوا معسكر المصريين خلاء فظنوها مكيدة، فأرسلوا كشافتهم يستطلعون، ولَشدَّ ما كانت دهشتهم عندما وجدوا الجسر قائمًا والمدينة خالية تمامًا من الجنود والأهلين، فعبر الجيش الفرنسى إليها واستولى عليها دون عناء، وفرح بها الفرح كله فقد كانت مشحونة كما ذكرنا بالعتاد والمئونة.


 


كان الملك لويس يستطيع أن يتقدَّم فى هذه اللحظة نحو الجنوب قبل أن يفيق المصريون من الارتباك الذى حلَّ بهم، ولو أنه اتبع هذه الخطة لكتب له النصر، غير أنه تلكَّأ فى دمياط مدة تقرب من الستة شهور ينتظر وصول بقية سفنه التى جنحت بها الريح نحو شواطئ سوريا، هذه المدة كانت كافية تمامًا لأن يتم فيها المصريون استعدادهم ويستعيدوا نشاطهم ويجمعوا صفوفهم.


 


ولما وصلت السفن الشاردة دعا الملك لويس التاسع قواده للتشاور ولاختيار الطريق الذى يسلكونه، أيتجهون نحو الإسكندرية أم يسيرون قدمًا إلى القاهرة؟ وأشار الكونت بيتر البريطانى Count Peter of Brittany  ومعظم قواد الجيش بالمسير إلى الإسكندرية والاستيلاء عليها أولًا، وكانت حجتهم معقولة وصحيحة من الناحية الحربية، وتتلخَّص فى أن الإسكندرية كميناء تفضل دمياط فى كثير؛ فهى أصلح لإيواء سفنهم، وإليها يستطيع أسطولهم أن يصل بالميرة من بلادهم فى وقتٍ قصير وجهدٍ قليل، غير أن الكونت أرتوا Artois — أخو الملك لويس — عارض هذا الرأى ونصح الملك بالاتجاه مباشرة نحو القاهرة للاستيلاء عليها، وحجته فى ذلك أن القاهرة هى عاصمة الديار المصرية كلها، فالاستيلاء عليها یستتبع حتمًا الاستيلاء على مصر كلها، وأضاف إلى هذا قوله: «إذا أنت أردت قتل الأفعى فاضربها على رأسها.» واحتدم النقاش، وانتهى بإعراض الملك عن رأى قواده، وأخذه برأى أخيه، وتقرر بذلك مسير الجيش الفرنسى جنوبًا نحو القاهرة، فكان هذا القرار حلقة جديدة فى سلسلة الأخطاء التى انتهت بفشل الحملة.


أما المعسكر المصرى فقد اضطرب اضطرابًا شديدًا لانسحاب حامية دمياط وفرار أهلها، ووقوعها فى يد العدو، وكان السلطان الملك الصالح معسكرًا بأشموم طناح والمرض يشتد به يومًا بعد يوم، ولكنه مع هذا لم يفقد شجاعته، بل قرر أن يتراجع مع جيشه جنوبًا إلى مدينة المنصورة لأنها تمتاز بموقعٍ حصين، فالنيل يحميها غربًا، وبحر أشموم طناح يفصل بينها وبين قوى الفرنسيين فى الشمال، وبدأ الجند المصريون فى تحصين المنصورة فأصلحوا السور الذى كان يحيط بها وستروه بالستائر «وقدمت الشوانى المصرية بالعُدد الكاملة والرجالة، وجاءت الغزاة والرجال من عوام الناس الذين يريدون الجهاد من كل النواحي، ووصلت عربان كثيرة جدًّا، وأخذوا فى الغارة على الفرنج ومناوشتهم.» وأخذ هؤلاء المجاهدون والعربان يهاجمون معسكرات الفرنسيين حتى أقضُّوا مضاجعهم، فلم يكن يمر يوم دون أن يعودوا بعدد من الأسرى.


 


وفى ليلة الاثنين النصف من شعبان سنة ٦٤٧ (٢٢ نوفمبر ١٢٤٩) مات السلطان الملك الصالح فكانت الطامة الكبرى؛ لأن الجند لو علموا بموته لتفرق شملهم وضعفت روحهم المعنوية، ولكن القدر هيأ لمصر فى تلك الساعة العصيبة امرأةً حازمة مدبِّرة هى شجرة الدر زوجة الملك الصالح، فقد أخفت عن الجميع خبر موت السلطان وأمرت بحمل جثته سرًّا فى حَرَّاقة إلى قلعة الروضة، وعهدت للأمير فخر الدين بقيادة الجيش، وكان الأطباء يدخلون كالعادة إلى حجرة السلطان كل يوم وكأنهم يعودونه، كما كانت الأوراق الرسمية تدخل إلى نفس الغرفة وتخرج ممهورة بإمضاء السلطان وعلامته بخط يُشبه خطه كل الشبه.

حملة لويس التاسع تغادر فرنسا إلى دمياط.
حملة لويس التاسع تغادر فرنسا إلى دمياط.


 


وأرسلت الرسل إلى الملك المعظم تورانشاه بن الصالح — وكان مقيمًا فى حصن كيفا — لاستدعائه إلى مصر. وبهذه الإجراءات السريعة الحكيمة أنقذت مصر من أزمتها، وسارت الأمور سيرًا طبيعيًّا.


 


ووصلت أخبار موت السلطان — رغم كتمانها — إلى الفرنسيين فى دمياط، فانتهزوا الفرصة وبدءوا زحفهم نحو الجنوب حتى وصلوا إلى المنصورة، فعسكروا شمال بحر أشموم، وأصبح هذا البحر حاجزًا بين معسكرهم ومعسكر المسلمين، وبدأ كلٌّ من الفريقين يستعد للمعركة الحاسمة.


 


أما الفرنج فقد بدءوا يحصنون معسكرهم فحفروا حوله — كعادتهم — خندقًا وأقاموا سورًا وستروه بالستائر، ونصبوا المجانيق، وأتت شوانيهم فوقفت بإزائهم فى النيل، وأما المصريون فكانوا مطمئنين إلى مدينتهم وحصانة موقعهم، فأخذوا يناوشون الفرنج ويتحيلون فى اختطافهم وأسرهم، وكانوا يَفْتنُّون فى مناوشاتهم ويأتون فيها بكل طريف. وقد روى بعض المؤرخين أن جنديًّا مصريًّا قور بطيخة وحملها على رأسه وغطس فى الماء حتى حاذى الفرنج، فظنه بعضهم بطيخة ونزل لأخذها، فشطره المصرى بسيفه وحمله إلى معسكر المسلمين.


 


ورأى ملك الفرنسيين أنه لا يستطيع الغلبة على المصريين إلا إذا التحم معهم فى معركة، ولا سبيل إلى هذا وبحر أشموم يفصل بينه وبينهم؛ ففكَّر فى بناء جسر على هذا البحر ليعبر عليه جنوده إلى البر الآخر، وصدرت الأوامر بإقامة هذا الجسر، ولكن الفرنسيين لم يكادوا يتمُّون بضعة أمتار من الجسر حتى تساقط عليهم وابل من قذائف المسلمين ردَّهم على أعقابهم، فرأى الملك أن يبنى برجين زودهما بالقذائف والقاذفين لحماية العمال الذين يعملون فى البحر، وعاد الفرنج إلى عملهم يبغون إتمام الجسر للعبور عليه، ولكن المسلمين استطاعوا بمهارتهم الحربية وخطتهم الموفَّقة أن يفسدوا على أعدائهم عملهم، فكان الفرنج كلما أتموا من جسرهم مترًا هدم المسلمون أمتارًا أمامه فى شاطئهم المقابل، فاتسع المجرى من جديد. يقول جوانفيل — مؤرخ الحملة وأحد فرسانها: «فكانوا يفسدون علينا فى يومٍ واحد ما كنا نُنجزه فى أسابيع ثلاثة


 


وإلى هذا كله استعدَّ المصريون بمجانيقهم ومقاليعهم، فكانوا يمطرون الفرنسيين وأبراجهم بقذائف من النار اليونانية التى أنزلت الرعب فى أفئدتهم ونالت من شجاعتهم كل منال، وليس أورع من وصف جوانفيل لهذا الذعر الذى استولى على الفرنسيين أمام هذا السلاح الخطر حين يقول: وقال ولتر دى كوريل Walter de Cureil: «أيها السادة، نحن فى خطرٍ داهم لأن العدو لو صوب النار نحو أبراجنا وبقينا نحن فى أماكننا لأتانا الموت من كل مكان، ولو أننا غادرنا مراكزنا التى استولينا عليها للحقَنا العار، فلا منقذ لنا من هذا الخطر الداهم إلا الله … فنصيحتى إليكم أن نخرَّ سجَّدًا — كلما صوبوا هذه النار حولنا — لنبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن ينجينا من هذا الخطر.» ولم يكن الملك لويس نفسه أقل جزعًا من رجاله، يقول جوانفيل واصفًا الرعب الذى استحوذ على الملك: «وكانت النار ترسل فى انطلاقها الأضواء الباهرة التى تملأ رحاب المعسكر فيبدو وكأننا فى وضح النهار، ولقد صوَّب العدو النار نحونا هذه الليلة ثلاث مرات، كما أطلقوها من قِسِيِّهم أربع مرات، وكان الملك القديس كلما سمع أن النار الإغريقية قد صوبت نحونا انتصب واقفًا على سريره ورفع يديه إلى السماء وابتدأ الصلاة وعيونه مُخضلَّة بالدموع وهو يقول: أيها الإله الطيب احفظ لى شعبي


يتضح من هذه الحوادث والأقوال أن الغلبة كانت للمصريين فى أول المعركة ولو سارت الأمور سيرًا طبيعيًّا لتمَّ النصر النهائي، ولكن خائنًا من البدو دل الفرنسيين فى ذلك الحين على مخاضة فى بحر أشموم — يستطيع الفرسان عبورها على خيولهم — نظير مبلغ من المال.


 


وفرح الفرنسيون بهذا الكشف، ووضع الملك لويس خطةً جديدة للمعركة: وتتلخَّص هذه الخطة فى أن يعبر الكونت أرتوا بفرقة الفرسان من هذه المخاضة، فإذا وصل إلى الشاطئ الذى يعسكر فيه المسلمون اشتبك معهم فى قتالٍ مؤقت ليشغلهم عن مهاجمة الفرنسيين الذين يقيمون الجسر إلى أن يتمُّوه، فإذا تم بناء الجسر عبر عليه لويس ببقية جيشه، وانضم إلى فرسان الكونت أرتوا، وانقضُّوا جميعًا على جيش المسلمين.


 


كانت الخطة كما ترى مُحكَمة وخطرة، ولو أنها نُفِّذت كما وُضعت لقضى الفرنسيون على الجيش المصرى قضاءً مبرمًا، ولكن تهوُّر الكونت أرتوا كان السبب فى فشلها.

جنود لويس التاسع يدخلون دمياط ويُحيلون جامعها كنيسة.
جنود لويس التاسع يدخلون دمياط ويُحيلون جامعها كنيسة.


 


عبر أرتوا بفرسانه هذه المخاضة فى الرابع أو الخامس من ذى القعدة سنة ٦٤٧ (فبراير سنة ١٢٥٠) وانقضَّ على معسكر المسلمين فجأة فشتَّت شملهم لأنهم لم يكونوا مستعدِّين للقتال؛ إذ لم يخطر على بالهم أن يهاجموا من هذه الناحية، وكان قائد الجيش الأمير فخر الدين فى الحمام عندما علم بهجوم الفرنج على معسكره، فخرج مشدوهًا، وركب فرسه دون أن يتَّخذ للدفاع عدته، فدهمه فرسان الفرنج، فتفرق عنه جنده، وتكاثرت عليه الرماح والسيوف حتى خرَّ صريعًا، وانقلبت بهذا هزيمة الفرنسيين إلى نصرٍ باهر، وفرح أرتوا بهذا النصر السريع، وملكه حماس الشباب فلم يقف عند نهاية الجسر لحماية العاملين فيه — كما أمره أخوه — وإنما اندفع بفرسانه إلى المنصورة ودخلها، وتقدَّم حتى وصل إلى قصر السلطان بها، وكاد النصر النهائى يتم للفرنسيين لولا أن صمدت لهم فرقة المماليك البحرية بقيادة ركن الدين بيبرس، وحملت على الفرنسيين حملةً عنيفة حتى ردَّتهم عن القصر، فلما فروا راجعين تعقبتهم بالسيوف والدبابيس، وأقام الأهالى المتاريس فى الطرقات، واشتبك الفريقان فى قتالٍ عنيف فى شوارع المدينة وأزقَّتها، واتخذ السكان حصونًا من منازلهم يلقون من نوافذها بالقذائف والحجارة على الفرنسيين.


 


وانتهت المعركة أخيرًا بالقضاء على فرقة الفرسان قضاءً مبرمًا، وكان فى مقدمة الضحايا الكونت أرتوا قائدها.


 


وكان الفرنسيون — أثناء هذه المعركة — يجدُّون ويبذلون كل الجهد لإتمام الجسر حتى يتمكنوا من العبور عليه والانضمام إلى فرسانهم، ولكنهم لم يكادوا يشرفون على إتمامه حتى وصلتهم أخبار الهزيمة التى نزلت بجنودهم؛ فنال هذا الخبر من شجاعتهم وفقدوا قوتهم المعنوية، فكانوا يلقون بأنفسهم إلى النيل يبغون العودة إلى معسكرهم. وبهذه الهزيمة عاد الفريقان إلى ما كانا عليه، كلٌّ منهما على شاطئ، والبحر الصغير يفصل بينهما.


 


وبعد أيام قليلة وصل الملك المعظم تورانشاه إلى مصر، واستقرَّ فى قصر السلطنة بالمنصورة يوم الثلاثاء تاسع عشر ذى القعدة سنة ٦٤٧ (فبراير ١٢٥٠)، وفرح المصريون بسلطانهم الجديد وبدءوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم.


 


ولجأ تورانشاه إلى الحيلة التى سبق أن لجأ إليها المصريون فى عهد جده الملك الكامل عندما نزلت بنفس المكان جيوش جان دى بريين، فأمر بأن تصنع سفن بالمنصورة، وحملت هذه السفن مُفصَّلة على الجمال إلى بحر المحلة حيث أعيد تركيبها، ومُلئت بالمحاربين وسارت شمالًا، فلما وفدت سفن الفرنج تحمل الميرة من دمياط خرجت عليها هذه السفن، «فأخذت مراكب الفرنج أخذًا وبيلًا — وكانت اثنتين وخمسين مركبًا — وقُتل منها وأُسر نحو ألف إفرنجي، وغُنم سائر ما فيها من الأزواد والأقوات، وحُملت الأسرى إلى المعسكر، فانقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقع الغلاء عندهم وصاروا محصورين لا يطيقون المقام ولا يقدرون على الذهاب


 


واشتدت الضائقة بالفرنسيين لانقطاع الميرة من دمياط؛ فأرسل الملك لويس إلى السلطان يطلب الصلح ويعرض عليه أن يتنازل عن دمياط مقابل بيت المقدس، ولكن السلطان رفض هذا الطلب، فلم يجد لويس بُدًّا من الاستمرار فى المقاومة حتى يستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فأشعل النار فى أسلحته وعتاده، ورحل بجيشه — ليلة الأربعاء لثلاث مضین من المحرم سنة ٦٤٨ (أبريل ١٢٥٠) — متجهًا إلى دمياط، ولم يكد يصل إلى فارسکور حتى كانت جيوش المصريين قد لحقت به وانقضَّت علی جيشه انقضاض الصاعقة فقضت على معظمه، حتى قيل إن من قتل من فرسان الفرنسيين كان أكثر من عشرة آلاف، كما أسر من الخيالة والرجالة والصناع ما يناهز مائة ألف، وارتقى الملك لويس وأمراء جيشه تلًّا هناك وسألوا الأمان فأُمِّنوا، وأُسر لويس وقواده وحمل إلى المنصورة حيث سُجن بدار ابن لقمان التى لا تزال بقاياها قائمة حتى اليوم، ووُكل بحراسته الطواشى صبیح.


ولم يكن المعظم تورانشاه كأبيه ثباتًا واتزانًا وحكمة، بل كان شابًّا أهوج، فلم يقدِّر لزوج أبيه شجر الدر تدبيرها، ولا للماليك البحرية جهدهم، بل أخذ يهدد شجر الدر ويطالبها بمال أبيه، كما أبعد مماليك أبيه، وقرَّب إليه حاشيته التى وصلت معه من كيفا، وصار إذا سكر جمع الشمع وضرب رءوسها بسيفه حتى تنقطع، ويقول: «هكذا أفعل بالبحرية.» فتآمر عليه هؤلاء المماليك البحرية واقتحموا عليه البرج الخشبى الذى كان يقيم به فى فارسكور، فأدرك الشرَّ فى عيونهم، وصعد إلى أعلى البرج، فرموه بالنشاب، وأطلقوا النار فى البرج، فألقى بنفسه من أعلاه وجرى نحو النيل فلحقوا به وقتلوه. وكان ذلك فى التاسع والعشرين من المحرم سنة ٦٤٨ (مايو ١٢٥٠).


 


وهكذا كاد المصريون يفقدون بهذه الفعلة النصر الباهر الذى أحرزوه ولم يمضِ عليه غير خمسة وعشرين يومًا، ولكن المماليك سرعان ما تداركوا الموقف فأجمعوا على إقامة شجر الدر ملكة على مصر، فكان حدثًا فذًّا فى تاريخ العالم الإسلامى كله، كما عيَّنوا الأمير عز الدين أيبك قائدًا أعلى للجيش.

الملك لويس في الأسر بعد هزيمته.
الملك لويس في الأسر بعد هزيمته.


 


وبدأت المفاوضات بين الملك لويس وبين المصريين، وتولَّاها عنهم الأمير حسام الدين بن أبى على — نائب السلطنة فى عهد الملك الصالح — وتم الاتفاق أخيرًا على إطلاق سراح الملك وجميع الأسرى على أن يخلوا دمياط وأن يدفعوا مبلغ أربعمائة ألف دينار فدية للملك، يدفعون نصفها قبل أن يطلَق سراحه والنصف الآخر بعد وصولهم إلى عكا. وجمعت الملكة — وكانت مقيمة فى دمياط — نصف المبلغ المطلوب، فأطلق المصريون سراح الملك، ودخل المسلمون ثانية إلى دمياط، ورفعوا عليها العلم المصرى يوم الجمعة الثالث من صفر، بعد أن ظلَّت فى أيدى الفرنج أحد عشر شهرًا وتسعة أيام. وهكذا أقلعت فلول الحملة إلى عكا بعد أن ودعها شاعر مصر جمال الدين بن مطروح بقصيدته المشهورة التى يقول فيها:


 


قل للفرنسيس إذا جئتَه مقال نُصح عن قئولٍ فصيح


آجَرك الله على ما جرى من قتل عُبَّاد يسوع المسيح


أتيتَ مصرًا تبتغى ملكها تحسب أن الزمر يا طبل ريح


فَساقك الحَيْن إلى أدهمٍ ضاق به عن ناظرَيك الفسيح


وكل أصحابك أوْدعتهم بحسن تدبيرك بطن الضريح


سبعون ألفًا لا يُرى منهمُ إلا قتيل أو أسيرٌ جريح


وفَّقك الله لأمثالها لعل عيسى منكم يستريح


إن كان باباكم بذا راضيًا فرُبَّ غِشٍّ قد أتى من نصيح


وقل لهم إن أضمروا عودةً لأخذ ثار أو لفعل قبيح


دار ابن لقمان على حالها والقيد باقٍ والطواشى صبيح


 


 


 


 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى