Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

إبراهيم عليه السلام (2)


إبراهيم عليه السلام (2)

 

تحدَّثتُ في الفصل السابق عن صور مشرِقة مِن دعوة إبراهيم عليه السلام، وذكرتُ في آخرها ما كان مِن المُناظرة بين الخليل عليه السلام وبين ملك الكلدانيين الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه، وكيف أقام إبراهيم عليه السلام الحُجة الدَّامغة، فبُهت الذي كفر، ولم يزل إبراهيم عليه السلام يوالي دعوة قومه إلى الله، ويحاولُ إخراجَهم من الظلمات إلى النور، وفي ذلك يقولُ الله عز وجل: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [العنكبوت: 16 – 26].

 

وقد هاجر إبراهيمُ عليه السلام ومعه زوجتُه سارة ولوط إلى الشام، وفي ذلك يقولُ الله عز وجل: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 – 71].

 

وقد أشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى تعاونِ الوزغ مع قوم إبراهيم في محاولة إحراقه، وأنَّ الوزغ كان ينفخ على إبراهيم؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أم شريك رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وفي لفظ البخاري: ((كان يَنفخ على إبراهيم)).

 

وقد ثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم)).

 

وقد نزل إبراهيم عليه السلام بالشَّام – وهي بلاد الكنعانيين – ومعه زوجته سارة ولوط، فأرسل الله عز وجل لوطًا إلى أهل سدوم وعمورة ونواحيها من دائرة الأردن، وسار إبراهيم وسارة إلى مصر، فأُخبر ملكُ مصر بَجمال زوجة إبراهيم، وأُغري بها فنجَّاها الله منه، وأَخْدَمَها هاجرَ، فوهبتها لإبراهيم، فرزقه الله منها إسماعيلَ عليه السلام، ورجع إبراهيم بأهله إلى الأرض المقدَّسة بفلسطين، وصار بين سارة وهاجر بعض الشيء لما قضاه الله عز وجل أن يعمِّرَ ولدُها إسماعيل مع أبيه البيتَ الحرام بمكة، فهربتْ هاجرُ من سارة، وأمر الله عزَّ وجل إبراهيم أن يحمل هاجرَ وإسماعيل لمكة.

 

واتَّخذتْ هاجرُ منطقًا تشدُّ به وسطها وترسلُ طرفه كذيل خلفها يُعفي آثارها على سارة؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أوَّل ما اتَّخذ النِّساء المنطق مِن قِبل أم إسماعيل، اتَّخذتْ منطقًا لتعفي أثرَها على سارة، ثمَّ جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحَدٌ، وليس بها ماءٌ، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمرٌ وسقاءٌ فيه ماء، ثم قَفَى إبراهيم منطلِقًا، فتبعته أمُّ إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيِّعنا، ثم رجعت.

 

فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثَّنيَّة – حيث لا يرونه – استقبل بوجهه البيتَ ثمَّ دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾، حتى بلغ ﴿ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، وجعلَتْ أمُّ إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب مِن ذلك الماء؛ حتى إذا نفد ما في السِّقاء عطشت وعطشَ ابنُها، وجعلت تَنظر إليه يتلوَّى أو قال: يتلبَّط، فانطلقتْ، كراهيةَ أن تَنظر إليه، فوجدت الصَّفا أقربَ جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثمَّ استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثمَّ أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، ففعلت ذلك سبعَ مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فذلك سَعي النَّاس بينهما))، فلما أشرفَتْ على المروة سمعَتْ صوتًا فقالت: صه! تريد نفسَها، ثم تسمَّعتْ فسمعت أيضًا، فقالت: “قد أسمعت إن كان عندك غِواثٌ”، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف مِن الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحم الله أمَّ إسماعيل لو تركت زمزم))، أو قال: ((لو لم تغرف مِن زمزم لكانت زمزم عينًا معينًا))، قال: فشربَتْ وأرضعت ولدَها، فقال لها الملك: “لا تخافوا الضيعة؛ فإن هاهنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإنَّ الله لا يضيع أهله”، وكان البيت مرتفعًا مِن الأرض كالرابية، تأتيه السيولُ فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رفقةٌ من جُرْهُم، أو أهل بيت مِن جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: “إن هذا الطائر ليدور على ماء، لَعَهْدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرِيًّا أو جريَّين – “أي: رسولًا أو رسولين” – فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا، وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزلَ عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حقَّ لكم في الماء، قالوا: نعم.

 

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحبُّ الأنس))، فنزلوا فأرسلوا إلى أهلهم، فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات وشبَّ الغلام وتعلَّم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شبَّ، فلمَّا أدرك زوَّجوه امرأةً منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوَّج إسماعيل يُطالِع تركتَه، فلم يجد إسماعيلَ، فسأل امرأتَه عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، وفي رواية: يصيدُ لنا، ثمَّ سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضِيقٍ وشدَّةٍ، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجُك اقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنَّه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم مِن أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا، فأخبرته أنَّا في جهدٍ وشدَّةٍ، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيِّرْ عتبةَ بابِك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الْحَقِي بأهلك، فطلَّقها وتزوَّج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثمَّ أتاهم بعدُ فلم يجده، فدخل على امرأته فسأل عنه قالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخيرٍ وسعةٍ، وأثنَتْ على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهمَّ بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه))، قال: فهما لا يَخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السَّلام، ومريه يُثبت عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسَن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تُثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.

 

ثمَّ لبث عنهم ما شاء الله، ثمَّ جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة قريبًا مِن زمزم، فلمَّا رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، قال: يا إسماعيل، إنَّ الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإنَّ الله أمرني أن أبني بيتًا هاهنا، وأشار إلى أَكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد مِن البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر ووضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127].

 

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى