العلامة السيد أبو الحسن الندوي رحمه الله
الكتاب الذي لا أنسى فضله[1]
العلامة السيد أبو الحسن الندوي رحمه الله
يتحدث العلامة السيد أبو الحسن رحمه الله في مقاله هذا عن كتاب “رحمة للعالمين”، الذي كانت منَّتُه عظيمة عليه، وإنه لا يزال دائم الترحُّم على صاحبه، كيف، وقد أتحفه بمِنحة المحبة التي هي أغلى المنح بعد الإيمان؟ وإن السبب الأكبر في ذلك – كما يقول العلامة نفسه – هو أخوه الأكبر السيد عبدالعلي الحسني، الذي تولى تربيته وتثقيفه؛ فقد كان رحمه الله ينظر في الكتب، ويقدم إلى أخيه للمطالعة، حتى تربى بذلك على إكثار القراءة، وبخاصة فيما يتعلق منها بالسيرة، وهكذا نشأ في صغره على حب السيرة النبوية الذي هو المؤثر الأكبر في تكوين العقيدة والسلوك والأخلاق.
يبدأ السيد مقاله بحكاية عن كتاب في السيرة، وما جرى له ولوالدته الكريمة في شرائه، فقد وقع بصره مرة على كتاب في فهرس الكتب، فأرسل طلبًا للشراء، وتقصرت ميزانيته القليلة عن ذلك، لكن الصغار ينساقون مع العواطف والأحاسيس، بدل أن يخضعوا لقانون الميزانيات، فلم يَرَ شفيعًا في هذه المهمة إلا شفيع الدموع والبكاء، الذي طالما يلجأ إليه الصغار، ولم يزل وجيهًا ومسموعًا عند الكبار، وكذلك كان، فرقَّ له قلب أمه الحنون، ووافقت على شراء الكتاب.
ثم يخوض الكاتب في صفحات الكتاب، ويمر بقصصها التي تهز القلب هزة رقيقة رفيقة، ولا عنيفة مزعجة، ويهتز لها القلب، وهذا هو الفارق بين هزة سائر الكتب، والكتب التي أُلِّفت في سيرة خير البشر صلى الله عليه وسلم، فالأُولى تغير على القلب وتزعجه، والثانية تريح القلب وتسكنه.
إن القارئ لما يطالع كتب السيرة، يشعر بلذة عجيبة تختلف عن سائر اللذات؛ فلا تشبه لذة الطعام بعد الجوع المهلك، ولا لذة الثروة والمال بعد الفقر المنسي، ولا لذة الراحة والفراغ بعد الدراسة المضنية والاشتغال المرهق، ولا لذة الثوب الجديد في يوم العيد، ولا فرح الانتصار والظفر في الاختبارات، بل إنها لذة يعرف طعمها، ولا يمكن وصفها بدقة، ولا التعبير عنها بكلمة.
يتصفح المؤلف رحمه الله أوراق الكتاب، ويرى فيها حياة الأبطال الذين آثروا الأخرى على العقبى، فضحُّوا بالدنيا في سبيل الآخرة، وبالأنفس في سبيل الدعوة، والذين تنهال عليهم أنواع العذاب في سبيل الدعوة؛ فمنهم من يضرب، ومنهم من يضطهد، ومنهم من يُهان، لكنهم يتحملون كل ذلك في صبر وثبات، بل في لذة وسرور، وذلك تجعل النفوس تتمنى، وتسعد بهذه الكرامة، ولو مرة في العمر.
يعُجِب الكاتب شاب ناعم من قريش؛ حيث يسلم فيفدي كل ما يملك من العيش الناعم، واللباس الفاخر، والطعام الأنيق، والقصر الشامخ، ويراه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتخشن في اللباس، ويتقشف في المعيشة، ويمسك رداءه بالشوك، فيدمع هذا المنظر عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الشاب هو مصعب بن عمير، فتى الفتيان، ومثال الترف في اللباس، والبذخ في المعيشة، حتى يصبح حديث الوادي، لكنه صار إلى أن استُشهد رضي الله عنه، ولم يخلف إلا كساء واحدًا، يقرأ الكاتب هذه الحكاية، ويعرف أن وراء كل هذه النعم لذة ترغب فيها القلوب السليمة، ويجهلها أصحاب اللذات والشهوات، وحاجة تطمح إليها همم الأبطال، ويتقاصر عنها الأثرياء والملوك.
يتابع العلامة القراءة بالهدوء والسكون، واللذة والسرور، حتى يمر بقصة الهجرة، تلك القصة التاريخية التي يرتسم منظرها في النفوس والذاكرات، وما أجملها من قصة في الصدق والبساطة، والحب والإخلاص! ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن ربه، فيؤذن له، وينطلق مع حبيبه وخليفته أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى المدينة المنورة، وقد تعلقت بهما القلوب، وطمحت إليهما الأبصار، ورغبت فيهما الأنفس، يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فيتقدم إليه الأنصار فردًا فردًا، وقبيلة قبيلة، كلٌّ يقول له في صدق وإخلاص: “هلم إلينا يا نبي الله” وما أجمل هذا المنظر! لكنه يأبى، ويأبى الله أن يكون هذا الشرف – الذي ليس فوقه شرف – لأحد سوى أبي أيوب الأنصاري وأهله رضي الله تعالى عنهم، يقرأ كل هذه القصة، ويجد قلبه قد فارقه، ورافق ركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه يشاهد هذا المنظر بعينيه، ويجد أن كل ما عرفه من الحب والإخلاص من بشرٍ لِبَشَرٍ، قد ذاب وغاب في هذا المشهد.
وأخيرًا يحكي رحمه الله غزوة أحد التي تمثل الحب والوفاء، والبطولة والشجاعة، والإيمان واليقين، فيهزه قول من قال: “إني لأجد ريح الجنة من دون أُحُدٍ”، ويعجبه الذي يجود بنفسه، وهو في آخر عهده بالدنيا، لكنه يشتاق إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُحمل إليه، ويلفظ نَفَسَه الأخير بين قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسره أيضًا ذلك الشجاع الذي يترس نفسه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدافع عنه مقابل السهام، وهو منحنٍ عليه، إلى غير ذلك من مظاهر البطولة والشجاعة والتفاني، يقرأ المؤلف هذه المشاهد العظيمة، وقد يغلبه الحزن والبكاء، فيبكي، وقد يملكه السرور والفرح، فيفرح.
كما لا ينسى الكاتب الحسنة التي أحسنها إليه الكتاب وصاحبه المخلص بإثارة الحب الكامن في القلب، وتوجيهه إلى خير البشر الذي فُطِر على الحسن والإحسان، والصداقة والإخلاص؛ فالحب هو محصول الحياة ولب اللباب، ولا لذة في الحياة دونه؛ وقد صدق القائل وأجاد في قوله: “إن الحب هو الحب الوحيد في العالم، وكل ما عداه تبن وحشيش”، وكذلك صدق من قال: “قاتل الله اليوم الذي مضى، ولم أذق فيه الحب، ولا بارك الله في الساعة التي مضت، ولم أشعر فيها لذة الحب”.
إن الحب شيء امتاز به مَن امتاز مِن الناس بين أقرانهم، وعاش به مَن عاش مِن الناس عيشة راضية، وهو القوة التي إذا ملكها الرجال، قهروا الأمم، وإذا ملكته الأُمَّة، قهرت العالم، لكن الأمة في العصر الذي نعيش فيه، ملكت مالًا طائلًا وجاهًا عريضًا، وأفلست في إكسير الحياة؛ فأصبحت جسدًا ميتًا يُحمل على الأكتاف، والأسف كل الأسف أن الطبقة العصرية المتعلمة التي تعلقت بها الآمال، وطمحت إليها الأبصار، أصبحت أكثر إفلاسًا، وأضعف مقاومة، وأجف روحًا، وأكدر حياة، وأضل عملًا، وأخف وزنًا.
هذا، ويُتِمُّ الكاتب رحمه الله مقاله بالشكر لصاحب الكتاب، ولا غرو؛ فقد أهداه نعمتين عظيمتين لا مثيل لهما بعد نعمة الإسلام؛ هما: نعمة الحب، ونعمة هدفه الصحيح، ويا لهما من نعمة!
[1] عنوان المقال الأول من كتاب “الطريق إلى المدينة”؛ للداعية المفكر السيد أبي الحسن الندوي رحمه الله.