نكبة القدس سنة 626 هـ
نكبات أصابت الأمة الإسلامية وبشائر العودة
نكبة القدس سنة 626 هـ
التاريخ في حقيقته مجال للاعتبار والعِظات؛ لتتعلم الأمة من تاريخها ما يعينها على بناء الحاضر، واستشراف المستقبل.
وأخرج البخاري في (الأدب المفرد) عن هشام عن أبيه قال: “كنت جالسًا عند معاوية فحدَّث نفسه ثم انتبه، فقال: لا حليم إلا ذو تجربة”، وأخرج من حديث أبي سعيد مرفوعًا: “لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة”؛ [أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان، فتح الباري، ج: 17، ص: 32].
وبين الألم والأمل أنقُل النكبات التي أصابت الأمة الإسلامية على مدار التاريخ مع بعض بشائر العودة إلى طريق ربها؛ لتُمسك بزمام القيادة من جديد؛ ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].
الذي يبحث حال الأمة يجد أن فترات الضعف فيها أكثر من فترات القوة، فترات الضعف فيها تتسم الأمة باللجوء إلى الله، والسعي لوحدة الصف والاعتصام بحبل الله المتين، فيقيِّض الله لهذه الأمة قائدًا يصحح لها المسار؛ لتعود إلى رشدها، ويكون النصر حليفها وتقْوَى، وبعد فترة من وقت القوة والتمكين يتسرب الترف إلى القيادة والطغيان، والنزاع والفرقة، والولاء لغير الله؛ فتضعف الأمة، وتُسلب منها مقدراتها استلابًا، وهكذا.
فسُنَّة الله غير قابلة للتبديل والتغيير؛ ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43]؛ قال السعدي: “فلم يبقَ لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنة الله في الأولين، التي لا تُبدل ولا تُغير، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد، أن يحل به نقمته، وتُسلب عنه نعمته، فليترقب هؤلاء ما فعل بأولئك”؛ [تيسير الكريم الرحمن، ج: 1، ص: 691].
ونعيش مع نكبة أصابت الأمة، وكيف خرجت منها، ومن هو القائد الذي صحح المسار.
وبداية حديثي بالملك الكامل الذي فرَّط في القدس لصديقه الملك الصليبي فردريك الثاني.
الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، تملَّك الديار المصرية أربعين سنةً، وتُوفي سنة 635 ه، عقد الملك الكامل محمد صاحب مصر سنة (626 ه) هدنة لمدة عشر سنوات مع الإمبراطور الألماني فردريك الثاني؛ قائد الحملة الصليبية السادسة الهزيلة، سلَّم الملك القدس لفردريك، على أن يتعهد بمنع أي حملة صليبية طوال عشر سنوات من أوروبا.
ويصف ابن الأثير حال المسلمين: “وتسلُّم الفرنج البيتَ المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأَكْبَروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه، يسَّر الله فتحه بمنه وكرمه”؛ [الكامل في التاريخ، ج: 1، ص: 434].
وعاد الإمبراطور إلى بلاده بعد أن حقق ما لم تحققه أي حملة صليبية منذ الحملة الأولى.
ثم فتح بيت المقدس الناصر داود بن عيسى637 هـ، بعد انتهاء الهدنة،وتولى حكم مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل سنة 637ه، وتوفي 647هـ/1249م مرابطًا بالمنصورة ضد الحملة الصليبية السابعة، بقيادة لويس التاسع، والتي انتصر فيها المسلمون، وكان أفضل ملوك بني أيوب بعد صلاح الدين.
قال الذهبي عنه: “كان عزيز النفس، عفيفًا، حييًّا، وقورًا، وكان يحب أهل الفضل والدين، والمماليك مع فرط جبروتهم وسطوتهم، كانوا أبلغ من يهاب السلطان، وإذا خرج يرعِدون منه”؛ [سير أعلام النبلاء، ج: 23، ص: 187].
من أعمال نجم الدين أيوب:
♦ بناء المدارس بمصر لتخريج العلماء.
♦ استقبال الشيخ عز الدين بن عبدالسلام بعدما أخرجه الصالح إسماعيل من دمشق، فأكرمه نجم الدين وولَّاه خطابة جامع عمرو بن العاص بمصر، وقلَّده قضاء مصر والوجه القبلي.
♦ إبطاله حانات الخمور، وذلك حين خرج على قومه في أبهى زينته، التفت الشيخ عز بن عبدالسلام إليه، وناداه بصوت مرتفع: “يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملكَ مصر ثم تبيح الخمور؟”، فأمر بإغلاقحانات الخمور، وكان نجم الدين يلتزم برأي العز ولا يخالفه.
♦ مصر معمورة بالعلماء في حكم نجم الدين أيوب: “سنة 641 ه، قال شمس الدين ابن الجوزي: ودخلتُ تلك الأيام إلى الإسكندرية، فوجدتها كما قال الله تعالى: ﴿ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50] معمورة بالعلماء والأولياء؛ كالشيخ محمد القباري، والشاطبي، وابن أبي الشامة، ووعظت بها مرتين”؛ [تاريخ الإسلام للذهبي، ج: 14، ص: 345].
قتال ملوك بني أيوب:
ودبَّ النزاع والفرقة للأسف من جديد بين بني أيوب، واستعان بعضهم على بعض بالصليبيين؛ يقول المقريزي: “في سنة 641هبعث الصالح إسماعيل بن أبي بكر سلطان دمشق وابن أخيه الناصر داود بن عيسى سلطان بيت المقدس، ووافقا الفرنج على أنهم يكونون عونًا لهم على ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب سلطان مصر، ووعداهم أن يسلما إليهم القدس، وسلماهم طبرية وعسقلان أيضًا، وتمكن الفرنج من الصخرة بالقدس، وجلسوا فوقها بالخمر، وعلقوا الجرس على المسجد الأقصى.
واستعان نجم الدين بالخوارزمية من بلاد الشرق لمحاربة أهل الشام.
نجم الدين أيوب ملك مصر يحرر القدس صفر 642هـ:
قطع الخوارزمية الفراتوهم زيادة على عشرة آلاف مقاتل، فساروا إلى غوطة دمشق، وهم يقتلون ويسبون، وتحصن الصالح إسماعيل بدمشق، وضم عساكره إليه، بعدما كانت قد وصلت غزة وهجم الخوارزمية على القدس، وبذلوا السيف فيمن كان به من النصارى، حتى أفنوا الرجال، وسبوا النساء، وساروا إلى غزة فنزلوها”؛ [السلوك لمعرفة دول الملوك، ج: 1، ص: 418].
معركة غزة:
“نزل الخوارزمية على غزة، وأرسل إليهم الصالح أيوب الأموال والعساكر بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس، فاتفق الصالح إسماعيل، والناصر داود، والمنصور صاحب حمص مع الفرنج، واقتتلوا مع الخوارزمية وعساكر مصر قتالًا شديدًا، فهُزمت الفرنج بصلبانها وراياتها العالية، على رؤوس أطلاب المسلمين، وقُتل من الفرنج زيادة عن ثلاثين ألف، وأسروا جماعةً من ملوكهم، وخلقًا من أمراء المسلمين.
وقد قال بعض أمراء المسلمين: قد علمتُ أنَّا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنَّا لا نفلح”؛ [البداية والنهاية، ج: 13، ص: 192].
ليتحرر المسجد الأقصى نهائيًّا من أيدي الصليبيين في صفر 642 هـ/ يوليو 1244م، ولم يجرؤ جيش صليبي أن يدخلها مدة سبعة قرون، حتى دخلها الإنجليز خلال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م).
تزييف تاريخ الإسلام:
تاريخ الأمة هو روحها النابض ومنطلقها للنهضة، وأعداؤنا هدفهم تصوير تاريخنا جملة من الخلافات والصراعات، وإظهار نقاط الضعف لتنطفئ روح الكفاح، نعم، صراعات وقتال على سلطان الحكم بما فيه من ولاء البعض لغير الله، لكن العاقبة في النهاية للحق وأهله، وهذه التفاعلات سنة من سنن الله تعالى، وإنما هو تاريخ أمة حين تفرط في أمر ربها، تُدَنَّس مقدساتها، وتتخلف عن زمام القيادة وركب الحضارة.
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59].