Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

نوح عليه السلام (3)


نوح عليه السلام (3)

 

ذكرتُ في المقال السابق أن المستكبرين في الأرض بغير الحقِّ هم الذين سارعوا إلى معارضة دعوة نوح عليه السلام، وقد جرت العادةُ بأن الكبراءَ هم الذين يَبدؤون بمحاربة الأنبياء والمرسلين ودعاة التوحيد لله عز وجل؛ لاعتقادهم بأنهم إذا ردوا هذا الحقَّ استبقوا مناصبهم ورياستهم؛ ولذلك قال هنا: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا ﴾ [هود: 27]، والملأ هم وجوهُ القوم ورؤساؤهم وأعيانهم، وهذا أمرٌ عجيب وفساد في الرأي ظاهر؛ إذ هم ينكرون نبوَّته؛ لأنه بشر، وهذه الشبهة بعينها وُجِّهَتْ من أعداء المرسلين لرسلهم، فكلما جاء أمةً رسولٌ ردوا دعوتَه بدعوى أنه بشر، وقالوا: كيف تكون رسولًا وأنت من البشر؟ وجهلوا أن إرسال الرسول من البشر هو مِن أعظم منن الله على خلقه؛ لأنَّه هو الذي يتكلَّم بلسانهم، ويتمكَّنون من مجالسته والاستفادة منه، ولو أرسل لهم ملكًا لأرسله في صورة البشَر، وقد وصف الله سائرَ المكذِّبين للرسل بأنهم ردوا دعوةَ الحق التي جاء بها المرسلون بدعوى أن الرسل بشر؛ حيث يقول تعالى في سورة إبراهيم: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [إبراهيم: 10، 11]، وهذه الشبهة في غاية الضَّعف، وقد ردَّها الله تبارك وتعالى في مقامات من كتابه الكريم؛ حيث يقول في سورة الإسراء: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94، 95]، وبيَّن أنه لو أرسل رسولًا غير بشر وجعله من الملائكة ما أطاقه الناس ولا يتمكَّنون من معايشته؛ ولذلك يقول عز وجل في سورة الأنعام: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾ [الأنعام: 9]، فالذي يفرُّون منه لا بد من أن يقعوا فيه، ولا طاقة للبشر على مصاحبة الملائكة في دار الدنيا، فإنَّ جبريل عليه السلام عندما تبدَّى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المهيأ صلى الله عليه وسلم لاستقبال الوحي، ورأى جبريل جالسًا على كرسي بين السماء والأرض له ستمائة جناح يملأ الأفق، خاف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورعب منه ورجع إلى أهله وقال: ((زمِّلُوني))؛ وذلك من شدَّة الخوف، فلو أن جبريل عليه السلام جاء للبشر غير المهيئين للرِّسالة والوحي ما تمكَّنوا مِن الاستفادة منه؛ ولذلك يتوعَّد الله عز وجل المكذِّبين المعاندين الذين يردون رسالةَ الرسل بدعوى أنهم بشر، وأنهم لا يؤمنون إلَّا إذا جاءهم رسول ملكي، حيث يقول عز وجل في سورة الفرقان: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ﴾ [الفرقان: 21، 22]، وقد كان جبريل عليه السلام يأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا في صورة رجل كدحية بن خليفة الكلبي، وأحيانًا يأتيه في صورة رجل مِن الأعراب، ولا يعرف الناس أنه جبريل حتى يخبرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك بعد انقضاء الوحي وذهاب جبريل عليه السلام؛ فقد روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشَّعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منَّا أحد، حتى جلس إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزَّكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا))، قال: صدقتَ، فعجبنا له يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه))، قال: صدقتَ، فأخبرني عن الإحسان، قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل))، قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: ((أن تلد الأَمة ربَّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان))، قال: ثمَّ انطلق، فلبثتُ مليًّا، ثم قال لي: ((يا عمر، أتدري مَن السائل؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل، أتاكم يعلِّمكم دينكم))، فالرسل هم الذين يتهيَّؤون للملائكة بما أعدهم الله تبارك وتعالى لذلك.

 

وعامَّة الناس إنما يتهيَّؤون للملائكة في الجنة إذا ماتوا على الإيمان، كما يجعل الله الموكلين بعذاب الكفار في النار ملائكة غلاظًا شِدادًا لا يَعصون اللهَ ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحيُ تفصَّد جبينه عرقًا في اليوم الشديد البرد، قالت عائشة رضي الله عنها كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: “ولقد رأيتُه ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، وإن جبينه ليتفصَّد عرقًا”، ومعنى “يتفصد عرقًا”، أي: يسيل العرق من جبينه، كما ذكر أن عنقه كان يسيل منه مثل الجمان، أي: قِطَع الفضَّة أو اللؤلؤ من العرَق عند نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُعِدَّ لذلك وهُيِّئَ له على حد قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124].

 

أمَّا الشبهة الثانية من شبه الملأ الذين كفروا مِن قوم نوح فهي أنَّ الذين اتَّبعوا نوحًا من الفقراء؛ ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾ [هود: 27]، وهذا كذلك أمر عجيب؛ إذ إنَّ هذه الشبهة مبنية على أن الغِنَى دليل العقل الثاقب والرأي السديد، وأنَّ الإنسان إذا كان عنده مال صار عاقلًا حكيمًا، مع أنه لا رابطة بين العقل والغنى على حد قول الشاعر:

كم عاقلٍ عاقل أَعْيَتْ مذاهبُه
وجاهلٍ جاهل تلقاه مَرزوقا

 

وكما قال الشاعر:

ولو كانتِ الأرزاقُ تَجري على الحِجا
هلكْنَ إذًا مِن جهلهنَّ البهائمُ

 

والغنى والعلم والعقل والصحَّة وغيرها أرزاق يَمنحها الله لمن يشاء مِن خلقه؛ ولذلك قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم توكلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطيرَ؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا))، فالله تبارك وتعالى قد يعطي إنسانًا مالًا ولا يعطيه علمًا، وقد يعطيه علمًا ولا يعطيه مالًا، وقد يعطيه مالًا وعلمًا، وأمَّا كون أتباع الأنبياء من الفقراء فقد ذكره هرقل عظيم الروم لأبي سفيان كما جاء في صحيح البخاري.

 

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى