Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

سيد القراء بلا منازع


سيد القُرَّاءِ بلا منازع

 

أقف في هذه اللحظة أيها القُرَّاء الكرام معكم وأتحدث في هذه العجالة وإياكم عن أغنى الشخصيات علمًا وعملًا، وأكثرها سحرًا وبيانًا، وأوعاها دينًا وقرآنًا، ونتذاكر معًا شيئًا من مواقفه وفضله وكراماته وعلمه في جملة من نصوص الوحي التي انبجست على جنبتيها فضلًا ورفعةً، كل فضل ورفعة دونها يتلاشى ويضمحل، ولا بدع فكل واحدة منها لا تقوم لها الدنيا وما فيها!

أجل، لقد انقطعت الألسنة دون وصفها، وحارت العقول في تصورها، وعجزت الأقلام عن رسمها، ولكنها مع ذلك دُوِّنت في الكواغِد والكراريس، لا يُخْلِقُ ديباجتَها هرمٌ، ولا يُلِمُّ بها قدم.

وآية لها أنك ترى كيف عجز صاحبها نفسه -كما سيأتي معنا- على سعة علمه وعظيم قدره عن تصوُّرها وتصديقها؛ ولذلك فقد ذهب الناس في معانيها مذاهب متشعبة، واختلفوا في شأنها اختلافًا كثيرًا، ولا أدري علامَ يختلفون وأين يذهبون؟! وهي تدل على معناها دلالةً واضحةً لا تشتبه وجوهها، ولا تتشعَّب مسالِكها.

وقد قال بعض أهل العلم -رحمة الله عليهم-: إنهم إنما أوتوا من جهلهم بهذه الشخصية التي تدل أوصافها عليه، وترشد فضائلها إليه.

وحتى لا أطيل: إنه سيِّدُ القُرَّاءِ بلا منازع، وأَقْرأُ هذه الأمة على الإطلاق، رأس في العلم والعمل -رضي الله عنه- وسيِّد المسلمين، وأوَّل من كتب للنبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- صاحب العبادة والعمل، وأكثرهم خوفًا ووجلًا من الله عز وجل.

لقد كان لفضله وعلمه يُسأل عن النوازل، ويُتحاكم إليه في المعضلات، أحد كِبار رجال الإسلام وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن، وجند الرحمن، من أئمة الهدى ومصابيح الدُّجى، وأنصح الأئمة للأمة، وأعلمهم بالأحكام وأدلتها، وأفقههم في دين الله، وأعمقهم علمًا، وأقلهم تكلُّفًا، وممن دارت رحى الفتيا عليهم، وانتشر العلم منهم وإليهم، ومن فقهاء الأمة -رضي الله عنهم أجمعين- إنه الصحابي الجليل: أُبَيُّ بن كعب رضي الله عنه.

وأسردها على عجل، فمن هذه المواقف والفضائل:

ما رواه البخاري رقم: (3599)، ومسلم رقم: (2465) عن أنس -رضي الله عنه- قال: ((جمع القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أربعة كلهم من الأنصار: أُبَيٌّ، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم)).

ولما كان في ظاهر الحديث ما يدل على الحصر أشكل هذا عند جماعة؛ لأن جماعة آخرون من الصحابة -رضي الله عنهم- قد جمعوه أيضًا؛ ولذلك تعددت أقوال أهل العلم في معنى الجمع؛ كالإمام الباقلاني، والنووي، والقرطبي، وابن بطَّال، وابن حجر، والسيوطي، وغيرهم رحم الله الجميع.

ومما قيل في معاني الجمع المذكور: أنه لم يجمعه على جميع الوجوه والأحْرُف، والقراءات التى نزل بها إلا أولئك النفر فقط، وقريب منه قول مَن قال: لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته وما لم ينسخ إلا أولئك، وقيل: إنه لم يجمع القرآن ويأخذه تلقينًا من فيِ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- غيرهم بخلاف غيرهم، فيحتمل أن يكون تلقَّى بعضه بالواسطة، وقيل: إن المعنى لم يَجمع القرآن على عهد النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- أي: من انتصب لتلقينه، وأقرأ الناس له غير تلك الطبقة المذكورة، وقيل: المراد بالجمع الكتابة فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظًا عن ظهر قلب، وأما هؤلاء فجمعوه كتابةً، وحفظوه عن ظهر قلب، وقيل: لأن هؤلاء تفرَّغوا لأن يُؤخَذ عنهم، أو أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أراد الإعلام بما يكون بعد وفاته -صلى الله عليه وآله وسلم- من تقدم هؤلاء الأربعة، وأنهم أقرأ من غيرهم، كما سيأتي الإشارة إليه بعد، وقيل: أي من الأوس بقرينة المفاخرة المذكورة، ولم يرد نفي ذلك عن المهاجرين، ولا شك أنه أيًّا كان المراد فإن جمعهم هذا على عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فضيلة جليلة، ومنقبة عظيمة.

ومنها: ما رواه البخاري رقم: (3549)، ومسلم رقم: (2464): أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبَيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم)).

وفي البخاري رقم: (3597) أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود- فبدأ به – وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنهم-)).

وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((استقرئوا القرآن))- بكسر الراء-: أي خذوه أو اطلبوه، وتأمَّل كيف تكرِّر ذكر أُبَيِّ بن كعب ومعاذ بن جبل- رضي الله عنهم- في جميعها: (الجمع، والاستقراء، والأخذ)، وهذا يدل كما قال بعض أهل العلم- رحمهم الله-: أنهم كانوا أكثر ضبطًا له، وأتقن لأدائه، وأحفظ لألفاظه وأحضرهم لآيه، وأنهم تفرَّغوا لأخذه مشافهةً؛ ولذلك تصدَّوا لأدائه من بعده -صلى الله عليه وآله وسلم- وندب إلى الأخذ عنهما، والاستقراء منهما، والله أعلم.

ومنها: ما روى الإمام مسلم في صحيحه رقم: (810): عن أُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟))، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)) قال: قلت: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] قال: فضرب في صدري، وقال: ((والله ليهنك العلم أبا المنذر)).

ورواه الإمام عبدالرزاق في مصنفه، ومن طريقه الإمام أحمد في مسنده، وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم: (3410): عن أُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((أي آية في كتاب الله أعظم؟))، فقال: اللهُ ورسولُه أعلمُ! يكررها مرارًا، ثم قال أُبَيٌّ: آية الكرسي، فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((لِيَهنِكَ العلمُ أبا المنذرِ! والذي نفسي بيده، إنَّ لها لسانًا وشَفَتَينِ تُقَدِّسان الملِك عند ساقِ العرش))؛ يعني: آيةَ الكرسيّ.

والمعنى: ليكن العلم هنيئًا لك، وهذا فيه لأُبَيٍّ -رضي الله عنه- منقبة عظيمة ومأثرة كريمة، ودليل على كثرة علمه وفقهه، وعظيم فضله ومنزلته، وكذا إجلاله وتبجيله، وإكرامه وتقديره، وشهادة له وإقرار بغزارة العلم ووفرته، ورسوخ قدمه فيه وعلو كعبه، فهي شهادة تنمحق دونها كل شهادة، وإقرار ينتهي عقبه كل إقرار.

ومنها: ما أخرجه أبو داود رقم: (907)، وجوَّد إسناده الخطَّابي في معالم السنن (1 /216)، وصحَّحه ابن حِبَّان رقم: (2242)، والنووي (4 /241)، والألباني وغيرهم، عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((صلى صلاة، فقرأ فيها فلبس عليه، فلما انصرف قال لأبي -رضي الله عنه-: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك))، والمراد: “أن تفتح عليَّ” كما عند الطبراني في الكبير رقم: (13216)، وفي مسند الشاميين رقم: (771).

فقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- لأُبَيٍّ -رضي الله عنه-: ((فما منعك أن تفتح عليَّ)) يدلنا على منزلة أُبَيٍّ -رضي الله عنه- وأنه من أقْرائهم -رضي الله عنهم أجمعين- وإلا لَمَا خَصَّه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بهذا.

ومنها: ما أخرج الإمام أحمد في مسنده (2 /412) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على أُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنه- وهو يصلي فقال: ((يا أُبَيُّ)) فالتفت فلم يجبه، ثم صلَّى أُبَيٌّ فخفَّف ثم انصرف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: السلام عليك أي رسول الله، قال: ((وعليك))، قال: ((ما منعك أي أبي إذ دعوتك أن تجيبني؟!)) قال: أي رسول الله، كنت في الصلاة، قال: ((أفلست تجد فيما أوحى الله إليَّ أن ﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24]؟!))، قال: قال: بلى أي رسول الله، لا أعود، قال: ((أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها؟))، قال: قلت: نعم أي رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ((إني لأرجو ألَّا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها))، قال: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بيدي يحدثني وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث، فلما أن دنونا من الباب، قلت: أي رسول الله، ما السورة التي وعدتني؟ قال: ((فكيف تقرأ في الصلاة؟))، قال: فقرأت عليه أُمَّ القرآن، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها للسبع من المثاني)).

فتأمل الحثَّ والتحضيض من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لأُبَيٍّ-رضي الله عنه- وحرصه على تعليمه بقوله: ((أتحبُّ أن أعلمك)) وأخذه -صلى الله عليه وآله وسلم- بيديه يحدثه وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إني لأرجو ألَّا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها)) من جهة، وحرص أُبَي -رضي الله عنه- على العلم وهو يتباطأ ليقضي نهمته مما وعده به رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وما كان عليه من الحرص- أيضًا- يوم قال: “أي رسول الله، ما السورة التي وعدتني؟” من جهة أخرى.

ومنها: ما روى البخاري رقم: (3598)، ومسلم رقم: (799) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لأبي -رضي الله عنه-: ((إن الله يأمرني أن أقرأ عليك: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة: 1]))، قال: وسَمَّاني؟ قال: ((نعم))، فبكى.

قال عبدالرحمن بن أبزى كما في تاريخ دمشق وغيره: قلت لأُبَيٍّ -رضي الله عنه-: وفرحت بذلك؟ قال -رضي الله عنه-: وما يمنعني، وهو يقول: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58]، وفي البخاري رقم: (4676): ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن))، قال أُبَيٌّ: آلله سمَّاني لك؟ قال: ((الله سَمَّاك لي))، وفي رواية أخرى للبخاري رقم: (4677): ((إن الله أمرني أن أقرئك القرآن))، قال -رضي الله عنه-: آلله سمَّاني لك؟ قال: ((نعم))، قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: ((نعم))، فذرفت عيناه.

وهذه القراءة وإن كانت قراءة إبلاغ وإنذار لا قراءة تفقه واستذكار، وقراءة تبليغ لا قراءة تعَلُّم؛ كيف وهو -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي نزل عليه القرآن، إلا أنها- ومع ذلك- منزلة شريفة ورتبة منيفة، وفيها تنبيه وإرشاد على جلالة أُبَيٍّ -رضي الله عنه- وأنه من أقرأ هذه الأمة إن لم يكن أقرأها، فقد أخرج الترمذي رقم: (3791)، وابن ماجه رقم: (154)، وابن حبان رقم: (2218) و(2219)، والحاكم (3 /422) وهو في السلسلة الصحيحة رقم: (1224): عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((..وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب))، وانظر للفائدة: رسالتي: التحقيق في عموم ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة: 40] مذخرة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عند ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ في الرحمة.

 

وأخرج البخاري رقم: (1906): عن عبدالرحمن بن عبد القاري أنه قال: “خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر -رضي الله عنه-: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب..”.

وأعلم أنه ما من أحد من رؤوس الصحابة- رضي الله عنهم- إلا وقد خُصَّ بخصيصة وهذه خصوصية أُبَيٍّ -رضي الله عنه-: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة: 1]؛ إذ لا يُعلَم أحد من الناس شاركه في هذا، وهي ميزة على أقرانه بإقراء حبيبه -صلى الله عليه وآله وسلم- عليه، وبلاغ وبيان للناس على فضيلة أبي -رضي الله عنه- في ذلك، وحثهم على الأخذ عنه؛ ولذلك فقد كان بعده -صلى الله عليه وآله وسلم- رأسًا مقصودًا، وإمامًا مشهورًا في إقراء القرآن، حتى أصبح من أجل ناشريه إن لم يكن أجلهم. وكيف لا يكون كذلك وقد أخذ عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- رسم التلاوة كما أخذها نبي الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن جبريل- عليه السلام- ثم يأخذه على هذا النمط الآخر عن الأول والخلف عن السلف، وقد أخذ عن أبي -رضي الله عنه- بَشَرٌ كثيرون من التابعين ثم عنهم من بعدهم وهكذا دواليك دواليك، فسرى فيه سر تلك القراءة عليه، حتى سرى سره في الأمة إلى الساعة، فأي تشريف أعظم من هذا، وأي فضل أجَلُّ من هذا، ويعظم هذا كله بأنه لم يشاركه أحد من الناس في هذه المنقبة، ولا سيما مع ذكر الله -عز وجل- لاسمه والتنصيص عليه، وهذه منقبة أخرى ومزية كبرى له بذكر الله -عز وجل- له وتسميته. ألا ترى قوله: “آللهُ سَمَّاني لك؟!” بهمزة الاستفهام الدالة على التعجب منه! لتدرك توهُّج المشاعر الجيَّاشة التي لم يسعها صدره، حتى تجلَّت في ملامحه كلها، وهنا سارع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مجيبًا له؛ لأنه يرى -صلى الله عليه وآله وسلم- بأبي -رضي الله عنه- ما لا طاقة له به من تلك المشاعر المنبعثة منه، فقال له مباشرة: ((اللهُ سمَّاك))، لتتدافع بعد مشاعره أعظم كتغشمر السيل من أعلى الجبل إلى منتهاه، مقبلة بِشدَّة، وتجري بحدة، فهو لا يكاد يصدق ما يسمع، ثم يردف على الفور ذلكم السؤال بتساؤل وهو في خضم تلكم المشاعر المتدفقة المختلجة فيقول: “وقد ذكرت عند رب العالمين؟” متعجبًا متحيرًا، ثم لا يكاد يستطيع بعد كبح شعوره حتى تتدفق تلك المشاعر فتفيض، وهنا يأتي ذلكم التعبير الذي يُصوِّر حالته -رضي الله عنه-: “فذرفت عيناه”، واستهلَّت مدامِعُه وانسكبت مقلته، واغرورقت عَيناهُ وذرفت مآقيه. وهذا منه -رضي الله عنه-: إمَّا فرحًا وسرورًا لما بُشِّر به وأُعطي له، من تأهيله لهذه النعمة وإعطائه لهذه المنزلة الرفيعة وذكر الله -عز وجل- له، وحق له؛ كما قال الشاعر:

غلب السرور عليَّ حتى إنه
من فرط ما قد سرَّني أبكاني

وإمَّا خوفًا وهضمًا: خوفًا من تقصيره في شكر تلك النعمة الجسيمة، وهضمًا لنفسه؛ أي: أنى لي هذه المرتبة المنيفة؟!

وأما تخصيص هذه السورة بقراءتها على أُبَيٍّ -رضي الله عنه- فهو يقتضي اختصاصها وامتيازها بما اقتضى ذلك، من أنها جامعةٌ لأصول وقواعد ومهمات عظيمة من التوحيد والرسالة والإخلاص وتطهير القلوب والصحف والكتب المُنزَّلة على الأنبياء وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان أهل الجنة والنار وكذا لوجازتها فإن الحال يقتضي الاختصار والإيجاز، واللهُ أعلمُ.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى