Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

الغطاء النظامي “القانوني” للعمل الاجتماعي


الغطاء النظامي “القانوني” للعمل الاجتماعي:

العمل التطوعي نموذجًا[1]

 

التمهيد:

قبل الدخول في مناقشة البيئة التَّنظيمية أو القانونية لحماية العمل التطوعي وتأطيره وتطويره وخروجه عن الذاتية الفردية إلى الاحترافية[2]، يبدو أن مفهوم التطوع في بيئتنا العربية غير واضح المعالم من حيث المصطلح والإطلاق لدى كثير ممن يعنيهم هذا الأمر، فما بالك بمن لا يعنيهم أمر التطوع الآن، لكنهم يجدون أنفسهم في مستقبل أيامهم يرغبون في القيام بأنشطة تطوعية، ويحصر بعضُهم الحاجةَ إليه واستدعاءه في وجود كوارث “طبيعية”؛ كالفيضانات والأعاصير والزلازل والحروب فقط، بينما هو سلوك اجتماعي مفتوح ومطلوب في كل الأحوال وتحت أي ظرف.

 

على هذا لا بد قبل الخوض في الغطاء النظامي أو القانوني للتطوع من محاولة جلاء المفهوم، من منطلق تحرير المصطلح – كما يقول الأصوليون – والسعي إلى توسيع مجالاته، بدلًا من أن يكون محصورًا على مجرد الجهد البدني “المجاني” الذي يقدمه المتطوع أو المتطوعة من دون مقابل مادي منتظم (راتب).

 

ومما يحسن التذكير به هنا أنه ليس هناك جهد يقوم به أي إنسان دون أن يكون له مقابل، وقد يكون هذا المقابل حسنًا، وقد يكون خلاف ذلك، بحسب نوعية الأداء الذي يقوم به المرء، وبحسب نيته التي قد تحيل العمل الحسن في ظاهره إلى آخر سيئٍ، ويأتي هذا من سنن الله تعالى في هذا الكون، بغض النظر عن توقيت الحصول على المقابل أو الجزاء؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].

 

وقد أكد علماء الأمة على أنه لا بد أن يتوفر في أي نشاط يراد له التوفيق والنجاح عنصران رئيسان، هما: الإخلاص والصواب أو الاتباع، وهي في حال المسلمين اتباع سنة المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، فلا الإخلاص وحده كافٍ دون الصواب، ولا الصواب وحده كافٍ دون الإخلاص، بالإضافة إلى عقد النية؛ فإنما الأعمال بالنيات[3]، ويصدق هذا على المفهوم الشمولي للتطوع في أي مجال من مجالاته.

 

عرَّف البعضُ العمل الخيري، ومنه العمل التطوعي، بأنه: “النفع المادي أو المعنوي الذي يقدمه الإنسان لغيره من دون أن يأخذ عليه مقابلًا ماديًّا، ولكن ليحقق هدفًا خاصًّا له أكبر من المقابل المادي، قد يكون عند بعض الناس الحصول على الثناء والشهرة، أو نحو ذلك من أغراض الدنيا، والمؤمن يفعل ذلك لأغراض تتعلق بالآخرة، رجاء الثواب عند الله تعالى، والدخول في جنات النعيم، فضلًا عما يناله في الحياة من بركة وحياة طيبة وسكينة نفسية وسعادة روحية لا تقدر بثمن عند أهلها”[4].

 

وعليه، فإن الحاجة إلى التطوع قائمة في كل الظروف في مجالات العمل الاجتماعي ذي العلاقة بتنمية المجتمع، وفي مجالات الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة[5]، وفي مجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعلم والرفق واللين والصبر والتحمل[6]، وفي مجالات صحية وطبية وهندسية، حتى في مجالات الحروب والكوارث والنوازل والدفاع المدني وخدمة المجتمع، وغيرها من المجالات التي ترسخ شمولية هذا المنهج المحبب إلى النفوس، وقد نص علماء الأمة أن للتطوع من حيث حكمه الشرعي التكليفي أنواعًا أربعة: الوجوب والندب، والكراهة والتحريم[7].

 

كل هذه الخدمات وغيرها تمارس بموجب نظام أو قانون أو تنظيم، أو أيًّا كانت التسمية، بحيث يحكم هذا الأداء المهم في حياة الأمم ويضبط في مفهومه وأدائه، ولا يترك لاجتهاداتٍ فردية طبيعية أو اعتبارية أو معنوية، بعضها يصيب وبضعها يخطئ، بعضها يندفع وبعضها يتوانى، بعضها ذو شمولية وبعضها يسيطر عليه ضيق الأفق المتمثل في بعض القائمين عليه، لا في المفهوم نفسه، وهكذا.

 

البُعد القانوني بعدٌ مهم من أبعاد تنمية العمل الاجتماعي، فيه ضمانة لعدم سوء استغلال العمل الاجتماعي في أعمال غير اجتماعيَّة مبطنة[8]، ما يلزم الحكومة سياديًّا التأكد منه، كما أن فيه تبرئةً للهيئات الاجتماعيَّة من أي محاولة للنيل من أدائها، إذا ما كانت تدور في فلك التَّنظيم القانوني الحكومي، بما في ذلك وجود أدواتٍ للرقابة الإداريَّة والمالية والفنية، مثل وجود هيئات رقابية تحكم الأداء الإداري والتعاقد مع محاسبين قانونيين “مستقلين” يتابعون أداء الهيئات الاجتماعيَّة الخيرية ماليًّا، ووجود هيئات استشارية ذات خبرات علمية وإداريَّة تكنوقراطية تضبط الأداء الإداري في العمل الاجتماعي.

 

هناك تمنُّع من بعض الأفراد الذين يرون في التَّنظيم قيودًا تحدُّ من الأداء عند خضوع هذا العمل لتنظيم رسمي يحكم سلوكيات القائمين عليه، ويحدد مجالاته وأطره، وسوف تقتصر هذه الوقفات – التي لا تخترع العجلة من جديد – على بسط الأرضية لتسويغ ضرورة وجود تنظيم شامل لمسيرة التطوع، بل إنه يستمد قوته من أحكام شرعية تعبدية ممارسةٍ منذ مئات السنين، وعليه فإنها لا تسعى إلى رسم خريطة قانونية “نظامية” للعمل الخيري، فتلك مهمة ذوي الاختصاص.

 

وإنما تأتي الصياغة القانونية في ضوء ذلك لموافقة الزمان والمكان، ومواكبة الظروف وتحديد المرجعية عند التنفيذ، يأتي ذلك في دليل أو أدلة تنظيمية أو لوائح، أو أيًّا كانت التسمية الإداريَّة، يجري تجمعيها من هذه الأحكام، ومن ثم التوسع في تفصيلات أحكام التنفيذ بحسب ما يمليه الواقع.

 

ويظهر لي أني أستطيع أن أبسط هذه الأرضية بما تكوَّن لدي من خبرة أثناء عملي في هذا المجال بمفهومه الشمولي منذ سنة 1396هـ/ 1976م، حيث تطوعت للعمل في جهاز حكومي ذي علاقة بتخصصي بما بعد الشهادة الجامعية، وتنحصر الخبرة لدي في مجال تنظيم العمل الخيري وإدارته في الاطلاع على الأنظمة والمشاركة في صياغتها ومناقشتها أثناء عملي في مجالس الدولة العليا، وليس بالضرورة في الخبرة القانونية التخصصية؛ ولذا لا تدخل هذه الوقفات في عمق التخصص الدقيق؛ فذاك له فرسانه.

 

لا يقتصر التطوع على تقديم جهد بدني مجاني يؤديه الشخص فيعد متطوعًا، وإن كان هذا الجانب مهمًّا في مفهوم التطوع، ويتطوع المرء برأيه ويتطوع بوقته ويتطوع بجاهه ويتطوع بشيء مما يملك من مهارات وإمكانات فطرية أو مكتسبة، من دون الاقتصار على التطوع بالمادة أو بما يملك.

 

كما لا يقتصر التطوع بالمفهوم الشامل للمصطلح على الأعمال الخيرية التي تناط عادةً بالهيئات والجمعيات والمؤسسات الخيرية، بل إن هناك تطوعًا بصيغة ما في الأعمال الرسمية (الحكوميَّة)، وفي المنشآت التجارية التي تهدف إلى الربح، وأي زيادة في الأداء المنتظر من الموظف أو العامل تدخل في مفهوم التطوع.

 

التطوع الذاتي:

لا بد من النظر إلى التطوع والصدقة على أنهما قرينان؛ إذ لا تقتصر الصدقة – كما لا يقتصر التطوع – على بذل المال المادي أو العيني، كما يحلو التوكيد عليه وتكرار ذلك، بل إن المرء يتصدق كما يتطوع بجهده ووقته وخبرته وجاهه، وهكذا، فالتطوع هنا داخل في مفهوم الصدقة، على اعتبار أن مصطلح الصدقة مفهوم واسع، وفيه شمولية عجيبة تجسدها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأفعالهم، وهكذا ينبغي أن ينظر إلى التطوع، وستأتي أدلةٌ على ذلك.

 

من التطوع أن يتصدق المرء على نفسه ويقوم بأعمال تطوعية ذاتية في العبادات والمعاملات؛ ولذلك يقال: صلاة التطوع وصيام التطوع وحج التطوع وعمرة التطوع مثلًا: قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158]، وفي الحديث المتفق عليه: ((وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع عليها متاعه صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة))؛ الحديث[9]. وهنا يمكن القول: إن التطوع من الصدقات، وفيه تزكية للنفس وتطهير لها[10]، مع عقد النية على ذلك، وإذا تحقق هذا المفهوم أضحى التطوع عبادةً من العبادات التي يراد بها وجه الله تعالى والدار الآخرة.

 

المجانية في الأداء ليست لازمة من لوازم التطوع، بحيث يعد من يقدم خدمة بمقابل ما غير متطوع، ما دام أنه قبض شيئًا مقابل ما قدم من خدمة؛ إذ قد يكون المقابل رمزيًّا، وقد لا يكون بالضرورة مادة؛ أي نقودًا، بل المقابل قد يكون ابتغاءً لما عند الله تعالى من الأجر والثواب، ليس في الآخرة فحسب، ولكن في الدنيا أيضًا.

 

هناك من لا يرى في التطوع مقابلًا ماديًّا أو معنويًّا، وأحسب أن هذا فهمٌ يقصر دون شمولية المفهوم، وحصر المقابل على المادة التي ينتظمها نظام مالي منضبط وبمقدار، لا سيَّما أنه مع التطوع، على اعتبار أنه قيمة اجتماعيَّة تكفل تحقيق التضامن أو التكافل الاجتماعي، يكون هناك تحقيق للذات وبناء للشخصية الخيرة في الإنسان وقوة إرادته وحرية التصرف إلى حد ما، بما يحقق قيمةً من قيم التقوى والعمل الصالح[11]بما يؤديه من جهد تطوعًا دون إلزامات الوظيفة، التي لا بد أن تحكمها ضوابط إداريَّة وفنية في الإنتاجية والحضور والالتزام والمقابل الشهري أو الأسبوعي، وتؤثر تلك في الرقي الوظيفي، إنْ على المستوى الحكومي أم على المستوى الأهلي، وهذه من المقابل المعنوي الذي يحصل عليه المتطوع.

 

وقد يكون المقابل قضاءً لنذرٍ أو تنفيذًا لحكم قضائي أو إداري أو عقوبة تأديبية، وقد يكون المقابل تحفيزًا بشهادة تقدير أو لوحة شرف أو درع تقديري أو إشادة في مناسبة أو جائزة تقديرية من جهات رسمية أو أهلية أو خيرية، على غرار ما تقوم به بعض الغرف التجارية الصناعية أو بعض الجمعيات الخيرية، مثل جمعية البر الخيرية بالمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، تلك كلها صور من صور المقابل غير المادي الذي يلقاه المتطوع نظير القيام بنشاطٍ ما.

 

التطوع والوجاهة:

إذا كان الإعلام والنشر مطلبًا جوهريًّا للعمل التطوعي من حيث تفعيله وتحفيزه وجعله حاضرًا في العقول والأذهان، فإن الجرعات الإعلامية الزائدة عن الحد قد تكشف شيئًا من المقاصد، التي قد تنحرف عن المسار الصحيح للعمل التطوعي، فيكون هم القائمين عليه البروز الإعلامي، وتحقيق نزعة الشهرة فيهم، والشهرة مذمومة في كل شيء، وهي في الأعمال التطوعية والتعبدية أكثر نبذًا، وربما إفسادًا للأجر المراد من وراء هذا العمل[12].

 

العمل التطوعي في ثقافتنا ليس مجالًا للوجاهة الشخصية أو الاجتماعيَّة أو الثناء أو الشهرة، بل هو عمل تعبدي دعوي احتسابي تطبيقًا وتمثلًا، ولا مجال فيه لمنافع دنيوية ظاهرة، ولا مكان فيه لمن يهدفون إلى ذلك؛ إذ إن هذا التوجه يسيء إلى العمل التطوعي ويعرقل نشاطاته وبرامجه، وقد يحرفه إلى غير الأهداف التي رسمت له وقام من أجل تحقيقها؛ لأن هذا المجال الوجاهي يعرقل العمل التطوعي، إذا ما كانت له حسابات أخرى ذات صلة بما يجنيه المتطوع من وجاهة، ما يحرف الهدف عن هذا العمل من الخدمة ومنفعة الآخرين إلى جلب مصلحة شخصية تفاخرية، وإن سعى هذا النوع من بعض الأشخاص إلى إخفاء هذا البُعد لديهم لا بد وأن يظهر للناس على حد قول الشاعر:

ومهما تكُنْ عند امرئٍ من خَليقةٍ
وإنْ خالها تخفى على الناس تُعلَمِ

وثمة بُعدٌ آخر لا بد من مراعاته، له علاقة مباشرة بالسمات الشخصية والحال النفسية لمن يرغب في التطوع؛ إذ إن التطوع ذا العلاقة بالجمهور يحتاج إلى سمات شخصية وحال نفسية هادئة صابرة متحملة هاشَّة باشَّة، قد لا تتوفر في كل الراغبين في العمل التطوعي، مهما توافر عنصر الإخلاص عندهم، فهو حين “يقدم جزءًا من جهده ووقته وأحيانًا ماله في مقابل تقدم الآخرين، فاستفادة هؤلاء الآخرين تشكل بالنسبة له مصدر راحة نفسيةٍ”[13]، ومن لا تتوافر فيه السمات المطلوبة كلها أو جلها في تركيبته الشخصية وفي بنائه النفساني، فمن الأَوْلى له وللعمل نفسه أن يبتعد عن هذا المجال، لا سيَّما إذا كان العمل ميدانيًّا وذا احتكاكٍ بالجمهور، أو إداريًّا وذا احتكاك بالعاملين؛ لأنه بممارسته العمل التطوعي في هذه الحال يسيء إلى العمل وإلى نفسه أكثرَ من أن يحسن إليه وإليها.

 

غموض الرؤية:

واقع الحال أن الجهات التي تحتاج إلى هذه الجهود التطوعية – أيًّا كان شكلها – تعاني من غموض المفهوم لدى من يتقدمون لأداء نشاطٍ ما، وأبرز هذه الجهات هي الهيئات والجمعيات والمؤسسات الخيرية، التي تهدف إلى خدمة المجتمع بأي نوع من أنواع الخدمة، كما تعاني هذه الجهات في ضوء الغموض مِن ضعف التزام المتطوع بما يرغب في تقديمه من خدمة، فلا يلتزم ربما بالجودة التي يقدمها[14]، فلا يعطي من جهده ما يتطلبه أو يستحقه العمل الذي يقوم به متطوعًا، ولا يلتزم كثيرًا بالوقت الذي يخصصه لأداء هذه الخدمة أو تلك، فيصرفه عنه أي صارف عابر، قد لا يكون في مستوى ما التزم به من عمل تطوعي، في الوقت الذي تسند إليه فيه مهمات ينبغي القيام بها على أنها جزء من العمل، وإلا تعثر الأداء وزاد اللوم وتأخر تنفيذ الخطط، وأدى هذا كله إلى الفوضى في الأداء، واختل العمل وتضرر المستفيد، وهو في النهاية المستهدَف “the end – beneficiary” من النشاط المتعثر أيًّا كان نوعه، وهذا بدوره يزيد من الانتقاد للجهة، ومحاسبتها المحاسبة الاجتماعيَّة والقانونية والرسمية بمختلف أشكالها، وإن تكن أحيانًا محاسبة معنوية أخلاقية.

 

الصياغة النظامية “القانونية”:

من هذه النقاط الجوهرية في هذا المجال تبنى النظم والقوانين، التي تترجم هذه النقاط إلى صياغات قانونية، طبيعتها الإجمال، على اعتبار أنه قد قيل من قبل: إن الإجمال من مقاصد الرجال، وعلى اعتبار أنه يشارك في صياغة أي نظام أو قانون مجموعةٌ من الجهات المعنية بالأداء الذي يحكمه النظام أو القانون، فيأتي النظام ليعالج المفهوم بشمولية، ويركز على القضايا الكبرى المحيطة بهذا الأداء، وإنما تأتي التفصيلات العملية في اللوائح التنفيذية والمالية والإداريَّة والفنية، التي تصاغ وفقًا لتفسير النظام، من حيث تطويعه للواقع، والخروج به من مجرد تعليمات تخضع لقدر من المزاجية في التنفيذ.

 

من أجل تحقيق البُعد السيادي للدولة صار على الحكومة – بحكم مسؤوليتها تجاه مواطنيها وجيرانها والنظام الدولي، وبحكم أنها هي المراقبة للأداء داخل حدودها الإقليمية، وبحكم أنها تملك السيادة على أرضها، وترغب في معرفة ما يدور فيها من أنشطة جماعية – تحرص الدولة أن تتماشى هذه الأنشطة مع نظام العام، بحيث يتحقق الأمن بمفهومه الشامل، والأمن الاجتماعي بمفهومه المحدد والخاص[15]، ومن ثم يتحقق السلام والرفاه الاجتماعي[16]، ومن أجل تحفيز العمل التطوعي بالشفافية والوضوح وضمان سير العمل التطوعي بسلاسة – تأتي فكرة التَّنظيم أو التقنين لأي أداء جماعي أو فردي متعد؛ أي إن أفرادًا وجهاتٍ تقوم به، ويصب في مصلحة أفرادٍ أو جهاتٍ أخرى تستفيد من هذا الأداء أو الجهد، ومن ذلك ضرورة تنظيم مفهوم العمل التطوعي أو تقنينه.

 

إذا استقر هذا المفهوم في الذهن أصبح من المؤشرات الحضارية ضبط الأمور وتحديد المسؤوليات، كما تحديد الحقوق والواجبات للأطراف الرئيسة في العمل التطوعي، وهذه الجهات الرئيسة لأطراف التطوع في عناصرها الأربعة، وهي: المتطوع والجهة المتطوع لها والأداء المتطوع به والمستهدف المباشر وغير المباشر المتطوع به، وهذا ما ينبغي أن تكفله الأنظمة والقوانين، فلا تركز القوانين على الواجبات دون الالتفات إلى الحقوق، ولا تركز في المقابل على الحقوق دون الالتفات إلى الواجبات، وفي سن الأنظمة حماية للأطراف المعنية بالأداء، وقطعٌ – في الوقت ذاته – لبعض الاجتهادات الفردية التي قد يتوافر فيها الإخلاص، من حضور الصواب بالضرورة.

 

ينطلق التَّنظيم أو التقنين أو وضع الضوابط للعمل التطوعي أو أي أداء آخر من منطوق القاعدة الأصولية الإسلاميَّة الرائعة التي تنص على أن مقاصد الأحكام مصالح الأنام، والأنام هنا تشمل الإنسان الذي تنطبق عليه الأحكام دونما تمييز، وهذه هي الروح التي تسود جميع الأنظمة والقوانين المشتقة من الشريعة الإسلاميَّة التي تراعي هذا البُعد بكل دقة، بحكم أنها شريعة ربانية قابلة للتطبيق على الواقع في كل مكان وزمان، وليست مجرد أحكام غير ملزمة للفرد والجماعة، كما أنها في الوقت نفسه ليست قيودًا تقف حجرات عثرة في وجه النشاط الخيري، كما قد يظن فئة من العاملين الذين يتضايقون من الضوابط، ويرون فيها مقيدات للانطلاق في العمل أو النشاط، ويحتاج من يظن ذلك إلى أن يعيد نظرته لهذه الضوابط.

 

قد تتعارض مصالح الأنام، أي الجماعة، في الظاهر مع مصالح الأفراد، فإن حصل شيء من التعارض تقدم مصالح الأنام – أي مصالح الجماعة أو المجتمع – على المصالح الفردية، والأصل هو عدم التعارض أو التضاد، لكن قد يرى بعض الأشخاص شيئًا من التعارض، والأحكام القضائية التي تصب على أفراد من المجتمع قد ينظر إليها من قبل البعض أنها تتعارض مع مصالح الجماعة، وهي تتعارض ظاهرًا مع مصالح الفرد، فالمحكوم عليه بالحد قصاصًا قد لا يرى – وربما أهله أو بعض أهله – مصلحةً للمجتمع في القصاص منه، بينما واقع الحال أن في هذا الأداء حياةً للمجتمع وتحقيقًا للتقوى؛ قال تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]، وكذا الحال مع بقية الحدود، وهذا مثالٌ واضحٌ على الخلط بين مصالح المجتمع ومصالح الأفراد، تقاس عليه بدرجات متفاوتة بعض الرغبات الذاتية في إشاعة الأعمال غير الأخلاقية في المجتمع، من منطلقات مصلحية فردية مادية، غالبًا ما تكون نتائجها فساد المجتمع وإشاعة الفاحشة فيه.

 

وإذا ما تحقق وقوف هذه الأنظمة والقوانين حجر عثرةٍ في طريق الإقلاع في هذا العمل لزم إعادة النظر في النظام/ القانون، وبيان وجه الخلل فيه، ما يعني النزوع إلى المراجعة الدورية للأنظمة، في ضوء ما تتلقاه الجهة التنفيذية من ملحوظات عليه، تأتي من مطبقيه على أرض الواقع وفي الميدان، ويلزم من هذا إيجاد آلية لرصد الملحوظات وتحليلها وجمع ما هو مقبول منها في مذكرة توجب العمل على إعادة النظر في النظام.

 

يعني هذا وجود جهاز بسيط يرصد المآخذ، من حيث تطبيق النظام على أرض الواقع والميدان، وبموجب مادة في النظام تحتم ذلك كما تحتم المادة نفسها، أو مادةٌ أخرى قريبة منها، ضرورة إعادة النظر في النظام “القانون” في ضوء الملحوظات، بعد مدة “معقولة” تحدد في المادة نفسها.

 

حقوق التطوع:

إذا تقدم شخص متطوعٌ إلى جهة تحتاج إلى جهوده تمثلت فيه هذه المعادلة القائمة على الحقوق والواجبات، وإن ظن أنه إلى مجال تحديد الواجبات عليه أقرب من البحث عن حقوقه، فقد يكون الانطباع لديه أنه لم يأت للبحث عن حقوق، وهو في هذا يغفل أنه – في واقع حاله – لم يأت إلا بحثًا عن مقابل، ويعتري هذا المقابل رغبة في معرفة ما يعين عليه من حقوق، فيجد المتطوع نفسه مع الممارسة بحاجة إلى معرفة موقعه في المنشأة والبيئة التي سيخدمها، ومعرفة المهمات التي تتناسب مع اهتماماته وخبراته ومداها، ومدى إمكان تدريبه عليها وتطويره لذاته في مجال الخدمات التي يقدمها، وهذا من أوليات البحث عن الحقوق، ويأتي النظام ليفصل هذه الحقوق التي لا بد منها؛ لإيجاد بيئة تطوعية صحية، لا تعتمد الارتجال، ولا تتكئ على الطيبة الزائدة والعفوية في الأداء التي تفسد أحيانًا أكثر مما تصلح، وهذا ما تتسم به مجتمعاتنا عمومًا، أو ربما ما تؤاخذ عليه.

 

مع حقوق المتطوع التي تنص عليها النظم، تنص النظم نفسها على واجبات المتطوع؛ كاحترام أنظمة الأداء ولوائحه وحفظ أسرار العمل، والمحافظة على مصالح المنشأة التي يعمل فيها متطوعًا، وحرصه على تطوير مهاراته، والعمل في حدود ما يناط به بكفاية وتفانٍ، والابتعاد عن التدخل في مهمات الآخرين دونما تكليف، ولا يتعارض هذا مع ما يقدمه من رؤى وأفكار ومبادرات تهدف إلى تطوير الأداء، والابتعاد كذلك عن تعارض المصالح، بحيث لا يتطوع قصدًا إلى جلب مصلحة له أو لغيره ممن حوله، والتماشي مع أي تغييرات تطرأ على العمل التطوعي المناط به، ما دام أنه لا يزال داخلًا في مجالات اهتمامه[17].

 

نظرًا لما يتوقع من شمولية التَّنظيم فإن المنتظر أن يشمل النظام أو القانون حقوق أطراف التطوع الأخرى وواجباتها، تمامًا كما يتم التركيز على حقوق المتطوع وواجباته على اعتبار أنه هو الفاعل الأول في النشاط، كما يشمل النظام أو القانون مسؤولية الدولة تجاه هذا النظام، بحماية المفهوم والحث عليه وتشجيع القائمين عليه وتحفيزهم للمشاركة في العمل الاجتماعي، والحرص على بيان آثاره العامة والخاصة[18]، وتأطيره وتأصيله ونشر مفهومه في المجالات التي يحسن الدعاية له بها، والتوكيد على الاعتماد عليه مصدرًا فاعلًا من المصادر البشرية والفنية والمادية لمؤسسات المجتمع المدني، تلك التي لا يقوم هذا المجتمع من دون العناية بها وجعلها روافد تكمل الأداء الحكومي، بحيث تترسخ العلاقة التكاملية بين مؤسسات المجتمع المدني الرسمية والأهلية والخيرية، ومن ثم، فهو في هذا التأطير يسهم في تنمية المجتمع[19]، ويعاضد المؤسسات والهيئات والمصالح الأخرى التي ترمي إلى تحقيق تنمية المجتمع وضمان رفاهه.

 


[1] أصل هذا البحث ورقة مقدمة لملتقى العمل التطوعي في الغرفة التجارية الصناعية بالمنطقة الشرقية في 1/ 2/ 1430هـ – 27/ 1/ 2009م.

[2] جاء اختيار العمل التطوعي نموذجًا للعمل الخيري، لوجود رغبة سواء أكانت معلنة أم كانت غير معلنة، في ترك العمل التطوعي من دون هذا الغطاء النظامي (القانوني)، ما دام أنه عمل إرادي تطوعي لا ينتظر من ورائه مقابل ملموس.

[3] من الحديث المتفق عليه فيما يرويه أبو حفص عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى))؛الحديث.

[4] انظر: أصول العمل الخيري في الإسلام في ضوء النصوص والمقاصد الشرعية ـ،ط 2 ـ،القاهرة: دار الشروق، 2008م -ص 21.

[5] انظر: أيمن بن إسماعيل يعقوب وعبدالله بن حضيض السلمي،إدارة العمل التطوعي واستفادة المنظمات الخيرية التطوعية: رؤية اجتماعية ـ،الرياض: عمادة البحث العلمي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1426هـ/ 2005م -ص 64 – 66.

[6] انظر: ابن تيمية، مجموعة الفتاوى/ اعتنى بها وخرج أحاديثها عامر الجزار وأنور الباز، الرياض: مكتبة العبيكان، 1418هـ/ 1997م، 37 ج، 28 : 71 – 96.

[7] انظر: أحمد محمد عبدالعظيم الجمل، العمل التطوعي في ميزان الإسلام، القاهرة: دار السلام، 1430هـ/ 2009م، ص 65 – 71.

[8] تعمِد بعض النظم العسكرية إلى إساءة التنظيمات الاجتماعية والمهنية بتكليف بعض القائمين عليها بمهمات غير مهنية، ولا علاقة لها بهذه التنظيمات.

[9] من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ سُلامى من الناس عليه صدقة..ثم قال: تميط الأذى عن الطريق صدقة))؛ [رواه البخاري ومسلم].

[10] انظر: أحمد محمد عبدالعظيم الجمل، العمل التطوعي في ميزان الإسلام، مرجع سابق، ص 127 – 154.

[11] انظر: إبراهيم البيومي غانم، ملاحظات حول نظام الوقف ومنظومة التطوع، مجلة المظلة، ع 22 (أكتوبر 2000).

[12] انظر: إبراهيم البيومي غانم، مقاصد الشريعة الإسلامية في العمل الخيري: رؤية حضارية مقارنة، لندن، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، 2008م، 128 ص، (سلسلة المحاضرات، 7).

[13] انظر: أحمد محمد عبدالعظيم الجمل، العمل التطوعي في ميزان الإسلام، مرجع سابق، ص 131.

[14] انظر: عبدالله بن صالح العبيد، الجودة والعمل الخيري من منظور إسلامي، ورقة عمل مقدمة للقاء السنوي للجهات الخيرية بالمنطقة الشرقية (بالمملكة العربية السعودية) الثلاثاء 27/ 3/ 1430هـ، الموافق 24/ 3/ 2009م.

[15] انظر: رشاد أحمد عبداللطيف، إسهامات الجمعيات التطوعية في تحقيق الأمن الاجتماعي بالمجتمع، في: مؤتمر العمل التطوعي في الوطن العربي-الرياض: أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، 1421هـ/ 2000م.

[16] انظر: عبدالله الخطيب، دور العمل التطوعي في تحقيق السلام والأمن الاجتماعيين، في: مؤتمر العمل التطوعي في الوطن العربي، الرياض: أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، 1421هـ/ 2000م.

[17] انظر: حسن عمر القثمي، التطوع في المنظمات الخيرية، الشارقة: مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، 2002م ـ،144 ص،وانظر أيضًا عبدالله أحمد اليوسف، ثقافة العمل التطوعي، مركز الراية للتنمية الفكرية، 2005م -63 ص.

[18] انظر: أحمد محمد عبدالعظيم الجمل، العمل التطوعي في ميزان الإسلام، مرجع سابق، ص 127 – 154، (الباب الخامس/ آثار العمل التطوعي).

[19] انظر: عبدالله بن علي النعيم، العمل التطوعي، مع التركيز على العمل التطوعي في المملكة العربية السعودية، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1426هـ/ 2005م، 215 ص.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى