Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

الدعوة في الطائف


الدعوة في الطائف

 

بعد وفاة أبي طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقل دعوته إلى الطائف؛ لعله يجد أنصارًا له يؤمنون بما جاء به بعيدًا عن تأثير كفار قريش وتهديدهم لمن آمن بالإيذاء والتعذيب والمقاطعة، فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورُوي أنه خرج إليهم وحيدًا، وقيل: كان معه زيد بن حارثة، فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة؛ عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، أولاد عمر بن عمير بن عوف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم وكلمهم ودعاهم إلى الله، وأنه قصدهم لنصرته والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك – كناية عن تكذيبه – وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا أرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولًا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: ((إن فعلتم ما فعلتم، فاكتموا عليَّ)).

 

وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما حدث في الطائف قريشًا، فيزيدوا من ممانعتهم وإيذائهم؛ لأنه طلب مناصرة ثقيف عليهم، فلم يفعلوا، بل زادوا أن حرضوا عليه سفهاءهم وعبيدهم فسبُّوه ورمَوْه بالحجارة حتى ألجؤوه إلى حائط – بستان – لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة – دالية العنب – فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه من بعيد، ويريان ما يلقى من السفهاء، جلس يستريح مما لاقاه وقلبه مشفق على أمته؛ لأن الجهل قد عشش في قلوبهم فأعماهم فهم لا يعلمون، فكيف يُقنعهم ويدخل الإيمان إلى قلوبهم؟ لذلك شكا ضعفه إلى الله بهذه المناجاة المؤثرة: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى مَن تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلَح عليه أمر الدنيا والآخرة مِن أن تنزل بي غضبك، أو تُحِلَّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك))[1].

 

فلما رأى ابنا ربيعة ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم تحركت فيهما الرحم، وقالا لخادمهما عداس: خذ قطف العنب هذا وضعه في هذا الطبق وأطعمه إلى ذلك الجالس تحت الحبلة، فحمل عداس العنب وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم ووضعه بين يديه، وقال له: كُلْ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال: ((بسم الله))، ثم أكل، فقال عداس: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مِن أي البلاد أنت؟ وما دِينك؟))، قال: أنا من أهل نِينوى، أَدِين بالنصرانية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مِن قرية الرجل الصالح يونس بن متى))، فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك أخي، كان نبيًّا، وأنا نبي))، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل رأسه ويديه ورِجْليه، وهذا على مرأى من ابني ربيعة، فقال أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، وهم يجهلون أن الدين واحد عندما يسلم من التحريف، فلما عاد عداس قالا له: ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه ورِجْليه؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا؟ لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، فقالا: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك؛ فإن دينك خير من دينه.

 

وذكر أن أهل الطائف وقفوا صفين على طريقه، فلما قفل عائدًا إلى مكة جعلوا لا يرفع رِجليه إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدمَوْه، فخلص منهم وهما يسيلان دمًا، فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب ليستريح تحتها، وفي صحيح مسلم: أن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ((ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة – في الطائف – إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله لك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، قد بعثني الله، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))، ولما أصرَّ أهل الطائف على الكفر الذي اتبعوه بإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم عوض الله نبيه بإسلام قوم آخرين، فلما بات بنخلةَ وصلى العشاء الآخرة في ذلك الموضع، مر نفر من الجن، وكانوا تسعة، فسمعوا قراءة القُرْآن، فوقفوا يستمعون؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 29، 30]، وقد ورد أن الجن استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، مرة هنا في موضع نخلة، ومرة في طرف مكة عند محبس الجن، وكان معه ابن مسعود، فخط له دائرة وقال له: ((لا تخرج منها))، ثم تقدم إلى الجن فجلس معهم وقرأ عليهم القُرْآن وعلمهم، ثم انطلقوا إلى قومهم منذرين، وورد أنهم كانوا من بلدة نصيبين، وفي سورة الجن: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2].

 

وأراد النبي صلى الله عليه وسلم دخول مكة، لكنه خشي من سطوة قريش، وأنها قد تكون علمت بما حصل في الطائف فيشتد إيذاؤها؛ لذلك بعث في طلب المطعم بن عدي وأن يدخل في جواره، فكان له ذلك، فأجاره المطعم وخرج بالسلاح مع بنيه الستة أو السبعة ودخلوا المسجد، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: طُفْ بالكعبة، وخرج أبو سفيان ورأى هذا المنظر، فقال للمطعم: أمتابع أم مجير؟ قال: بل مجير، قال: إذًا لا تغفر، وظل المطعم وأبناؤه في وضعية الحماية إلى أن انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه، وفي رواية: أن أبا جهل هو الذي قال للمطعم: أمجير أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت، وهذا القول هو الأرجح؛ لأن أبا جهل هو زعيم المعارضة، وأبو سفيان لم يعلُ صوته إلا بعد مقتل الزعماء الكبار في غزوة بدر، فانتقل من الصف الثاني إلى الصف الأول، وبعد أيام مر النبي صلى الله عليه وسلم بنادي قريش في طريقه إلى البيت للطواف به، فقال أبو جهل بلغة الهازئ: هذا نبيكم يا بني عبد مناف! فرد عليه عتبة: وما ينكر أن يكون منا نبي وملك؟ فعاد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أما أنت يا عتبة فما حميت لله وإنما لنفسك، وأما أنت يا أبا جهل، فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلًا وتبكي كثيرًا، وأما أنتم يا معشر قريش، فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم كارهون))، فكان الأمر كما قال.

 

ولقد ألان لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم القول في مواقف كثيرة؛ طمعًا في إسلامهم، وكان كثير الاهتمام بأمرهم؛ ليتجنب عداوتهم وليكسبهم مؤيدين للدعوة؛ فهم أهله وعشيرته، لكن الله تعالى عاتبه لهذا الموقف؛ ففي قصة الأعمى عبدالله ابن أم مكتوم مثلٌ لما قدمنا؛ قال الله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ [عبس: 1 – 10]، وفي سورة الكهف: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]، وفي سورة الأنعام: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 52]، وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدَّث نفسه، وقد كانت حالتهم بعد كل البراهين ببطلان عقيدتهم الوثنية التكذيب والهزء والسخرية من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ﴾ [الإسراء: 45 – 47].


[1] قصة الطائف هذه وما فيها من الدعاء ضعفها الألباني – رحمه الله – في كتاب “دفاع عن الحديث النبوي والسيرة” (ص 25 -26)، وغيره من كتبه، فاقتضى التنبيه. [إدارة تحرير الألوكة].



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى