المسيح ابن مريم عليه السلام (6)

المسيح ابن مريم عليه السلام (6)
بعث الله عز وجل عبدَه ونبيَّه ورسولَه عليه السلام بالإنجيل، وقد وصف الله تبارك وتعالى الإنجيل بأنه فيه هدًى ونورٌ، وأنه مصدِّقٌ لما بين يديه من التوراة، وأنه هدى وموعظة للمتقين، والإنجيل كلمة يونانية معناها البشارة، وقد أطلقه الله تبارك وتعالى على كتابه المنزل على عيسى عليه السلام، بيد أن هذا الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام لا وجود له عند النصارى، ولم يذكر أحد من علماء النصارى أو غيرهم أنه رأى نسخة كاملة منه، ويبدو أن عيسى عليه السلام لم يكتبْه وإنما كان يبشِّرُ به في بني إسرائيل، وقد ورد ذكره في الكتب التي أُلِّفت بعد رفع المسيح عليه السلام والتي سمَّاها أصحابها الأناجيل؛ فقد ذكره متَّى في إنجيله في الإصحاح الرابع منه، إذ يقول: “وكان يسوع يطوف كلَّ الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كلَّ مرضٍ وكلَّ ضعيفٍ في الشعب”، فكلمة بشارة الملكوت التي وردت في هذه الفقرة هي الإنجيل؛ إذ إن معنى الإنجيل هو البشارة، كما ذكره مرقص في إنجيله في الإصحاح الأوَّل منه إذ يقول: “وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرزُ ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل”.
وقد زعم بعضُ الناس أن الإنجيل كان مقتصرًا على البشارة خاليًا من الأحكام؛ مدَّعِيًا أن عيسى عليه السلام كان يقتصر على ما في التوراة من الأحكام؛ وهذا قول فاسد كاسد عاطل باطل، فقد نصَّ الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم بما يقضي أن الإنجيلَ كتاب أحكام، وإن كان يشتمل على البشارة؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47]، بيدَ أنه لقربه من زمان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تجلَّت البشارة فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان كلُّ نبيٍّ من أنبياء الله تعالى بشَّر أمته بمحمد صلوات الله وسلامه عليه للميثاق الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء بتأييد محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].
وقد وصف الله تبارك وتعالى مقامًا من مقامات عيسى عليه السلام بما يُفيد أنه قام خطيبًا في بني إسرائيل يخبرهم أنه رسول من الله يبشِّرهم بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتي بعده؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6].
ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم له أسماء، منها: محمد وأحمد؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، من حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميَّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد، وقد سمَّاه الله رؤوفا رحيمًا))، وفي لفظ لمسلم من طريق محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يُمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عَقبي، وأنا العاقب؛ والعاقب الذي ليس بعده نبي…))، ولفظ محمد أو أحمد هو معنى المنحمنا أو الفارقليط الوارد في الكتب التي بيد النصارى في بشارة عيسى عليه السلام التي يُخبر فيها بأنه سيُقِيم حتى يأتي المنحمنا وفي بعض التراجم: “حتى يأتي الفارقليط”، والمنحمنا أو الفارقليط هو المحمود الحمد الكثير، وهو معنى أحمد أو محمد وهو إشارة إلى أن شريعة عيسى عليه السلام تستمر حتى تنسخها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا شكَّ في أن علماء أهل الكتاب عمومًا كانوا يعرفون صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم بسبب بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووصفهم له لأممهم حتى يؤمنوا به إذا جاء، ومن صفاته عندهم أنه يُبعث بالحنيفيَّة دين إبراهيم عليه السلام، وأنه يخرج بأرض العرب، وأنه يهاجر إلى أرض سبخة ذات نخيل بين لابتين، وأنه يأكل الهديَّة ولا يأكل الصدقة، وأن في كتفه خاتم النبوَّة كزر الحجلة.
وفي التوراة: “سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلَك يا موسى، أنزل عليه توراة وأجعل كلامي على فيه”.
ولم يأتِ أحدٌ من الرسل يذكر أن معجزته كلام الله غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعلَ الله معجزته الكبرى وآيته العظمى القرآن العظيم والذكر الحكيم، الباقي محفوظًا بحفظ الله حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والتوراة معناها الشريعة، كما جاء أيضًا في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: “تجلى الله أو جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلى أو استعلن من جبال فاران”، وهو إشارة إلى دين موسى الذي أوحى الله إليه به في طور سيناء، وبشارة بعيسى عليه السلام الذي أنزل الله عليه الوحي في جبال ساعير من أرض الجليل بقرية تدعى الناصرة، ويقال لها أيضًا: نصرانة التي سُمي من ينتمي إلى المسيح عليه السلام بها، فيقال لهم: النصارى، وقوله: “واستعلى أو استعلن من جبال فاران أو من بريَّة فاران”، بشارة واضحة جليَّة بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل تعالى عليه الوحي ببرية أو جبال فاران وهي أرض مكة بلا خلاف بين المسلمين وأهل الكتاب.
وهذه البشارة الواردة في التوراة تطابق ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 1 – 3]، فالتين والزيتون جبلان بالأرض المقدسة من الشام، بعث الله تعالى عندهما عيسى عليه السلام، وطور سينين: هو الجبل الذي كلَّم الله موسى عنده وآتاه فيه التوراة، والبلد الأمين: هو مكة المكرمة قدسها الله، وقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: وجدت في التوراة في صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول الله سبحانه: “يا أيها النبي، إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأُمِّيِّينَ، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكِّلَ، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يُقِيمَ به الملَّة العوجاء، ويفتح عيونًا عميًا، وآذانًا صمًّا وقلوبًا غُلفًا بأن يقولوا: لا إله إلا الله”.
والمراد بالتوراة في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما في هذا المقام هو بعض كتب العهد القديم؛ إذ يُطلِق بعض المسلمين اسم التوراة على مجموع كتب العهد القديم التي تشمل التوراة بأسفارها الخمسة، وتشمل كذلك نبوات بعض الأنبياء، كما أن النصارى يطلقون اسم التوراة على مجموع كتب العهد القديم وعلى الأناجيل أيضًا، وإن كان الأصل في كلمة التوراة أنها خاصة بكتاب الله تعالى المنزَّل على موسى عليه السلام الذي ألقاه الله إليه مكتوبًا في الألواح.
وفي تواتر صفات محمد صلى الله عليه وسلم عند علماء أهل الكتاب، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
ويقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.