Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

داود وسليمان عليهما السلام (3)


داود وسليمان عليهما السلام (3)

 

ذكرتُ في ختام الفصل السابق أنَّ تفسير من فسَّر قوله تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾ [ص: 21] إلى قوله: ﴿ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص: 24]، بأن داود عشق امرأة أوريا، وقهره على التنازل له عنها، وسعى في قتله حتى قُتل، وتفسير النعجة في الآية بأنها المرأة، قلت: إن هذا تفسير عاطل باطل، فاسد كاسد وإفك مبتدع، يَأْبَاه لنفسه السوقة والرعاع، ومكر يهودي تمجه الأسماع، وتنفر منه الطباع، وأذكر هنا أن سياق القرآن يأباه، فإنَّ الله تبارك وتعالى ذكر في مقدمة هذه السورة إلى قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 16] ما لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قومه وتمالُئِهم عليه واستهزائهم به، فأمره الله عز وجل بالصبر على ما يقولون، وأمره بأن يذكر قصَّةَ العبد الصالح الأوَّاب داود عليه السلام، ثم قصة سليمان ثم قصة أيوب، وما أصابهم من الضيق فصبروا، فجاءهم الفرج من عند الله، والمعروف أن القرآن العظيم كالدُّرِّ النظيم، كلُّ آية مرتبطة تمام الارتباط بما قبلها وبما بعدها، فهل يأمر الله عز وجل رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالصبر اقتداءً بداود العبد الصالح الأوَّاب، ثم يصف هذا الأوَّاب بأنه العاشقُ الطامعُ في زوجة رجل مؤمن ليس له غيرُها، ولداود تسعٌ وتسعون امرأة، إن ذلك لمنكرٌ من القول وزُورٌ، وإنما يأمر الله رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات بالصبر على أذى قومه له، ويذكره بما كان من أخيه العبد الصالح الأوَّاب داود عندما تسوَّر عليه المحراب – أي القصر – متخاصمان، ففزع منهم، وخاف أن يغتالوه، ولما طمأنوه بأنهم لم يجيئوا لإلحاق أذًى به، وإنَّما جاؤوا متخاصمين، وتقدَّم المدعي وقال مشيرًا إلى المدَّعى عليه: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ﴾، أي: شاة من الغنم، ﴿ وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ [ص: 23]، أي: شاة من الغنم واحدة، وأنه رحمني في أول الأمر عندما رآني أسرح بها وحدَها، فطلب مني أن يجعلها مع نعاجه لترعى معها دون مشقة عليَّ، فلمَّا مضت مدَّةٌ وجئت لأطلبها منه أنكر حقِّي فيها وقهرني، وجحد أن تكون لي عنده شاةٌ، وادَّعى أنها ملكه، فلما سمع داود عليه السلام الدعوى ولم يسمع من المدَّعى عليه إنكارًا لما يقول المدعي حكَم داود على المدعى عليه وقال للمدعي: ﴿ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ﴾ [ص: 24]، وإن هذا دأب الخُلطاء الذين لا يخافون الله بخلاف المؤمنين الصالحين وهم قليل، فلما انصرفوا من عنده راضين بحكمه عاتب نفسَه على الفزع منهم، وظن أنه فُتِن بسبب فزعه منهم عندما رآهم يتسوَّرون المحراب، فخرَّ لله راكعًا وأنابَ، فغفر الله ما وقع منه.

 

وكأن الله تعالى يقول لشيخ المرسلين وإمام المتقين وسيد أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم: “إياك أن تفزع من تهديدات قريش لك، واذكر قصةَ أخيك العبد الصالح الأوَّاب عليه السلام عندما تسوَّر عليه المحراب متخاصمون ففزع منهم؛ فاعتذر إلى الله من هذا الفزع، وظنَّ أنه لا يليق بالنبيين والمرسلين، فأنت أَولى ألا تفزع من قريش مهما تمالؤوا عليك وهددوك؛ فإنَّ العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة لك، والله يَعصمك من الناس، وليس في قصَّة داود في سورة (ص) ذِكر حُبٍّ وغرامٍ واعتداءٍ على امرأة رجل مؤمن في عِصمة زوجها؛ بل لا ذِكر للمرأة أبدًا في هذه القصة، وإنما فيها ذكر النَّعجة، والعرب – كما ذكرت في مقدمة هذا الكتاب قصص الأنبياء في الفصل الثاني – لا يُسمُّون المرأةَ نعجةً، وإنما يطلقون النعجةَ على أنثى الضأن أو بقر الوحش فقط، ولا ترضى المرأة أبدًا أن تُشبه بأنثى الضأن، ولكنها ترضى أن تشبه بنعاج الفلا، أي: بقر الوحش، فإذا شُبهت المرأة بالنعجة فإنما يراد بها المها، وهي بقر الوحش؛ على حد قول الشاعر في امرأتين:

هما نعجتان من نِعاجِ تبالةٍ
لدى جؤذرينِ أو كبعضِ دُمى هكر

و(تبالة) مكانٌ بين بيشة والنماص، كانت توجد فيه بقر الوحش بكثرة، و(جؤذرين) تثنية جؤذر؛ وهو ولد البقرة الوحشية، ودُمى هكر: الدُّمى جمع دمية وهي صور الرخام، وهكر: موضع فيه هذه الصورة، ويقال: هو ديرٌ رومي أو قصر؛ فالمرأة تفرح إذا شبهت ببقر الوحش لجمال عيونها؛ وحسن عنقها؛ ولذلك قال الشاعر:

عيونُ الْمَها بينَ الرصافةِ والجسرِ
جلبْنَ الهَوَى منْ حيثُ أدرِي ولا أَدْرِي

وقال الآخر:

إنَّ العيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ
قَتَلْنَنا، ثمَّ لم يحيينَ قتلانا
يصرعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ بهِ
وَهُنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ إنسانا

 

والمعروفُ أن بقرَ الوحش لا يسرحُ تحت كفالة راعٍ؛ فإطلاق النعجةِ على المرأة ليس بالوضع العربي، وإنما يأتي على سبيل التشبيه ببقرة الوحش لا بأنثى الضأن.

 

قال أبو حيان في تفسيره المعروف بالبحر المحيط عند قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ [ص: 23] قال: والظاهرُ إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن، ولا يُكنى بها عن المرأةِ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، ثمَّ قال أبو حيان: والذي يذهب إليه ما دلَّ عليه ظاهر الآية من أن المتسوِّرين المحراب كانوا من الإنسِ دخلوا عليه من غير المدخلِ، وفي غير وقت جلوسِه للحكم، وأنه فزع منهم ظانًّا أنهم يغتالونه؛ إذ كان منفردًا في محرابه لعبادة ربه، فلمَّا اتضح له أنهم جاؤوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكُم كما قصَّ الله تعالى، وأن داود عليه السلام ظنَّ أن دخولَهم عليه في ذلك الوقتِ ومن تلك الجهة إنفاذٌ من الله له أن يغتالوه، فلم يقع ما كان ظنَّه، فاستغفر من ذلك الظنِّ؛ ولذلك أشار بقوله: ﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ ولم يتقدم سوى قوله: ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾، ويُعلم قطعًا أن الأنبياء عليه السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها، ضرورة أن لو جوَّزنا عليهم شيئًا من ذلك بطلت الشرائع ولم نثِقْ بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم؛ اهـ.

 

أما قول البخاري رحمه الله في كتاب أحاديث الأنبياء من صحيحه: يقال للمرأة: نعجة، ويقال لها أيضًا: شاة، فقد أشار الحافظ ابن حجر في فتح الباري إلى أنه استقى ذلك من أبي عبيدة معمر بن المثنَّى حيث قال: قال أبو عبيدة في قوله: ﴿ وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾، أي: امرأة، قال الأعشى:

فرميتُ غفلةَ عينِهِ عن شاتِهِ
فأصبتُ حبةَ قلبِها وطحالِها

والمعروف عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه كان يتأَوَّلُ بعضَ ألفاظ القرآن على أن ذلك من مجازِ القرآن، وقد أنكر عليه كثيرٌ مِن الأئمَّة في هذا السبيل، وهو ليس من الثِّقات في نقل الأخبار، وإطلاق الأعشى لفظ الشاة على المرأة إنما أراد بالشاة البقرة الوحشية تشبيهًا لها بها، وقد قال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ لَمَّا ذَكَر أبا عبيدة معمر بن المثنى: وليس هو بصاحب حديث، بل سبق قلمي بكتابته؛ اهـ.

 

وقد قال ابن كثير في قصة داود من البداية والنهاية: وقد ذكر كثيرٌ من المفسرين من السلف والخلف هاهنا قصصًا وأخبارًا أكثرها إسرائيليَّات، ومنها ما هو مكذوب لا محالة، تركنا إيرادها في كتابنا قصدًا، اكتفاءً واقتصارًا على مجرَّد تلاوة القصة من القرآن العظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

 

وقال في تفسيرِه بعد سياق الآيات: قد ذكر المفسرون هاهنا قصَّةً أكثرها مأخوذ من الإسرائيليَّات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديثٌ يجب اتِّباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثًا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه، ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيفُ الحديث عند الأئمَّة، فالأَوْلَى أن يقتصر على مجرَّد تلاوة هذه القصة وأن يردَّ علمها إلى الله عز وجل.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى