« مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية » للشيخ سامي بن محمد جاد الله
قراءة في تحقيق: «مقدّمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيميّة»
للشيخ سامي بن محمد جاد الله، نشر: دار المحدِّث في الرياض، سنة 1444 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وآله أجمعين. وبعد:
فقد نشطت في العقود الثلاثة الأخيرة حركة تحقيق ونَشْر الكتب التراثية، وأُعيد في هذا الصدد تحقيق ونَشْر كثير من الكتب التي كانت قد حُقِّقت مِن قبلُ، وانتشرت ثقافةُ التحقيق والعناية بالمخطوطات على نطاقٍ واسعٍ، وأصبحت صور المخطوطات المعتمدة ووَصْفها جزءًا لا يتجزَّأ من مقدمة الكتاب المنشور، وأصبح له دورٌ أساس في تبوُّء الكتاب لمكانته اللائقة به وإقبال الناس عليه.
ولكن جلّ هذه الكتب المنشورة تنصبُّ عناية المحقِّق على مكمِّلات ومُتمِّمات التحقيق على حساب قواعد التحقيق الأساسية التي تَبْهت وتتراجع أمام مكملات ومتمِّمات التحقيق (يُنظر: «قواعد تحقيق المخطوطات» للمنجِّد، و«المخطوطات والتراث العربي» ص94 لأستاذنا الدكتور عبد الستار الحَلْوَجي أطال الله بقاءه).
وقد أُعيد عمّا قريب نَشْرُ وتحقيق كتاب «مقدمة في أصول التفسير» لشيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، وهو من الكتب الأثيرة لديّ، وسبق لي أن قرأْتُه على شيخنا العلامة عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله قبل نحو ثلاثين عامًا، والنَّشرة الجديدة بتحقيق الشيخ الفاضل المعتني: سامي بن محمد بن جاد الله -حفظه الله- في مجلّد لطيف، وإخراجٍ أنيق، وثوب قَشيب، يُغري الواقف عليه بقراءته، ويشدّه له شدًّا، ولهذا الكتاب في قلبي أثرة كما أسلفتُ، فسرعان ما وقعتُ في براثنه، وشرعت في قراءته من جديد لطُول العهد به.
فبدأتُ بمقدِّمة المحقق على عَجَلٍ؛ إذْ لا تكاد تجد في كثيرٍ من مقدمات التحقيق هذه الأيام منها ما يستحقُّ التوقُّفَ عنده، ولكن ما إن قطعتُ شوطًا حتى وجدتُ شيئًا لا آلَفُه؛ فانتبهتُ وأعدتُ القراءة بتَأَنٍّ وتؤدةٍ.
لم يَسِرْ المحقِّق الفاضل على جادّةِ كثيرٍ من المحقِّقين المعاصرين من إخراج الكتب على عُجالة، وواضح أنه عايش الكتاب مدّةً كافية لاستيعابه، وعالجه برويّة، ووقف عند كل نصٍّ منه، وأعطاه حقَّه من التحقيق والتدقيق والتمحيص، وهو الذي أمضى ثلاثة عقود في مجال التحقيق وخدمة تراث العلماء.
دخل المحقِّق في مقدمة تحقيقه في صُلب الموضوع مباشرة، وعرَّف باقتضاب بالرسالة موضوع التحقيق، ثم ذكر الباعثَ له على إعادةِ تحقيق ونشر هذه الرسالة رغم تقدُّم نَشْرِها وطباعتها، ثم شرع ببيان النُّسَخ الخطّية والأصول الفرعية التي اعتمدها.
كل هذا في ثلاث صفحات وحسب، ولم يسوِّد الصفحات الطوال في الحشو الزائد عن المقام، مثل التعريف بعلم التفسير، وأهميته، وكتبه، وتاريخه، ومناهجه … مما عَمَّ به البلاء في هذا العصر، وأُولع به كثيرٌ من المحقِّقين.
ثم استوفى المحقِّق قواعد تحقيق المخطوطات في عمله هذا، حتى ليكاد يصلح أن يكون أنموذجًا تطبيقيًّا لقواعد تحقيق المخطوطات النَّظرية، وبيان ذلك:
أولًا: جمع النسخ الخطية:
لم يكتفِ المحقِّق بذكر النُّسخ التي اعتمد عليها في التحقيق، بل وسَّع البحثَ، وذكر كل ما يتعلق مِن نُسَخِ هذه الرسالة، سواء وقف عليها أم لم يتيسر له الوقوف عليها بعد طُولِ البحث والتتبع والتسبُّبِ.
فمثلًا: نسخة مكتبة الشيخ جميل الشَّطِّي -وهي الأصلُ الذي طُبعت عليه الرسالة- لا يُعرَفُ أين استقرَّتْ، فاتَّصَلَ بالأخ الفاضل بلال الشاويش ابن شيخنا زهير الشاويش، وسأله عنها، فأخبره أن جزءًا من مكتبة آل الشطي آلَتْ لمكتبة الشيخ زهير الشاويش، ثم بحث عن هذه الرسالة فيما انتهى إليهم منها، فلم يظفر بشيء (يُنظر ص29).
ونسخة المكتبة السليمانية في تركيا، ترجَّح أنها ليست نسخة خطّية، وإنما هي مطبوعة محب الدين الخطيب.
وذُكِر له أن هناك نسخة نجدية، ولكنه لم يقف عليها، ولعل غيره يُوَفَّق إليها.
وواضحٌ أنه نوَّع طرق البحث والتقصّي عن المخطوط، فبحث في الفهارس، والمكتبات، وأفاد من سؤال العلماء والباحثين، ثم سَرَد هذه المعلومات، وبيَّن ما وقف عليه مما لم يجد إليه سبيلًا، وهذا يفيد من يأتي بعده من الباحثين، فيبدأ من حيث انتهى هو.
ثم كان واقعيًّا بعد ذلك، فالنسخة التي لم يقف عليها بعد إفراغ الوسع -وهي نسخة مكتبة الشيخ الشطّي- أخذها بالواسطة عن طريقين، فاعتمد مطبوعة الشيخ الشطّي، ثم نشرة الأستاذ عدنان زَرْزُور، وهما اعتمدا تلك المخطوطة.
ثانيًا: دراسة النسخ الخطّيّة:
وهذا أمرٌ غاية من الأهمية، إذ لا بُدَّ من دراسة النُّسَخِ، وفَرْزِها، ومعرفة أقدارها ومكانتها العلميّة، ثم ترتيبها وَفْق عدد من الضوابط، وعلى ضوء ذلك يتعامل معها المحقّق، فيختار منها نسخةً أو نُسَخًا معتمدة، ويستبعد البعض، وقد يتخذ من البعض نسخًا ثانوية يرجع إليها عند الحاجة والمشكلات، وقد يرتّب المخطوطات في مجموعات وأرومات إذا كان للكتاب أكثر من إصدار وإبرازة، وغير ذلك.
وهذه القاعدة لا يوليها كثيرٌ من المحقِّقين العناية اللازمة، فيتخبَّط في التحقيق يَمْنة ويَسْرة، ومن ثم يقع الخطل والزلل.
والواقع أن المحقِّق الفاضل أبدع غاية الإبداع في تطبيق هذه القاعدة، فمحَّص النُّسَخ، وبيَّن أقدارها وأروماتها بدِقَّة ورويَّة، ومن ثم بنى تحقيقَه للنص على نتائج دراسته.
وممّا أحسن فيه: أنه استفاد من النسخ المساعدة التي تَمُتُّ بنَسَبٍ للرسالة موضوع التحقيق (انظر: «قطوف أدبية ص21)، وهي النسخ المُضَمَنَّة في بطون بعض الكتب كـ«الكواكب الدراري» و«تفسير ابن كثير»، أو النسخ المختصرة كـ«الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي، ولم يفته أن هؤلاء العلماء قد يتصرّفون بالنص المنقول ويختصرونه بما يناسب مقصودهم.
هذه النسخ تلقي ضوءًا لا يستهان به في تحقيق النص، كما قال العلّامة عبد السلام هارون رحمه الله، وقد أفاد منها المحقق ببراعة فائقة.
وقد تمخَّض عن هذه الدراسة الدقيقة أمرٌ غاية في الأهميّة، وهو أن الفصلين الأخيرين منها ليسا لابن تيميَّة، وإنما أُدْرِجا خطًا فيها. وهذه النتيجة هي ثمرة التحقيق العلمي، وحسبك بها. وهو أول من كَشَفَ ذلك ونَشَره -رغم تتابع الناس على عكسِه لعقود- وهو دليلٌ على استقلاليته في نَظَرِه ونَقْدِه، وأيضًا تواضعه وعدم استعراضه بهذا الكشف كما قد يفعل غيره! فجزاه الله خيرًا، بل قد يأتي بعده من يأخذ هذه الفائدة وأمثالها دون عَزْوٍ ويزيد تشبُّعًا واستعراضًا، وما زال التاريخ يكشف العِلَل.
ثالثًا: تحقيق النصّ:
تحقيق النصّ التراثي وإعادة إحيائه أقربُ ما يكون لما انتهى عليه مؤلفه = هو الغايةُ المنشودة من علم التحقيق، وهو ثَمَرَةُ جمع النسخ ودراستها، وبقدر ما تكون الأصول الخطية التي اعتمد عليها المحقق جيدة ومتقنة وواضحة ومستوفية لقواعد الكتابة والضبط، ثم المراجعة والمقابلة والقراءة على المؤلف -أو من دونه- وغير ذلك مِمّا يتصل بقواعد الضبط الكتابة = بقدر ما يكون عمل المحقق متقنًا وسهلًا مريحًا.
أما إذا كانت النسخ ليست بذاك -كحال هذه الرسالة- فالعمل عليها يكتنفه العسر والصعوبة، ويستهلك الجهد الكبير والليالي الطوال من أجل تقويم عبارة، أو تصحيح كلمة حُرِّفت أو صُحِّفت أو طُمِست، وقديمًا قال الجاحظ في كتاب «الحيوان» (1/ 55): «ولربّما أراد مؤلّف الكتاب أن يصلح تصحيفًا، أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حُرّ اللفظ وشريف المعاني، أيسر عليه من إتمام ذلك النقص، حتى يردّه إلى موضعه من اتّصال الكلام».
وقد بذل المحقق جهدًا كبيرًا لا تخطئه العين في تأدية نصِّ الرسالة وتقويم ما عساه جانَبَ الصواب من ألفاظها، مشيرًا إلى فروق النسخ كما ينبغي أن يكون التحقيق العلمي، وقد سَلَك في محاكمة النسخ حال الاختلاف طرقًا أذكر منها:
الأول: أن يضع ما رجَّحه منها في المتن، ثم يشير في الحاشية إلى ما في بقية النسخ، ويقف عند هذا الحدّ، وذلك عندما يكون الترجيح ظاهرًا، كما في ص140 سطر 2 عند قول المؤلف: «أن يكون الحق في الباطن بخلاف ما اعتقدناه»، وضع إحالة على كلمة «الباطن»، ثم قال في الحاشية: «في م: الباطل». واكتفى بذلك لظهور الترجيح.
الثاني: أن يضع ما رجحه منها في المتن، ثم يشير في الحاشية إلى ما في بقية النسخ، ثم يشرح سبب ترجيحه بناء على ما في كتب المؤلف الأخرى، كما في ص142 سطر1 عند قول المؤلف: «والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب …»، وضع المحقق إحالة على كلمة «التشاعر»، ثم قال في الحاشية: «في ط2: التشاور» ثم بيَّن أن كلمة التشاعر دائرة في كتب واستعمال ابن تيمية وأحال إلى كُتُبِه، ثم شرح هذه الكلمة الغريبة نوعًا ما، ثم أردف ذلك ببيان أنها واقعة في استعمال غيره من العلماء القدماء كالجاحظ.
وهذا منهج سديد؛ إذْ لا يصلح أن تحقِّق نصًّا تراثيًّا لعالمٍ ما بمعزلٍ عن بقية تراثه العلمي، بل يجب أن تضعه في سياقه المناسب منها؛ لأن إنتاج كل عالم يشكل وحدة متكاملة مترابطة، ولكل عالمٍ عبارات وألفاظ يديرها في كتبه ويكررها، يقول العلامة عبد السلام هارون [تحقيق النصوص ونشرها ص59]: «والثاني من مقدمات التحقيق: هو التمرُّس بأسلوب المؤلِّف … كما أن لكل مؤلِّف أعلامًا خاصة تدور في كتاباته، وحوادث يديرها في أثنائها، وأعلىٰ صور التمرُّس بأسلوب المؤلف أن يرجع المحقق إلى أكبر قدر مستطاع من كتب المؤلف ...».
والمحقق توسع في تطبيق هذه القاعدة، فكان ميزانه في ترجيح كثير من الألفاظ هو كتب المؤلف، وقد استعملها ببراعة وفَهْم.
وكذلك اعتمد على كتب المؤلف في شرح غامض الكتاب وما عساه استغلق منه، فما أجمله ابن تيمية في هذه الرسالة المختصرة بسطه في كتبه المطولة، انظر ص88 و89 و91.
الثالث: أن يكون ما في الأصول مُشْكِلًا، فيضعه في المتن، ثم يعلِّق عليه من كلام العلماء كابن باز وابن عثيمين ومساعد الطيار، والأمر أشبه بعقد اجتماع بينهم ومناقشة هذا الإشكال، ولا شك أن ترجيح العلماء -وخصوصًا من لهم اختصاص بابن تيمية وتمرس بفهم كلامه- أولى وأثرى وأكثر اطمئنانًا، فمثلًا في ص121 السطر 1، يقول ابن تيمية: «ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاختلاف معلوم، بل متواتر عند العامة أو الخاصة»، وضع المحقق إحالة على كلمة «الاختلاف»، وبين في الحاشية أنها هكذا وردت في الأصول، وهي مشكلة بلا ريب، ثم لم يترك القارئ في حيرة من أمره، بل نقل كلام ابن عثيمين وابن باز ومساعد الطيار في توجيهها. وهذه وظيفة المحقق. وانظر محاكمة أخرى ص128 حاشية (2)، وص132 حاشية (3).
الرابع: أن يكون ما في الأصول مشكلًا، ولم يظفر بترجيحٍ أو توجيه لأحد من العلماء، فيصور الكلمة أو العبارة المشكلة من المخطوط، ويثبتها في الحاشية، كما في ص135 و277 و287 و297 لعل القارئ يجد لها وجهًا، وحسبه أنه أدى الأمانة، وهذه طريقة حسنة مبتكرة، تنم عن تواضع وفضل وحب للفائدة واحترام لعقول القراء.
ضبط النص:
ضبط المحقق متن الرسالة ضبطًا متّزنًا ونافعًا جدًا، فاعتنى بضبط أواخر الكلمات، وما عساه يُشكل في بُنْيةِ الكلمة، ووزَّع النص على فقرات بناءً على معطيات المعنى، وكذا زوَّد النص بعلامات الترقيم المناسبة التي تعين على فهم النص.
كل هذا أتاح للقارئ أن يمضي في قراءته للنص دونما تلكُّؤٍ ولا تعثُّر، في زمن شاع فيه الضعف بالعربية، فجزاه الله خيرًا.
وإنْ كان وقع في ضبطه بعض الهنات القليلة التي لا يخلو منها عمل مؤلف قطُّ مهما بالغ بالتدقيق واعتنى بالمراجعة عودًا على بدء.
تخريج الأحاديث:
خرَّج أحاديث وآثار الرسالة تخريجًا مقتصدًا، ونَقَل كلام العلماء عليها، واعتنى بنقل كلام ابن تيمية على الأحاديث من بقية كتبه، وكذا غيره من العلماء النُّقَّاد كالبخاري والجَوْرَقاني وابن عَسَاكر، مرورًا بابن حَجَر، وصولًا إلى الألباني.
وإن كان في أحيانٍ قد يكون الأَولى استحضار أن النسبة الكبرى من القراء ليسو متخصصين في الحديث، فالتزام تيسير معرفة درجة الحديث أمرٌ مستحسن أن يُجمع مع إفادة المشتغل، فمثلًا: في ص119 حديث: «لا يريبه أحد»، خرَّجه من الموطأ وسنن النَّسَائي وصحيح ابن حِبّان، نعم، قد يفيد الحديثيَّ أن الحديث صحَّحَه ابن حِبّان وشرطه جيد في الجملة، وأيضًا كونه في الموطأ ومرفوعاته المسندة أجود. ولكنّه في هذا الحديث أحال للنظر في «العلل» للدارَقُطْني، و«التمهيد» و«البدر المنير»، وإذا علمتَ أن الدارقطني تكلَّم على هذا الحديث في «العلل» وبسط طرقه في نحو (16) صفحة، فهنا يحسن بالمحقِّق الكريم تلخيص النتيجة إن كان الحديث معلولًا أو المحفوظ فيه كذا باختصار، لأن هذا الكتاب كتابٌ في قواعد التفسير، لا في دقائق علم الحديث، ولا يغيب عنّي أن الشيخ حفظه الله مشهودٌ له بالتمكُّن في الفنّ من قديم، وتراه في تقديم فضيلة الشيخ المحدّث عبد الله بن عبد الرحمن السَّعد -حفظه الله- لتحقيقه لكتاب آداب وأحكام دخول الحمّام لابن كثير من ثلاثة عقود، فالاختصار وتيسير النتيجة للقارئ العادي في علم الحديث فيه خير عامّ، ولا سيّما للمحقق نَفَسٌ طيِّبٌ في تعليقاته على الرسالة.
التعليق:
كتب المحقق على غلاف الكتاب: «تحقيق وتعليق»، ولعلَّه تواضعٌ منه وعدم تكثُّر، وإلا فالواقع أن ما فعله يتجاوز التعليق بمراحل، لأن واقع الحال أنه شَرَح الرسالة شرحًا مطوَّلًا، ولا يخفى أنَّ التخريج والتحقيق والشرح والتعليق …إلخ، كل واحد منها علم على حياله، فلا ينبغي أن يُخلَط بينها، لذلك كان العلامة عبد السلام هارون دقيقًا عندما كتب على غلاف طبعته من كتاب «الحيوان» للجاحظ: «تحقيق وشرح».
فالذي فعله إذًا هو شَرْحُ رسالة «أصول التفسير» لابن تيمية، وقد احتشد لشرحه هذا، وجمع له جراميزه، ورسالة ابن تيمية هذه رسالة مختصرة أشبه بالمتون، وهي جديرة بالشرح بلا ريب، لذلك شَرَحها عددٌ من أهل العلم، وشروحهم هذه كانت حاضرةً بين يدي المحقق يفيد منها؛ مع نسبة القول لقائله.
على أن منحى شَرْحِه ومنهجه يختلف عما أَلِفْناه في الشروح، فقد شَرَح هذه الرسالةَ من كلام ابن تيمية نفسه، وهذه طريقة آمنةٌ للغاية؛ لأن كل مؤلِّف أدرى بكلامه من غيره، فَمَا أَجْمَلَه في مكانٍ شرحه في آخر، وما أبهمه في موضعٍ عيَّنه في موضع آخر، وهكذا، لذلك طوَّف المحقِّق بعامة تراث ابن تيمية وشَحَن شَرْحَه بالنقول من كتب ابن تيمية.
ومنهجُ الشرح بالنقول منهجٌ معروف مطروقٌ لأهل العلم، ولا تثريب عليه فيه، سَبَقه إليه: ابن أبي العِزّ الحنفي في «شرح الطحاوية»، وابن عُروة في «الكواكب الدَّراري»، والبُهوتي في «كشاف القناع»، والشوكاني في «نيل الأوطار»، وغيرهم من أهل العلم.
وإنْ كنتُ أُوثِرُ المنهج الآخر في الشَّرْح، وهو المنهج الذي اتَّبَعه ابن حَجَر في «فتح الباري» وغيره من كتبه، إذ لا يكاد ينقل نقلًا حرفيًا، بل يقرأ الكلام ويستوعبه، ثم يصوغُ خلاصته بأسلوبه المتقَن المتين وبعبارة موجزة، لذلك انْتُفِعَ بـ«فتح الباري» وغيره من كتبه، واعتمد الناس عليها.
نعم، ينبغي أن تكون كتب المؤلف الأخرى حاضرةً ويرجع ويستفاد منها في الشرح والتحقيق والتعليق، ولكن لا أنْ تُفَرَّغَ في حواشي الكتاب.
فلو أنه قرأ كلام ابن تيمية ثم أدى إلينا خلاصته باختصار، ثم أردفه بالمراجع لِمُنْشِدِ التوسُّع لعلّه كان أنفع وأجدى من شحن الحواشي بنصوص ابن تيمية وغيره والتي لا تخلو من التكرار، وانظر مثلًا: ص160-163 نقل في شرح مسألة ثلاث صفحات بخط الحاشية الصغير، وفي ص142 أجاد في شرح كلمة «التشاعر» -كما تقدم- وبيان أنها واقعة في استعمال المؤلف في بقية كتبه، ثم شَرَحها شرحًا جيِّدًا من «تاج العَروس»، فوضَح المراد وحُلَّ الإشكال، ولكنه لم يقف عند هذا الحد، بل نقل ثلاثة نصوص من كتب الجاحظ، مع شرح العلّامة عبد السلام لهذه الكلمة في موضعين، وشرحُه يختلف بحسب سياق الكلمة، وكان الأَوْلى تَرْكُ ذلك، وإنْ زاد أنها وقعت في كلام غير ابن تيمية مِن المؤلِّفين ، ثم أحال على كتب الجاحظ دون نقلِ نصوص الجاحظ؛ فلا بأس.
كما أن الاقتصار على كلام ابن تيمية في بعض المسائل المهمة يوهم أنه ليس فيها قول آخر للعلماء، كما في ص149 إذا نقل كلام ابن تيمية في تغليط رواية عند البخاري، وأردفه بكلام تلميذه ابن القيّم.
والواقع أن هذه المسألة مسألة خلافية، وللعلماء فيها نحو خمسة أقولٍ، وانظر للتوسع «أجوبة ابن القيّم على الأحاديث التي ظاهرها التعارض» ص495- 498.
ومن الإنصاف ذِكْرُ أنه لم يكتفِ بالنقول والاستفادة من كتب ابن تيمية فقط، بل أفاد من كتب عددٍ من العلماء كابن القيِّم وابن كثير، بل إنه تعنَّى ونَقَلَ في ص182 نقلًا عن مصدرٍ مخطوطٍ عزيزِ موجود في جامعة الإمام.
وكل هذه الملاحظات مجرد اجتهاداتٍ وآراءٍ لا تحطُّ من قيمة هذا التحقيق العلمي المتقَن، فجزاه الله خيرًا ونفع به، وزاده توفيقًا، ولعله أن يتحفنا في قادم الأيام بمزيدٍ من هذه التحقيقات البديعة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرياض 20 /4 /1444 هـ