آدم عليه السلام (3)
آدم عليه السلام (3)
أشرتُ في المقال السابق إلى احتجاج موسى وآدم بالقدَر؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حاجَّ موسى آدم عليه السلام فقال له: أنت الذي أخرجتَ الناس بذنبك من الجنة وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومُني على أمرٍ قد كتبه الله عليَّ قبل أن يَخلقني، أو قدَّره عليَّ قبل أن يخلقني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدمُ موسى))؛ أي: فغلب آدمُ موسى في هذه المحاجَّة.
أيها القراء الكرام، إنَّ الاحتجاجَ بالقدَر ينبغي أن يلاحَظ فيه أمران؛ فالقدر إمَّا أن يقترن بمصائب وإما أن يقترن بمَعايب؛ إذ قد يرتكب الإنسانُ جريمةً – كالزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو القتل أو غير ذلك من المعاصي – فإذا قيل له: لم فعلتَ ذلك؟ قال: قَدَر الله، أو قدَّر الله، أو قضاء الله، ونسَب عملَه إلى القدر، وهذا خطأ؛ فإنه لا يحقُّ الاحتجاج بالقدَر على ارتكاب المعايب؛ لأنَّ الله لم يبيِّن له القدَر قبل ارتكاب الجريمة وأنه سيرتكبها، ولم يأذَنْ له في ارتكاب هذه الجريمة، أما إذا أُصيب إنسان بمصيبة من المصائب التي لم يقع فيها بإرادته واختياره كالمرض أو الفقر أو انقلب مثلًا وهو نائم على شخص فقتله، أو انفلتت منه حصاة أو نحوها على شخص فأصابته من غير قصدٍ منه، أو غلبَتْه عينه رغم أنفه فنام عن الصلاة حتى طلعتِ الشمس فله أن يحتجَّ في كل هذه المصائب بالقدر؛ لأنَّ هذا الذي وقع منه خارج عن إرادته، وله أن يقول: قدر الله وما شاء فعل.
وقد أشار إلى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما يَنفعك، واستعِن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان))، فهذا الحديث يضعُ أوضحَ قواعدِ السلوك فيما يحتجُّ به مِن القدر، وما لا يحتجُّ به، فما أصاب الإنسان مِن شرٍّ لا إرادة له فيه فإن له أن يحتجَّ بالقدر، وما فعله بإرادته من المعايب فلا يجوز أن يحتجَّ فيها بالقدر؛ لأن المأذون له في عمله هو الخير وما ينفعه في عاجلته أو آجلته؛ ولذلك صدَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث بقوله: ((احرِصْ على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز))، وآدم عليه السلام لم يُهبطِ العبادَ إلى الأرض، ولم يكن إخراجُهم من الجنة بيده، وأكله من الشجرة وإن كان سببًا لهبوطه إلى الأرض، لكنه فعلَ بغير قصدٍ كما أسلفت، فلا دَخْل لآدم في إخراج الناس من الجنَّة وإهباط العباد إلى الأرض، وإن ذلك كله لله وحده؛ فاحتجاج موسى عليه السلام على آدم لعله كان نوعًا من المداعبةِ منه لأبيه آدم عليه السلام، وموسى لا يخفى عليه مثل ذلك، وهو عندما وكز القبطيَّ فقضى عليه قال: ﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ [القصص: 15]، وموسى عليه السلام لا يؤاخذُ بذلك؛ لأنه لم يقصد قتلَ الرجل، كما أن آدم عليه السلام قد وَصف الله أكلَه من الشجرة بأنه عن نسيان؛ حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]، ولا شكَّ في أن القلم مرفوع عن الناسي كما أنه مرفوع عن النائم، فما فعله الإنسانُ عن نسيان أو في نومه فإن الله تعالى لا يؤاخذه عليه، وكأنَّ آدم عليه السلام قال لموسى عليه السلام: “أنا لم أخرجكم مِن الجنة، وإنما أخرجكم اللهُ الذي رتَّبَ الإخراج على أكلي مِن الشجرة، وقد أكلتُ منها عن نسيان، وقد قدَّر الله عليَّ ذلك قبل أن أُخلق، فأنت تلومني على أمرٍ ليس له نسبة إليَّ أكثر من أني نُهيتُ عن الأكل من الشجرة فأكلتُ منها، وكون الإخراج مترتبًا على ذلك ليس من فعلي، فأنا لم أُخرج نفسي ولم أخرجكم من الجنة، وإنما كان هذا مِن قدَر الله وقضائه، وله الحكمة في ذلك”؛ فلذلك غلب آدمُ موسى في الاحتجاج.
أمَّا ما جاء في حديث الشفاعة لاستفتاح الجنَّة يومَ القيامة وتأخُّر آدم عن ذلك بقوله: ((وهل أخرجكم من الجنة إلَّا خطيئة أبيكم آدم))؛ فلأنَّ صورة ما حدَث هو صورة الخطيئة، كما أن ما حدث من موسى عليه السلام في قتل القبطي هو صورة الخطيئة، لكن الله لا يؤاخذ أحدًا منهما بما فعل؛ لأنَّه لم يكن عن قصد، وحديث الشفاعة هذا قد أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة، ومن طريق أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجمع الله تبارك وتعالى الناسَ، فيقوم المؤمنون حتى تُزلف لهم الجنة، فيأتون آدمَ فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلَّا خطيئة أبيكم آدم، لستُ بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، قال: فيقول إبراهيم: لستُ بصاحب ذلك إنما كنت خليلًا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلَّمه الله تكليمًا، فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول: لستُ بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم: لستُ بصاحب ذلك، فيأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذَن له، وتُرْسلُ الأمانة والرَّحِم فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمرُّ أولُكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أي شيء كمرِّ البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمرِّ الريح، ثم كمرِّ الطير وشدِّ الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصِّراط يقول: رب سلِّم سلِّم، حتى تعجز أعمالُ العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا، قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلَّقة مأمورة بأخذ من أُمرت به، فمخدوشٌ ناجٍ ومكدوسٌ في النار))، والذي نفس أبي هريرة بيده، إنَّ قعر جهنم لَسبعون خريفًا، وقوله في الحديث: ((وشد الرجال))؛ أي عَدْوِ الرجال وسعيهم وسرعتهم في المشي.
وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.