ما يقصد القاضي من هذا القول؟
“جوابك غير ملاقٍ للسؤال”: ما يقصد القاضي من هذا القول؟
اضطرتني ظروفٌ استعصى فيها الصلح إلى القضاء وإقامة الدعاوى؛ لتحصيل حق مجحود، أو دفع ظلم مفترى، وأُقِرُّ ابتداء بجهلي بكثير من أصول التقاضي، وأنظمة الإثبات، والقوانين والتعاميم واللوائح المختلفة، وأدَّعي هنا أنا بدأت رحلة تعلُّم في بحر متلاطم لا ساحل له، ولقد جهزت وحرَّرت صحائفَ دعاوى لمطالب كثيرة ومتنوعة، ومدعَّمة بأسانيد وأدلة وقرائن، ولا يخفاكم أنني لم أجِدَّ في إعدادها ابتداء، لكنني مع الوقت وبفضل صبر وتعليم بعض القضاة الأفاضل، بدأت أفهم معنى ما يقصده القاضي حينما يسأل المدَّعي: هل حرَّرتَ دعواك؟ لكن هذا لا يعني بحال أنني أصبحت خبيرًا وضليعًا في فنِّ المرافعات، وفي هذا السياق سأحدثكم خصوصًا عن حَيرتي ومعاناتي – بسبب جهلي وغفلتي – وخبرتي المكتسبة من جواب قصير، كثيرًا ما علَّق به بعض القضاة على أجوبتي عن أسئلتهم: جوابك غير ملاقٍ!
سأل القاضي فأجبته فردَّ قائلًا: جوابك غير ملاقٍ للسؤال، فحاولت شرح موقفي، وتبيين حقي أمامه، وشرَّقت وغرَّبت في حديثي، وكادت تخونني كلمات المعجم، وحينما ظننت أنني أجبت سؤال فضيلة الناظر في القضية، أعاد – بكل ثقة – ما قاله آنفًا: جوابك غير ملاقٍ! كثيرًا ما استوقفتني هذه الكُلَيمات، وحِرْتُ في فَهمها زمنًا، ثم بدأت أفهم بعض جوهرها ومغزاها، ولكنني أجد نفسي مضطرًّا دومًا لتذكرها واستحضارها، والعمل والالتزام بها حقيقة، ومع علمي بأهميتها يَزِلُّ لساني، وأُسهِب في مقالي، ولا يوقظني من غفلتي وينقذني من عَثَرات هذا الْمَزْلَق إلا قول القاضي للمرة الألف: جوابك غير ملاقٍ!
ماذا يقصد القضاة من هذه الكلمات؟ ولماذا يكررها بعضهم كثيرًا؟ وما فائدتها؟ ومن هو المستفيد منها؟ وكيف نفيد منها؟ وكيف نجهز أنفسنا لها؟ بل وكيف نتفاداها بالكلية؟
لا أدَّعي هنا أنني سأُحيط بعنوان مبحثنا من كل جوانبه، لكنها إشارات مركَّزة، تفيد اللبيب، وتقدح زِناد الفكر لديه، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
إن الوقت المخصص لكل جلسة من جلسات أي قضية محدَّدٌ وليس طويلًا، وأي قاض لن يكون متفرغًا طيلة يومه لقضية واحدة فقط، بل هو مُطالَب بالنظر في عدد كبير من القضايا يوميًّا، واحدة تلو الأخرى، ويطلب منه رؤساؤه ألَّا يُطيل زمن التقاضي بلا داعٍ أو مُسوِّغ مقبول، وهذا يدفع القاضي إلى التركيز والبعد عن الشرود، والإسهاب المشتِّت للفِكْرِ، والمضيِّع للوقت والجهد، وفي هذا منفعة لا تخفى للمتقاضِينَ، كما أن للقاضي منهجية في النظر والاستنتاج وتجزئة القضية والتدرج، وهذه أمور ينبغي أن يفطَن لها، وأن يستغلها من يفهمها لصالحه، فيُعِين القاضي بجوابه الملاقي في النظر الممنهج والمتدرج، وبهذا يتقدم القاضي وينجز جزءًا مهمًّا في كل جلسة، ويبني على ما أنجز في الجلسات القادمة.
جوابك غير ملاقٍ: يقصد بها القاضي إذا قالها لك – حسب فهمي – أن ما قلته في جوابك إسهاب وتكرار لم يلاقِ جوهر السؤال، يحاول القاضي خلال نظره في القضايا أن يفهم مفاصل القضية، مبتعدًا عن الحشو والتكرار، فيكون مقصده أحيانًا حين يقول: جوابك غير ملاقٍ أنك لم تُجِبْه عما سأل تحديدًا، ولكل سؤال جوابه المناسب، فبعض الأسئلة تُجاب بنعم أو لا، وهذا نوع إقرار من قائلها، وهو سلاح ذو حدين، والأسئلة عادة تتقدمها ألفاظ مثل: من، متى، كيف، لماذا، ما هو دليلك، ما قصدك، أوضِح، هل فعلت هذا …؛ إلخ.
ولو سألنا أهل الخبرة من المحامين، لَأخبرونا أن أخطر ما يضر المتقاضين – ولو كانوا على حق – هو الحشو والتكرار والإسهاب، وتقرير ما تقرَّر سلفًا، وإيضاح الواضحات، فهذا يشتت ذهن القاضي، وهو بشر مثلنا يجتهد فيخطئ ويصيب، ويحتاج للتركيز في عمله، ومما يعينه أن يكون جواب المتقاضِينَ ملاقيًا ومجيبًا لسؤاله، وهذا يمكِّنه من بناء تصور واضح ومثبت، يبني عليه أحكامه.
كيف يكون جواب المتقاضي ملاقيًا لسؤال القاضي؟ في ظني أن ثمرة هذا المبحث تتلخص في إجابة هذا التساؤل، وسنخصص لها فقرة مفصلة:
1- لا تتعجل في الإجابة، وافهم سؤال القاضي.
2- لا حرج في سؤال القاضي عن سؤاله، فتقول: هل تريد من هذا السؤال أن أخبرك بكذا وكذا تحديدًا؟ أو تقول: إن فهمي لسؤالك هو كذا فهل فهمي صحيح؟
3- إذا عرفت الإجابة، فأجِبْ على قدر السؤال باقتضاب، مثلًا أجب بقولك: نعم أو لا، أو قولك غير صحيح، لا أوافق، بينة جديدة، أو أحِلِ القاضي إلى تحريرك الكتابي للقضية، أو جزء محدد منه؛ حتى لا تضطرب أقوالك.
4- إذا لم تعرف الإجابة، فاطلب الإمهال للرد كتابةً، أو مشاورة محاميك أو موكلك…
5- إذا لم تفهم السؤال، فاطلب من القاضي أن يبسُطَ صياغة السؤال، أو يجزئه إلى أجزاء تُعينك على الجواب.
6- هل تقبل يمين خصمك؟ سؤال قد يفاجئك من القاضي، وقد يكرره ويلح به عليك، وقد يعني هذا أن بيِّنَتَك قد تكون ضعيفة، أو كما يقول القضاة: غير موصلة، فلعلك تسأل القاضي عن سبب طلب اليمين، وهذا المبحث له تفاصيل، فاليمين في القضايا قرينة يعرِف وزنَها أهلُ الاختصاص، ولها أنواع: حاسمة ومتممة، وللاستظهار والاستيثاق والاستحقاق، ومقصدي من ذكر أنواعها ألَّا يستعجل المطالب باليمين، وأن يفهم سببها ونوعها ويتجهز لها، ولعل المطالب بها يجيب بسؤال الإمهال للاستشارة، إذا لم يعرف.
7- يُستحسن لمن لا يجيد هذه الأمور أن يستعين بمحامٍ خبير، فهم أعرف بالأجوبة الملاقية، وهم أقدر على تحويل أو تصحيح مسار السؤال إذا استدعى الأمر.
ختامًا، كانت هذه إشارات عجلى، وأحسبها مركَّزة في مقاصد القضاة الأفاضل حين تعليقهم بقولهم: جوابك غير ملاقٍ، وكُلِّي ثقة أن لدى أهل الخبرة والاختصاص جوابًا أوفى وأشفى، وأُذكِّر المتقاضين بأهمية فهم هذا الجواب والالتزام به، وأُحذِّرهم هنا – ونفسي – من مَغبَّةِ تكرار الجواب غير الملاقي في القضايا؛ فهو يُظهِر صاحبه أمام القاضي بمظهر المتهرب من الإجابة، أو غير المتجهز للقضية، أو المماطل الذي يلف ويدور للتشويش وإضاعة الوقت، وأحيانًا يُنذر بعض القضاة مَن يتهربون مِن الإجابة شفاهة أو كتابة في ضبط الجلسات، ويعُدُّون هذا نكولًا عن الإجابة، وهذا مضعف لموقف المتهرب، وقد يبني القاضي بعض حكمه على هذا التهرب المتكرر والنكول المقصود، وفَّق الله الجميع للعلم النافع والعمل الخالص فيما يحبه الله ويرضاه.