Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

العمل الاجتماعي والقطاع الأهلي: تحقيق المسؤولية الاجتماعية


العمل الاجتماعي والقطاع الأهلي: تحقيق المسؤولية الاجتماعيَّة[1]

 

التمهيد: المفهوم:

مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة مفهوم واسع ومتشعب الوظائف، وهناك مفهوم شائع يحصر المسؤولية الاجتماعيَّة في وظيفة واحدة أو اثنتين من وظائفها المتعددة، ويتبادر الذهن عند ذكر المسؤولية الاجتماعيَّة للشركات Corporate Social Responsibility CSR، من حيث قيامها بجهود وبرامج ومشروعات خيرية فقط، وهذا جزء من المفهوم أضحت الشركات والمؤسسات التجارية تفرد له إداراتٍ أو أقسامًا خارج نطاق أقسام العلاقات العامة، تعنى به، ويقوم عليها أفرادٌ مؤهلون اجتماعيًّا وإداريًّا، يرفعون من شأن إسهامات الشركة أو المؤسسة التجارية، ومن ثم يزيدون من إقبال المجتمع على منتجاتها.

 

موضوع هذا الفصل يتركز حول نقاش مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة لدى التجار من الرجال والنساء، ممن يطلق عليهم اليوم رجال الأعمال وسيدات الأعمال، ويدخل في هذا المفهوم لأغراض هذه التغطية الموسِرون من أعضاء المجتمع، وإن لم يكونوا من التجار بالمفهوم المتأخر لكلمة تاجر، كما يتركز على الوعي المجتمعي للمفهوم الواسع للمسؤولية الاجتماعيَّة، وتشير الإحصاءات الدولية التي تفصح عنها شركة “تمكين” للاستشارات التنموية والإداريَّة إلى أن 70% من المستهلكين يرون أن المسؤولية الاجتماعيَّة تؤدي دروًا مهمًّا في تنمية المجتمع[2].

 

أطراف المسؤولية الاجتماعيَّة:

الذين يقومون بهذه المسؤولية الاجتماعيَّة متنوعون، من حيث الوظائف المباشرة التي يؤدونها في مجتمعاتهم؛ فهم إما موظفون في الحكومة (القطاع العام)، أو موسرون وتجار (القطاع الأهلي أو الخاص)، أو متطوعون في القطاع الثالث (الخيري)، وتقوم بين هذه القطاعات الثلاثة علاقة هي هنا تكاملية لا تنافسية، وهو ما يعبر عنه في لغة المال والأعمال بالشراكة في تحقيق تنمية اجتماعيَّة مستديمة، أو تحقيق استدامة التنمية الاجتماعيَّة أيًّا كانت التسمية sustainable development.

 

والمجتمعات لا تنمى بجهود الحكومات وحدها، وإن مارست الحكومات دورًا سياديًّا مؤثرًا وفاعلًا في هذا المجال بوسائل متعددة، كالتَّنظيم والمراقبة وتحفيز الشركات والمؤسسات التجارية لأدائها دورها، وذلك من خلال الاشتراط في المناقصات الحكوميَّة على المتقدمين لتحقيق حد واضحٍ من المسؤولية الاجتماعيَّة، بل إن بعض الجهات الحكوميَّة تعمد إلى تحويل الشروط الجزائية على المقاولين إلى تنفيذ مشروعات تنموية اجتماعيَّة صغيرة، يؤديها المقصرون في تنفيذ بنود العقود لمصلحة اجتماعيَّة، بدلًا من الغرامات المالية التي تأخذ دورة طويلة، قد لا يعود مردودها على طبيعة العمل المنفذ مباشرةً، وأحسب أن هذا يصب في تحقيق المسؤولية الاجتماعيَّة، وإن اختلفت الوسيلة.

 

وتشير الإحصاءات الدولية التي تفصح عنها شركة “تمكين” للاستشارات التنموية والإداريَّة – أيضًا – إلى أن 64 % من المستهلكين يشجعون فكرة أن تكون المسؤولية الاجتماعيَّة للشركات والمؤسسات التجارية من معايير تقويمها[3].

 

ولا بد من تصحيح هذا المفهوم وتحريره وظيفيًّا، بحيث تدرج ضمنه وظائفه الأخرى وأطرافه الأخرى المرسلة والمستقبلة، التي قد ينظر إليها بعض المتابعين على أنها ليست وظائف تندرج تحت مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة، بينما هي كذلك، ويذكر أن المسؤولية الاجتماعيَّة للقطاع الخاص تَعني (التزام المؤسسات ورجال الأعمال الطوعي والاختياري بالمشاركة والإسهام المستمر في تنمية المجتمع ودعم برامج التنمية الشاملة)[4].

 

وقد لا يقتصر مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة على الأبعاد الاجتماعيَّة فقط، وهو ما قد يتبادر من التسمية؛ فالفكر الإداري يدخل بقوة في تحقيق المفهوم، على اعتبار أن الإدارة وسيلة لا غاية، كما يحسن التوكيد عليه دائمًا[5].

 

يتجسد هذا المفهوم في بعض وظائفه في تقديم خدمات للمجتمع بمقابل أو دون مقابل، تأخذ طابع الالتزام الأدبي والأخلاقي تجاه المجتمع، وتحركه عوامل انتمائية من دينية ووطنية وإنسانية.

 

وكما مر ذكره، فإن كل فرد من أفراد المجتمع بحاجة إلى خدمة اجتماعيَّة من نوع أو شكل ما، وكل عضو في هذا المجتمع أو ذاك مطالبٌ – كذلك – بتقديم قدر من الخدمة الاجتماعيَّة في مجال اختصاصه أو قدراته الذهنية والعلمية والفكرية والمالية، وذلك في سبيل تنمية مجتمعه، ويدخل في هذا الإسهام الفئات ذات الاحتياجات الخاصة التي قد ينظر إليها أنها هي المستهدفة من خدمات المسؤولية الاجتماعيَّة، بينما هي في واقع حالها تسهم في تحقيق هذا المفهوم[6]، بحيث يشعر أي فرد في المجتمع، مهما كانت قدراته وظروفه، أنه عضوٌ فاعلٌ ومؤثرٌ في مجتمعه، وربما فاق تأثيره مجتمعه الضيق إلى مجتمعات أرحب وأوسع، فيتحقق بهذا القدر من التكافل والتكامل الاجتماعي، على اعتبار أن الله تعالى قد قسم الأرزاق والكفاءات بين البشر، وجَمْعُها بهذا الشكل يبني مجتمعًا متلاحمًا[7]؛ قال تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32].

 

وقد تكون بعض المجتمعات الأخرى أكثر حاجةً لخدماته من مجتمعه القريب، مع عدم انتفاء حاجة مجتمعه القريب، ولعل هذا كله ينصب في مفهوم عمارة الأرض والاستخلاف عليها، وكمثال على ذلك فإن الفعل الخيري الإغاثي والتنموي في مجتمعات فقيرة أجدى منه في مجتمعات غنية.

 

وعمارة المساجد والمراكز الإسلاميَّة والمدارس والجامعات والمستشفيات ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى بين الأقليات والجاليات المسلمة والمجتمعات الإنسانية الأخرى قد يكون أجدى من عمارتها في المجتمعات الإسلاميَّة نفسها؛ نظرًا لتوفر هذه المنشآت في المجتمعات المسلمة، بالمقارنة، وكذلك اضطلاع الحكومات بمسؤوليتها تجاه مؤسسات المجتمع المدني، مع شدة الحاجة إليها بين الأقليات والجاليات المسلمة وبعض المجتمعات الإنسانية التي تفتقر إلى التنمية.

 

وهذا مما يدعو إلى ترتيب الأولويات في التنمية الاجتماعيَّة – كما يدعو إليه مايكل بورتر[8] – والاستئناس بمبادرة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان في ربيع الأول 1421هـ الموافق يوليو 2000م Global Compact، الذي قدم فيها ثمانية أهداف تنموية، يرجى تحقيقها مع سنة 35/ 1436هـ الموافق 2015م[9].

 

التجار والمسؤولية الاجتماعيَّة:

الذي لا بد من التوكيد عليه أن التجار الطبيعيين والمعنويين (أفرادًا ومؤسساتٍ وشركاتٍ) يمارسون مسؤولياتهم الاجتماعيَّة بأشكال متعددة، لا تتوقف على مفهوم الإنفاق المادي أو العمل الخيري المباشر، الذي ينظر إليه دائمًا عند الحديث عن المسؤولية الاجتماعيَّة للتجار، ولا اتفاق مع من يقول: إن هذا البُعد مغيبٌ لدى التجار عن ممارسة دور مؤثر، ففي هذا غمط لما يقوم به التجار رجالًا ونساءً (رجال الأعمال وسيدات الأعمال) من جهود.

 

كما أن المسؤولية الاجتماعيَّة أعم من أن تقتصر أو تقصر على العمل الخيري المباشر، وهي لا تأتي في الوقت نفسه لتحل محل العمل الخيري من حيث الإطلاق والأداء خلافًا لمن يظن أن هناك “مؤامرة” ما تحاك لإحلال مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة محل العمل الخيري! من منطلق ما كان من محاربة للعمل الخيري، لا سيَّما العمل الخيري الإسلامي، بعد أحداث يوم الثلاثاء 22/ 6/ 1422هـ الموافق 11/ 9/ 2001م[10]، فلا يمكن لهذا الإحلال أن يستمر إذا ما سرى قصره على العمل الخيري؛ لأسباب ثقافية تتعلق بالمصطلح الأول الشائع والسابق في الثقافة العربية الإسلاميَّة ذي المدلولات الشرعية الضابطة له؛ حيث ورد إطلاقه في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة وفي كلام العرب، قال الشاعر المخضرم الحطيئة، جرول بن أوس بن مالك العيسي (ت 45هـ/ 665م):

مَن يفعَلِ الخيرَ لا يعدِمْ جَوازِيَه
لا يذهبُ العُرفُ بين اللهِ والناسِ

على أن هذا البحث يرى أن مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة أعم من مفهوم العمل الخيري، من حيث الاصطلاح؛ فالعمل الخيري بالمفهوم الشائع الآن هو جزء من المسؤولية الاجتماعيَّة، وليس العكس، ومهما يكن من أمر فإن مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة لا يمكن أن يخرج عن كونه عملًا خيريًّا بالمفهوم الأشمل للعمل الخيري، الذي تنعقد به النية ويراد به وجه الله تعالى والدار الآخرة والبركة في الدنيا، وليس ذلك المفهوم الذي يقصره على فعل شائع في الذهن قد يكون مقصورًا على البُعد الإغاثي الذي تضطلع به الجمعيات والمؤسسات الخيرية.

 

ومفهوم المسؤولية – من حيث الأداء والتحقيق – لا يعني هنا الإلزام، بل هو “شعور داخلي بالالتزام نحو المجتمع”[11]، والالتزام غير الإلزام؛ فهو إذًا فكرة وممارسة أخلاقية بحتة تأتي عوامل خارجةٌ عن البُعد الأخلاقي البحت لتؤكد عليها[12]، وربما لتحفز إرادة موجودة تحتاج إلى مثيرات واقتناع كامن لدى المعنيين، تحتاج إلى من يدفعها إلى واقع عملي، وربما يأتي من المثيرات والدفع أن يقال للمحسن في هذا المجال: أحسنت[13].

 

حداثة المصطلح:

الفكرة ليست حديثة المفهوم، وإن كانت حديثة الإطلاق؛ فهي معروفة لدى الثقافات القديمة والمتجددة،[14] وهي، في الوقت نفسه، لا تخلو من فوائد اقتصادية واجتماعيَّة آنية، تعود بالنفع المباشر والمحسوب على المنشأة التجارية، بالإضافة إلى فوائدها المعنوية، ونحن في الإسلام نقر بأن هذا الإسهام قد يكون داخلًا في المفهوم الشامل للصدقة التي يأتي منها إماطة الأذى عن الطريق، والتي لا تنقص من المال، بل تزيده، من منطلق حديث المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم[15].

 

ولأنها حديثة الإطلاق، لا حديثة المفهوم، نجد أن هناك ترديدًا لها في مجتمعات اقتصادية وتجارية وشعبية متفاوتة، من حيث إدراك المفهوم، وهذا ما جعلها ترتبط بالجانب التجاري، ويأتي ربطها بالغرف التجارية، وهي ليست كذلك، مع أن لها التصاقًا قويًّا بالبُعد التجاري، ولكنها ليست مقتصرة عليه، ومن ثم فهي ليست محصورة بالقطاع الأهلي أو الخاص، وحصرها على هذا القطاع يدخل في مفهوم حصر العام على الخاص، وهو حصر في الوقت نفسه يحرج التجار “رجال الأعمال” و”سيدات الأعمال”، ويضفي عليهم أعباءً على الأعباء التي يضطلعون بها في خدمة المجتمع.

 

ومن شأن التعلق بهذا المفهوم أن يطبق غدًا على أي عمل يراد به انتفاع المجتمع منه، حتى عمد بعض المعنيين بترسيخ المفهوم الأخلاقي للصلات بين أفراد المجتمعات إلى إضفاء مصطلح المسؤولية الاجتماعيَّة على هذا المفهوم النبيل، ولا يكتفي بذلك، بل يصوغ المفهوم بصيغة الجمع، ما يعني أن المسؤولية الاجتماعيَّة ليست مسؤولية واحدة، بل هي مسؤوليات[16].

 

وتذكر رائدة مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة في منطقة الخليج العربية السيدة آسيا بنت عبدالله آل الشيخ، أن الشركات والمؤسسات التجارية التي تفهمت المسؤولية الاجتماعيَّة وطبقتها قد زاد معدل ربحيتها 18 % عن تلك التي ليس لديها برامج من هذا القبيل، وربما أنها تسهم في ذلك، ولكن من دون رؤية واضحة ممنهجة، وأن 86 % من المستهلكين يقبلون على الشركات التي تحقق مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة أو قدرًا ملحوظًا من المفهوم[17]، وتؤكد هذه النسب أهمية التسويق في ترسيخ مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة[18].

 

ولدى التجار من حيث كونهم مواطنين ومواطناتٍ مدفوعين دينيًّا ووطنيًّا وإنسانيًّا: إسهاماتٌ قيمة قابلة للرصد، ولكنهم قد لا يرغبون بفعل الثقافة الدينية التي لا تحبذ المجاهرة في جانب من جوانب الإنفاق في الأعمال الخيرية الخاصة بالإفصاح عن هذه الإسهامات، فهم يسهمون بشكل فاعل وملموس في تنمية المجتمع، وإن لم يظهر ذلك للبعض بصورة مباشرة؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271]، وقال تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾ [النساء: 149].

 

ويؤثر هذا التوجه في إخفاء هذا الجهد الخيري في مقياس المسؤولية الاجتماعيَّة في مجتمعات تعزف عن الإفصاح عن جهودها في هذا المسار[19]، ربما من منطلق أن هذه الخدمة المقدمة لا تستدعي الإعلان؛ على اعتبار أنها تعد جزءًا من الواجب تجاه المجتمع، ويتطلب هذا قدرًا من الشفافية والإفصاح في ضوء إمكان الإعلان عن هذه الجهود.

 

ولا ينكر هذه الجهود إلا من لم يطلع على شيء منها، ولا يتنافى هذا مع توقع المزيد، من خلال مأسسة أداء المسؤولية الاجتماعيَّة، وقد جاء هذا الانطباع السائد حول تقصير الشركات الخليجية في مجال المسؤولية الاجتماعيَّة؛ لأن كثيرًا من الشركات تحجم عن الإفصاح عن كثير من مساهماتها الاجتماعيَّة، ومن ثم لا تصل معلومات هذه الجهود إلى التصنيفات العالمية المعنية بالمسؤولية الاجتماعيَّة للشركات والمؤسسات التجارية[20].

 

الحاجة إلى الإعلان:

يسهم الإعلام بوضوح في إبراز الجهود، ويعد هذا ضمن المسؤولية الاجتماعيَّة للإعلام عمومًا، وللصحافة خصوصًا[21].

 

ربما يعني هذا أن تعمِد جهات القطاع الأهلي أو الخاص، لا سيَّما عن طريق الغرف التجارية الصناعية بمنطقة الخليج العربية، إلى الإفصاح عن إسهاماتها في تحقيق مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة، مع السعي إلى توسيع مفهوم تحقيق هذه المسؤولية من خلال ما يسهم به رجال الأعمال وسيدات الأعمال من جهود في تنمية المجتمع المحلي والإقليمي والدولي، في ضوء ما يقومون به من جهود إنتاجية وخدمية.

 

التاجر بمنشأته التجارية أو الصناعية يسهم في خدمة المجتمع، سواءٌ أكانت هذه المنشأة متجرًا أم مصنعًا أم مركزًا لتقديم خدمات ذات مقابل مادي؛ أي إن مجرد وجود المنشأة يُعَد إسهامًا في خدمة المجتمع، ومن ثم فقد اضطلع التاجر ابتداءً بقدر من المسؤولية الاجتماعيَّة.

 

أرأيتم لو أقام التاجر منشأته في مجتمع آخر غير مجتمعه، هل يمكن أن يقال له: إنه اضطلع بمسؤولياته الاجتماعيَّة في مجتمعه، مثلما اضطلع بها في المجتمع الذي أقام فيه منشأته؟ ومع هذا – وليس هذا اعتذارًا للتاجر – فإنه قد اضطلع بقدر من المسؤولية تجاه المجتمع الإنساني – يعني ملازمة الاضطلاع بالمسؤولية الاجتماعيَّة في أي موقع يكون التاجر فيه، ومن هنا يبرز مفهوم “الأقربون أولى بالمعروف”، بالمفهوم الأعمق لهذه المقولة، لا بذلك المفهوم الأناني المحلي الحاصر للمعروف في مجتمع بعينه؛ قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215].

 

التاجر مطالبٌ بتزكية ماله وتطهيره مما يلحق به من غبش قد لا يكون ظاهرًا؛ ولذا فهو ينفق من ماله في مجالات تنمية المجتمع طُهرةً لماله وطهرةً لنفسه أن تطغى عندما استغنى، ويسهم بطرق شتى في هذه المجالات الحيوية بمعالجة الفقر، بمفهومه الأشمل من مجرد سد الرمق بلقيمات توضع في فم الفقير فتزيد من فقره وفقر مَن يعول فقرًا، بل يعالج الفقر بانتزاعه من فقره، وجعله منتجًا فاعلًا في مجتمعه، كما سيأتي الحديث عنه في فصل مواجهة الفقر.

 

والتاجر في مجتمعنا الخليجي يشغل أبناء وطنه في منشأته، بقدر مهاراتهم واستعدادهم، ويعد مواطنو البلاد العربية – ومنها منطقة الخليج العربية – تمامًا كمواطنيها، بموجب اتفاقيات مشتركة بين الدول العربية تتوج باتفاقيات تبادل العمال وحرية انتقالهم، بالإضافة إلى الوقوف مع الحكومات العربية – ومنها الخليجية – في حملتها لتوطين العمال، ما يستدعي تأهليهم وتدريبهم وتمكينهم من الإسهام في التنمية[22].

 

فالتاجر بهذا لا يشغل المواطنين فحسب، بل إنه يدربهم على دخول السوق؛ ليصبحوا تجارًا يشغلون غيرهم، كما شغلهم غيرهم من قبل، وهناك عددٌ لا بأس به من رجال الأعمال اليوم كانوا قد انطلقوا على أيدي تجار سابقين، جعلوا منهم تجارًا ليصنعوا هم بدورهم غيرهم تجارًا آخرين، وهكذا.

 

هذا بالإضافة إلى تشغيل التاجر لغير المواطنين، بحسب الحاجة إليهم، تلك الحاجة التي قد لا يقوم بها المواطن نفسه لأسباب ذات علاقة بالتأهيل الفني والمهني أو التأهيل الاجتماعي، فيخدم الوافدون من غير المواطنين مجتمعاتهم البعيدة، بما يحولونه من أجرتهم المستحقة غالبًا، وغير المستحقة في بعض الحالات، التي تفوق المائة مليار (000 , 000 , 000 , 100) ريال سعودي سنويًّا على المستوى الخليجي خاصة، تلك التحويلات التي تنتظرها في الأصل نفوس ونفوس، وهذه في مجملها خدمة للمجتمعين القريب والبعيد، وتحقق عن طريق التجار المسؤولية الاجتماعيَّة بمفهومها الواسع.

 

المسؤولية الاجتماعيَّة والتَّنظيم:

التاجر المعنوي والاعتباري في بيئة مشهورة بالكرم والعطاء مثل بيئتنا العربية هذه، يتبنى مشروعات خيرية وتنموية في أماكن محددة، فلكم رأينا من يحفر الآبار، ومن يتبرع بمولدات الكهرباء، وبناء المدارس والمساجد والمستوصفات، ومن يشق الطرق الداخلية والدائرية، وكم رأينا من يكفل الأيتام ويدعم ذوي الاحتياجات الخاصة، مباشرةً أو من خلال الجمعيات الخيرية ذات النفع العام أو النفع الخاص، وفي هذا كله تحقيق لأحد مفهومات المسؤولية الاجتماعيَّة.

 

هذه الجمعيات كلها – بحكم النظر إليها على أنها وسائط بين المانح والممنوح له – هي موضع ثقة من الجميع، تصرح لها الدولة وتدعمها وتثق بها وتشرف عليها، وتتأكد من أدائها مهماتها ووظائفها، في حدود ما رسمته هذه الجمعيات لنفسها، وفي حدود ما وضعته الدولة لها من لوائح، ولست – بحكم معايشتي المتواضعة للعمل الخيري – ممن يقول بخلاف ما هو عليه واقع هذه الجمعيات التي تستند بقوة على دعم الدولة وعلى دعم القطاع الأهلي، وأنا أدرك مدى ما تقدمه هذه الجمعيات من خدمات، ومدى ما تتمتع به من ثقة المانحين والممنوح لهم.

 

لستُ مع أولئك الذين يَكيلون الاتهامات للتجار كيلًا، ويرمونهم بالتقصير في تحقيق المسؤولية الاجتماعيَّة؛ إذ إنهم مواطنون أولًا يحملون هموم الوطن بثوابته وانتمائه في مجالهم، كما يحملها غيرهم في مجالهم، ولا مزايدة على مواطنتهم، ناهيك عن أن تكون هناك مزايدة على انتمائهم الديني، الذي يحتم عليهم أداءَهم دورَهم المناط بهم في خدمة المجتمع، وهم يعلمون أنه ما نقص مالٌ من صدقة، بل إن الصدقة تزيده، ويبارك الله تعالى في أعمالهم وأعمارهم[23].

 

هذه هي القاعدة العامة عن التجار التي ينبغي إبرازها في شأنهم، ومن حقهم وقد أحسنوا أن يقال لهم: أحسنتم، وإذا قيل لهم: أحسنتم، زاد ذلك من إحسانهم محفَّزين بما يلقونه من اعتراف بما يقومون به من جهود، لا ينبغي التغاضي عنها بإطلاقات إعلامية سريعة، ينقصها غالبًا التوثيق والبراهين، وربما دافعها عامل الإثارة الإعلامية؛ لتكون على حساب من ينفقون من أموالهم وجاههم وعلمهم وخبرتهم سرًّا وعلانيةً.

 

تأتي هذه الخدمات المتنوعة من التجار والمنشآت التجارية والصناعية والخدمية دونما تقصير من الدولة، ولكنها اليد الواحدة المتضامنة التي تسعى لخدمة المجتمع، والتجار لهم أثرهم الواضح والمنتظر في هذا المسار الذي هو مجال للتنافس في تحقيق المسؤولية الاجتماعيَّة، بحيث ظهر أثر ذلك من خلال إنشاء إدارات ومكاتب داخل المنشآت التجارية والصناعية والخدمية، مهمتها الاضطلاع ببرامج خدمة المجتمع وتحقيق المفهوم الشامل للمسؤولية الاجتماعيَّة، بما في ذلك الاستعانة بالطاقات المؤهلة ذات الأبعاد الخيرية الموثوقة.

 

هذا الأسلوب في تحقيق المسؤولية الاجتماعيَّة مع أساليب أخرى ذات علاقة بالإنتاجية والربحية حَدَا ببعض الباحثين والمَعْنيين إلى دراسة هذا التوجه من منطلق أكاديمي تقويمي شمولي، بحيث تتبين المجالات الاجتماعيَّة التي يحسن التركيز عليها في وقتنا الحاضر، وفي هذا الفصل – من خلال الهوامش – ذكرٌ لبعض الجهود العلمية في ترسيخ مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة، وهي جهود مستمرة.

 

وهذا ما دعا إلى قيام مؤسسات تدريبية وأكاديمية مستقلة تختص بتأصيل مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة، من دون التركيز بالضرورة على فعل الخير فقط، على اعتبار أنه هو المقصود وحده عند بعض مَن يفهمون المسؤولية الاجتماعيَّة هذا الفهم الذي يقصرها على فعل الخير المباشر؛ إذ إن هذا المفهوم أوسع من أن ينحصر في فعل الخير المباشر والمتبادر في الأذهان – كما مر التوكيد عليه أكثر من مرة – مع أهمية هذا العنصر من عناصر المسؤولية الاجتماعيَّة، ففي كلٍّ خير.

 

وهذا ما تسعى إلى تسويقه الخبيرة بهذا الشأن آسيا بنت عبدالله آل الشيخ، التي أنهت مرحلة الماجستير في موضوع المسؤولية الاجتماعيَّة، وتنفق الكثير من المال والجهد والوقت لتقوم بحملة توعية، من خلال مؤسستها غير الربحية التي أطلقت عليها اسم شركة “تمكين” للاستشارات الإداريَّة والتنموية، حول الآليات التي تنفذ بها هذه المسؤولية، وتعمل على الوصول إلى المسؤولين وصنَّاع القرار في الجهات الرسمية والأهلية ذات العلاقة لتشرح لهم فكرتها، وتقوم بإعداد ورش العمل التوعوية في مجالات المسؤولية الاجتماعيَّة، وربما تدخل جهودها هذه في مسار العلاقات العامة التي تتوخى التوعية بأهمية هذا المفهوم، من دون أن يكون المفهوم نفسه داخلًا في مهمات العلاقات العامة ووظائفها الإداريَّة المباشرة[24].

 

لا بد أن تَلقى في انطلاقتها هذه عَنَتًا، لا يَثْنيها عن تحقيق أهداف المسؤولية الاجتماعيَّة التي ترمي إليها، ولا يصدها عن المراجعة الدورية للجهود التي تقوم بها لمعرفة أبرز المعوقات التي تقف في وجه المشروع، كما بينته الخبيرة آسيا بنت عبدالله آل الشيخ في سعيها لتسويق المفهوم الشامل للمسؤولية الاجتماعيَّة[25].


[1] أصل هذا البحث ورقة أولية نشرت في مجلة الغرفة التجارية الصناعية بالقصيم (القصيم) في عددها الخاص عن المسؤولية الاجتماعية، ع 114 (3/ 1428هـ – 3/ 2007 م) ص 10 – 11،وقد جرى تطويرها وتطعيمها بالمزيد من الرؤى والمراجع.

[2] انظر: عمر عبدالعزيز، محرر، السعودية: الشركات الخاصة تخلط بين المسؤولية الاجتماعية والعمل الخيري، الأسواق – نت -18/ 4/ 1430هـ.

[3] انظر: عمر عبدالعزيز، محرر، السعودية: الشركات الخاصة تخلط بين المسؤولية الاجتماعية والعمل الخيري، الأسواق – نت،- المرجع السابق،18/ 4/ 1430هـ.

[4] انظر: القطاع الخاص والمسؤولية الاجتماعية: خدمة المجتمع وحسابات الربح والخسارة، القصيم، ع 114 (3/ 1428 ه-) – 3/ 2007 م)، ص 9 – 10.

[5] انظر: طاهر محمد منصور نعمة عباس الخفاجي، قراءات في الفكر الإداري المعاصر: تباين الأهداف المتوخاة من تبني المسؤولية الاجتماعية في المنظمات الحكومية والخاصة، عمان: دار اليازوري العلمية، 2008م.

[6] انظر: فتحي عبدالرحمن الضبع، المعاقون حركيًّا ومدى إحساسهم بالمسؤولية الاجتماعية، القاهرة: دار العلم والإيمان، 2008م.

[7] انظر: مشاري بن عبدالله النعيم، التنمية وإشكاليات المسؤولية الاجتماعية، القصيم، ع 114 (3/ 1428هـ – 3/ 2007 م)، ص 12 – 13.

[8] انظر: آسيا بنت عبدالله آل الشيخ، المسؤولية الاجتماعية/ الانتقال من العطاء العشوائي إلى العطاء الذكي، القصيم، ع 114 (3/ 1428هـ – 3/ 2007 م) ص 18 – 20.

[9] انظر: طارق راشد، المسؤولية الاجتماعية والعولمة، دور أخلاقي أم سيطرة اقتصادية، القصيم، ع 114 (3/ 1428هـ – 3/ 2007 م)، ص 14 – 16.

[10] انظر: علي بن إبراهيم النملة، هاجس المؤامرة في الفكر العربي بين التهوين والتهويل، ط 2، بيروت: مكتبة بيسان، 1435هـ/ 2014م، 250 ص.

[11] انظر: مشاري بن عبدالله النعيم، التنمية وإشكالات المسؤولية الاجتماعية – القصيم، مرجع سابق، ص 12 – 13.

[12] انظر: صالح العامري وطاهر الغالبي، المسؤولية الاجتماعية وأخلاقيات الأعمال: الأعمال والمجتمع، عمان: دار وائل، 2005م، 467 ص.

[13] انظر: سيد أحمد عثمان، التحليل الأخلاقي للمسؤولية الاجتماعية، القاهرة: مكتبة الأنجلو – المصرية، 1996م -191 ص.

[14] انظر: سعد المرصفي، المسؤولية الاجتماعية في الإسلام، الكويت: مكتبة المعلا، 1988م، 400 ص.

[15] انظر: سيد أحمد عثمان، المسؤولية الاجتماعية والشخصية المسلمة: دراسة نفسية تربوية، القاهرة: مكتبة الأنجلو – المصرية، 1986م، 311 ص.

[16] انظر: الفيض الكاشاني، المسؤوليات الاجتماعية، آداب الصحبة، العولمة، السفر، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القاهرة: دار المحجة البيضاء للطباعة، 2005م، 295 ص.

[17] انظر: عمر بن عبدالعزيز، محرر، السعودية: الشركات الخاصة تخلط بين المسؤولية الاجتماعية والعمل الخيري، الأسواق – نت، م سابق،18/ 4/ 1430هـ.

[18] انظر: ثامر ياسر البكري، التسويق والمسؤولية الاجتماعية، عمان: دار وائل، 2001م، 168 ص.

[19] انظر: صلاح الدين أبو ناهية، مقياس المسؤولية الاجتماعية، القاهرة/ مكتبة الأنجلو – المصرية، 1998م.

[20] انظر: آسيا بنت عبدالله آل الشيخ، المسؤولية الاجتماعية: الانتقال من العطاء العشوائي إلى العطاء الذكي، القصيم، مرجع سابق، ص 18 – 20.

[21] انظر: محمد حسام الدين، المسؤولية الاجتماعية للصحافة، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2003م، 277 ص.

[22] انظر: خالد بن عبدالعزيز الشريدة، القطاع الخاص والدور التنموي، القصيم، ع 114 (3/ 1428هـ – 3/ 2007 م)، ص 24 – 25.

[23] من الحديث الذي رواه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنصاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلِم عبد مَظلِمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزًّا، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر))،الحديث صحيح، صححه غير واحدٍ من الحفاظ.

[24] انظر: محمد محمد البادي، العلاقات العامة والمسؤولية الاجتماعية، القاهرة: مكتبة الأنجلو – المصرية، 1980م، 200 ص.

[25] انظر: صحيفة المدينة، ع 16025 (19/ 2/ 1428هـ – 9/ 3/ 2007 م)، ص 13.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى