وداعا يا عبقا شذيا من زمن الطيبين في رحيل والد زوجي العابد الزاهد ياسين بن أمين بكورة
وداعًا يا عبقًا شذيًّا من زمن الطيِّبين
في رحيل والد زوجي العابد الزاهد ياسين بن أمين بكُّورة
توفي في دُومَة حاضرة الغوطة الشرقية من ريف دمشق، ضُحى الأربعاء ٥ رجب ١٤٤٥هـ، والدُ زوجي أمِّ سفيان، العابد الزاهد التقيِّ الورع -ولا أزكِّي على الله أحدًا- ياسين بن أمين بَكُّورَة أبو عارف، عن زهاء ٨٥ عامًا قضاها في العمل والعبادة وحبِّ الخير للناس.
أدَّى صلاة الفجر في المسجد ثم صلَّى الضُّحى، وبعد أن ارتفعت الشمسُ أسلم الرُّوحَ إلى بارئها، راضيًا مرضيًّا بإذن الله تعالى.
بعد أن رجعَ من صلاة الفجر قصَّ على زوجه رؤيا رآها ليلةَ وفاته= أنه ذهب إلى الحجِّ وطاف بلباس الإحرام، وبعد أن انتهى من طَوافه رأى ناسًا حِسان الوجوه كلٌّ بيده صُرَّة بيضاء يعطيه إيَّاها ويقول له: وجبَتْ وجبَتْ، وأعطاه أحدُهم صُرَّتَين كبيرتين.
بعد أن قصَّ رؤياه الحسنة فرحًا بها قال لزوجه:
أنا اليوم نشيط جدًّا، وأشعر بالدِّفء مع شدَّة البرد. لمَسَت يدَه فوجدَتها دافئة.
ثم قال لها: سألبَسُ أحسنَ الثياب لأجلسَ في محلِّ الأولاد فأعرض نفسي للشمس.
لبِسَ وخرج إلى المحلِّ، وما إن جلسَ على كرسيِّه قليلًا حتى مالَ وسقط إلى الأرض يعاني نزعَ الروح، ويهتفُ باسم ولده الذي كان معه: عدنان.. عدنان. سَرعانَ ما حمله ولدُه مع صديق له إلى المستشفى، ولسانُه يلهَجُ بذِكر الله: يا رب.. يا رب، حتى نطقَ بالشهادتين وخدُّه المُدَمَّى من أثر السقوط ملتصقٌ بخدِّ ولده.
غسَّلوه وكفَّنوه فأنار وجهُه المستدير يتلألأ بياضًا وابتسامًا وقد ذهبت تجاعيدُه.
لقد كانت جنازتُه مشهودةً بعد صلاة العصر، فاكتظَّ المسجدُ بالمشيِّعين حتى اضطُرَّ كثيرون من محبِّيه أن يصلُّوا خارج المسجد، ومضَت جنازته إلى المقبرة سريعةً جدًّا، وكأنها تطير طيَرانًا، وكان النساء والأطفال يرقُبون من النوافذ وأسطُح العمائر والبيوت هذا المشهدَ المَهِيب.
وما أكثرَ من دخلوا عليه بعد تكفينه ما بين مقبِّل لجَبهته وناظر إليه نظرةَ الوداع.
وإن تعجَب فعجَبٌ أن يكونَ حزنُ جيرانه ومحبِّيه وبكاؤهم عليه لا يقلُّ عن حُزن أقاربه وذَويه وبكائهم!
لم يكن في حَنُوطه مِسكٌ ولا عَنبَر غيرَ أن الناس حوله كانوا يشمُّون رائحتَهما تَضُوعُ من جُثمانه.
عندما شَرَعوا في دفنه تقدَّم رجلٌ لديه بنتٌ حديثة الولادة قد ماتت وأسماها عائشة = فطلب من أولاد الفقيد أن يُدخلوها معه في القبر؛ لغلاء ثمن القبور، فرحَّبوا بذلك، وجعلوها قُبالةَ وجهه رحمه الله، وقالوا: لعلَّها تُؤنِسُه في قبره.
ويحضُرني في هذه المناسبة قولُ تلك الفتاة في رثاء أبيها، كما جاء في “عيون الأخبار” لابن قتيبة:
وَداعُكَ مثلُ وَداعِ الرَّبيعِ
وفَقْدُكَ مثلُ افتِقادِ الدِّيَمْ
عليكَ السَّلامُ فكَم مِن وَفاءٍ
نُغادِرُه فيكَ كَم مِن كرَمْ
|
وداعًا أبا عارف، فإنك تذكِّرني بالإمام الشَّعْبي حين قيل له: يا عالم، فقال: إنما العالمُ الذي يخشَى الله.
وداعًا، فإنك تركتَ لي ولأولادي، ولأصهارك وأحفادك جميعًا، سُمعةً طيِّبة يمشون بها بين الناس.
وداعًا يا صاحبَ البسمة المشرقة والنفس الهَنيئة.
وداعًا أيها الصوَّام القوَّام، يا من كنتَ تنتهجُ منهجَ السلف الصالح انتهاجًا حقيقيًّا؛ بالعقيدة الفِطرية السليمة، وبالمحافظة على صلوات الجماعة في المسجد قبل أن يُنادى بهنَّ، وبالمتابعة بين الحجِّ والعُمرة، وبالمحافظة على السُّنن والنَّوافل، وصيام كلِّ اثنين وخميس، وأيام البِيض وستٍّ من شوَّال، ويوم عرفةَ ويوم عاشوراء.
وداعًا أبا عارف، يا صاحبَ المعروف، وصدقة السرِّ، وحَمْل الكَلِّ، وإكساب المَعدوم، وقِرَى الضَّيف، والإعانة على نوائب الحق.
لن يُخزيَكَ الله أبدًا، ولن يَحزُنَكَ، يا من زرَعتَ بفِراقك جذورَ حُزن عميق في قلوبنا، وغُصَّةَ ألم ستبقى تنتابُنا حينًا فحينًا، وخلَّفتَ في أكبادنا حُرقةً ولوعة.
وداعًا يا عبقًا شذيًّا من زمن الطيِّبين.
كتبه:
صِهرُك نضال بن محمود آل داود
الأربعاء ٥ رجب ١٤٤٥هـ الموافق 17/ 1/ 2024م
صورة العم ياسين بن أمين بَكُّورَة أبو عارف
رحمه الله تعالى