العولمة والبطالة
العولمة والبطالة
هناك أُطروحاتٌ تذكر أن التوجهَ إلى العولمة سيزيد من حِدَّةِ البطالة في العالم كافة، وفي الدول المتقدمة بخاصة، وهناك من يتوقع “بنمو سريع في جزءٍ كبير من العالم الثالث في شرق آسيا وجنوبها، ومن المحتمل في أمريكا اللاتينية، وسوف تُحوِّل معدلاتُ النمو العالية والمستمرة نصيبًا ملحوظًا من الإنتاج العالمي إلى الدول النامية الكبرى؛ مثل: الصين والهند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية”[1].
المتوقع أنه “بحلول عام 2020 سوف تمثل الدولُ النامية أكثرَ من 60% من الإنتاج العالمي، في حين تمثل الدول الصناعية الغنية أقل من 40%”[2].
هذا الطرحُ المتشائم قد يؤدي إلى الحدِّ من المزيد من الرغبة في الهجرة إلى الدول المتقدمة، التي لم تعُدْ قادرة على استيعاب المزيد، كما قد يؤدي إلى نشوء “عمالة” رخيصة، ذات أجور منخفضة أو متدنية، تهاجر إليها الأعمالُ، بدلًا من أن تهاجرَ هي إلى مواطن العمل، مما يؤثر على نوعية الإنتاجية[3].
تملك العولمة “إمكاناتٍ هائلة لنقل البطالة من مكان إلى آخر، فإذا كانت الاستثماراتُ تتدفَّق على بلد بسبب انخفاض أجور الأيدي العاملة مثلًا، فإن تلك الاستثماراتِ تظل على أُهبةِ الاستعداد للرحيل إلى بلد آخر، تكون الأجور فيه أرخص”[4]؛ لهذا وبسبب العولمة، “وعبر نشاطاتِ الشركات المتعددة الجنسية، لجأت كثيرٌ من الصناعات التحويلية في أوروبا وغيرها إلى الانتقال إلى البلدان النامية؛ للاستفادة من المزايا والامتيازات التي وفرتها تلك البلادُ للاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ من نحو: الإعفاءات الضريبية، ورخص الطاقة والأرض واليد العاملة، وتحمل تكلفة التلوث البيئي”[5].
يذكر حسين عبدالهادي في هذا الصدد أن “هناك خطةً لتوزيع الصناعة عالميًّا، واتجاهًا واضحًا إلى إبقاء أنواع الإنتاج التي تتطلب جهودًا علمية أكبرَ في الدول الصناعية المتقدمة، ونقل الأنواع الأقل تعقيدًا والأكثر سكونًا، والتي تتطلب جهودًا عضلية كبرى إلى البلدان النامية؛ حيث اليدُ العاملة أرخص، وحيث تكون اعتباراتُ حماية البيئة أقلَّ تشدُّدًا”[6].
ظهر في بعض الدول النامية ما يمكن تسميتُه بمناطق الصناعات التصديرية، “وتضمُّ هذه مئات المصانع التي تصنع منتجاتِ الشركات الأجنبية: الثياب التي يشتريها الناس في الشوارع الرئيسية في بريطانيا، وفي المراكز التجارية في أمريكا الشمالية وأستراليا؛ من الأحذية الرياضية الشهيرة غاب إلى نايكي وأديداس وريبوك، التي تُباع بنحو 100 جنيه إسترليني للزوج الواحد في شارع أكسفورد بلندن، ويعمل في هذه المصانع عمالٌ يتقاضون ما يعادل دولارًا واحدًا في اليوم”[7]، وقد تدوم ساعاتُ العمل في هذه المصانع إلى ست وثلاثين ساعة دون ترك المصنع[8].
هذا بدوره وفي الوقت نفسه مؤشر خطر بالنسبة للدول المتقدمة، لا سيما مع هذا التنامي في الحاجة إلى سدِّ النقص في عدد سكانها المتراجع[9]، في ضوء تناقص الهجرة إلى الشمال، الذي يصاحبه التناقصُ في التكاثر المحلي، بما يطلق عليه “موت الغرب”[10]؛ بحيث يصبح البِيضُ في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية أقلَّ من 50% من عدد السكان، وتصبح الثقافات الأخرى غير الأوروبية – كالثقافة الإسلامية – تقتربُ من الثقافة الغربية القائمة على التقاليد المسيحية ثم اليهودية، فاختلط الأنا بالآخر، عندما أصبح الآخرُ جزءًا من المسرح الغربي[11]؛ مما أدى – ولأسباب ثقافية واقتصادية أخرى – إلى الالتفاف على قوانين الهجرة، وإعادة النظر فيها، واقتصارها على العمال الماهرين (العقول Brain Drain)، وليس العمال غير الماهرين (السواعد)[12]، مع تشجيع العودة للأسرة “التقليدية”، ودعم الإنجاب للوصول إلى الحد الأدنى للبقاء، وهو معدل 2,1، في مقابل الواقع الذي وصل المعدل فيه إلى 1,2، كما تذكر صحيفة الهيرالد تريبيون في عددها ليوم الاثنين 4/ 9/ 2006م.
هذا بالإضافة إلى بروز ظاهرة الهجرة العمالية المعاكسة؛ حيث أفرزت أحداثُ يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر جُمادى الآخرة 1422هـ الحادي عشر من سبتمبر 2001م، ظهور شعور بالاضطهاد للعرب والمسلمين ومَن في حُكمهم في الدول المتقدمة؛ مما جعل العمالَ العرب والمسلمين المهاجرين – وتدخل معهم فئاتٌ إثنية وثقافية شرقية أخرى – يبدؤون في إعادة النظر في تقويم وجودهم في البلاد الغربية، والموازنة بين الحقوق التي يحصلون عليها في مقابل ما يتعرضون إليه وأُسرهم من مضايقاتٍ، على مستويات اجتماعية من بيئة العمل إلى وسائط التفاعل الاجتماعي.
هذا بالإضافة إلى عوامل الترحيل، التي يتعرض لها العمال العرب والمسلمون ومن يدخل في حكمهم في ضوء الحملة على الإرهاب، لا سيما أن هناك إشاراتٍ “إلى أن العائدين اشتكوا من سوء المعاملة داخل السجون الأمريكية لأصحاب الجنسيات العربية”[13]، فأضحى هؤلاء العمالُ ضحايا بريئةً للحملة على الإرهاب[14].
أما إذا أردنا تطبيقَ ذلك على منطقة الخليج العربية، فإن مفهوم البطالة الذي وضعته منظمة العمل الدولية، المتمثل في: رغبة العامل في وجود عملٍ يملِك العاملُ التأهيلَ له، ويبحث عنه فلا يجده – قد لا ينطبق موضوعيًّا على وجود عدد من الباحثين عن العمل من المواطنين الخليجيين؛ ذلك لافتقار بعضِهم إلى الرغبة، وافتقار فئة ثانية إلى التأهيل والتدريب، وحاجة البقية إلى الجدية في البحث عن العمل، وانصراف فئة رابعة، وهي الأغلبية، إلى العمل الحكومي؛ حيث الأمان الوظيفي من جهة، وحيث التساهل في قياس الإنتاجية من جهة ثانية، وحيث التهاون في تطبيق مبدأ الثواب والعقاب من حيث الانضباط في العمل من جهة ثالثة؛ مما أدى إلى اتهام الوظيفة الحكومية بأنها مرتعٌ للبطالة المقنَّعة.
هذا مفهومٌ للبطالة أوسع من التعريف المهني المباشر لها؛ “فالذي لا يعمل هو في حالة بطالة لا نقلل من شأنها، ولكن الذي يعمل تحت إجبار الاحتياج ولا يربطه بعمله إلا المقابل المادي، هو أيضًا في حالة بطالة من نوع آخرَ، لا يقل خطورةً في معناه وأبعاده وعواقبه الاجتماعية والنفسية”[15].
يأتي هذا الاحترازُ توكيدًا على تعريف البطالة الذي تبنَّاه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على أنه: “كل الأفراد فوق سِنٍّ معينة ممن لا يعملون بأجر أو لحسابهم الخاص، والمتوفرين للعمل، واتخذوا خطوات محددة؛ بحثًا عن عمل بأجر أو لحسابهم الخاص”[16].
مع هذا لا بد من التسليم بوجود بطالة في منطقة الخليج العربية بين الشباب من الجنسين خاصة، وأن على دول المنطقة اتخاذَ التدابيرِ المناسبة “لتنسيق الحماية من البطالة فيها في سياستها في مجال العمال، وتحرص لهذا الغرض على أن يُسهمَ نظامُ الحماية من البطالة فيها – لا سيما طرائق تقديم إعانات البطالة – في تعزيز العمالة الكاملة والمنتجة والمختارة بحرية، وألا يكونَ من أثرها عدمُ تشجيع أصحاب العمل على عرض عمالة منتجِة، والعمال عن البحث عن هذه العمالة”[17]، هذا نصٌّ من المادة الثانية من الاتفاقية الدولية ذات الرقم (168) لعام 1988م، والتوصية ذات الرقم 176 من العام نفسه، بشأن تعزيز العمالة والحماية من البطالة.
لا تتوسع هذه الوقفة في مناقشة آثارِ البطالة الاجتماعية، التي تؤدي إلى “كثير من التخلخل الاجتماعي، في صورة تطرف سياسي أو ديني أو طائفي، إلى شيوع الاتِّجار وتعاطي المخدرات، وإلى مختلف ظواهر العنف والجريمة والإرهاب، وإلى إدمان الخمور والقِمار، وإلى مختلف ظواهر الاغتراب، وما عُرف بالهَوَس والتحرر الشبابي”[18].
كلُّ هذه القلاقل قد تحصل في أي مجتمع متقدم أو نامٍ[19]، بما في ذلك منطقة الخليج العربية، التي تُعدُّ منطقةً جاذبة لمثل هذه القلاقل جرَّاءَ وجود عمال غيرِ مواطنين عاطلين عن العمل، مع وجود مواطنين عاطلين عن العمل[20]، في الوقت الذي تملك فيه دولُ المنطقة القدرةَ على تقليص هذا الوضع العمالي غير الطبيعي، بمواصلة الجهود في التخلُّص من العمال الوافدين الزائدين عن الحاجة، وضبط السوق الخليجية، بحيث يعمل العاملُ فيما استُقدم له، وتطبيق أنظمة مكافحة التستر[21]، وبعض الأمور الإجرائية العمالية التي لا بد منها، والتي تتطابق مع الاتفاقيات العمالية الدولية، وتتوافق مع مواثيق حقوق الإنسان.
[1] انظر: عاطف السيد، العولمة في ميزان الفكر: دراسة تحليلية، د. م: المؤلف، 2002م، ص 118 – 119.
[2] انظر: عاطف السيد، العولمة في ميزان الفكر: دراسة تحليلية – المرجع السابق – ص 118.
[3] انظر: ميشيل تشوسودوفيسكي، عولمة الفقر/ ترجمة محمد مستجير مصطفى، القاهرة: مجلة سطور، 2000م، ط 2، ص 77 – 78، وانظر كذلك: بهاء شاهين، العولمة والتجارة الإلكترونية – مرجع سابق – ص 28.
[4] انظر: عبدالكريم بكار، العولمة: طبيعتها – وسائلها – تحدياتها – التعامل معها، عمان: دار الأعلام، 1421هـ/2000م، ص 94.
[5] انظر: عبدالكريم بكار، العولمة: طبيعتها – وسائلها – تحدياتها – التعامل معها، المرجع السابق، ص 92.
[6] انظر: حسين عبدالهادي، العولمة النيوليبرالية وخيار المستقبل، جدة: مركز الراية للتنمية الفكرية، 1424هـ/ 2004م، ص 355.
[7] انظر: جون بلجر، أسياد العالم الجدد/ ترجمة عمر الأيوبي، بيروت: دار الكتاب العربي، 2003م، ص 21 – 22.
[8] انظر: جون بلجر، أسياد العالم الجدد – المرجع السابق – ص 21.
[9] انظر: جاك غودي، الإسلام في أوروبا/ تعريب جوزف منصور، بيروت: عويدات، 2006، ص 223.
[10] انظر: باتريك ج. بوكانن، موت الغرب: أثر شيخوخة السكان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب/ نقله إلى العربية محمد محمود التوبة، راجعه محمد بن حامد الأحمري، الرياض: مكتبة العبيكان، 1425هـ/ 2005م، 529 ص.
[11] انظر: جاك غودي، الإسلام في أوروبا – مرجع سابق – ص 223.
[12] انظر: موضوع هجرة العقول العربية، في: نجاح كاظم، العرب وعصر العولمة: المعلومات؛ البعد الخامس – مرجع سابق – ص 227 – 233.
[13] انظر: محمد رؤوف حامد، القفز فوق العولمة، القاهرة: دار المعارف، 2003م، ص 65 – 76، (سلسلة اقرأ؛ 683).
[14] انظر: محمد بن عبدالله السلُّومي، ضحايا بريئة للحرب العالمية على الإرهاب، الرياض: مجلة البيان، 1426هـ/ 2005م، ص 304 (سلسلة كتاب البيان؛ 63).
[15] انظر: منى حلمي، الحب في عصر العولمة – مرجع سابق – ص 35.
[16] انظر: تقرير التنمية البشرية لعام 2001: توظيف التقنية الحديثة لخدمة التنمية البشرية، القاهرة: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2001م – ص 256.
[17] انظر: عدنان خليل التلَّاوي، القانون الدولي للعمل: دراسة في منظمة العمل الدولية ونشاطها في مجال التشريع الدولي للعمل، جنيف: المكتبة العربية، 1410هـ/ 1990م، ص 361 – 362.
[18] انظر: حامد عمَّار، مواجهة العولمة في التعليم والثقافة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006م، ص 99.
[19] انظر: فتحي قابيل محمد متولي، مشكلة البطالة: الأسباب – المعوقات – الحلول، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008م، ص 87 – 89.
[20] انظر: سيد عاشور أحمد، مشكلة البطالة ومواجهتها في الوطن العربي، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 2008م، ص 117 – 142.
[21] محمد عبدالله البكر، أثر البطالة في البناء الاجتماعي: دراسة تحليلية للبطالة وأثرها في المملكة العربية السعودية، مجلة العلوم الاجتماعية (جامعة الكويت)، مج 32 ع 2 (2004).