إدريس وإلياس عليهما السلام
إدريس وإلياس عليهما السلام
نتحدَّثُ في هذا الفصل عن نبيَّين كريمين من أنبياء الله تعالى؛ وهما إدريس وإلياس عليهما الصلاة والسلام، وقد أشار البخاريُّ في صحيحه إلى أن إدريسَ هو إلياسُ؛ حيث قال: يذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس، كما أشار البخاري رحمه الله إلى اختلافِ الناس في نسَب إدريس عليه السلام؛ حيث قال في صحيحه: باب ذكر إدريس عليه السلام، وهو جدُّ أبي نوح، ويقال: جد نوح عليه السلام، ولم يجزِم البخاري بشيء من نسَب إدريس عليه السلام، ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ ثابتٌ يؤكِّد أن إدريس قبل نوح عليه السلام، وقد ذهب القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله إلى أن إدريس عليه السلام لم يكن جدًّا لنوح عليه السلام، وإنما هو من بني إسرائيل؛ بناء على أن إدريس هو إلياس، وأنَّ إلياس من أنبياء بني إسرائيل، ومما يرجِّح ذلك الذي ذهب إليه ابن العربي ما رواه البخاري في صحيحه في حديث الإسراء والمعراج بلفظ: فلما مرَّ جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فقلت: مَن هذا؟ قال: هذا إدريس، وفي لفظ للبخاري من طريق قتادة: ثمَّ صعد حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوَقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، ولنِعم المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا إدريس عليه السلام، قال: هذا إدريس، قال: فسلمت عليه، فَرَدَّ السلامَ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فقوله: بالأخ الصالح، يشعر بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من ذرِّيته، ولو كان إدريس جدًّا لنوح لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذريته قطعًا، ولَقَالَ له كما قال له آدم وإبراهيم عليهما السلام في ليلة الإسراء والمعراج في هذا الحديث الصحيح: “مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح”.
وكونُ إدريسَ عليه السلام قبلَ نوحٍ أو بعده لا يتعلَّق به عظيم قصد؛ ولذلك لم يرد تحديد تاريخ وجوده وزمان بعثته في خبرٍ ثابت صريح، وإنما المهم هو أنَّه من أنبياء الله تعالى، وأن الله رفعه مكانًا عليًّا، وأنه كان صدِّيقًا نبيًّا.
وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ [مريم: 56، 57]، وكما قال تبارك وتعالى: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 85، 86].
وقد ذكر كثيرٌ من المفسِّرين والإخباريين كثيرًا من الأساطير عن إدريس عليه السلام؛ فزعموا أنه طلب مِن أحد الملائكة أن يتوسَّط له عند ملكِ الموتِ أن يؤجِّل قبضَ روحه ليزداد عملًا، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقَّاه ملك الموت منحدرًا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال له ملك الموت: وأين إدريس؟ قال: هو ذا على ظهري، فقال ملك الموت: يا للعجب، بُعثت، وقيل لي: اقبضْ روحَ إدريس في السماء الرابعة، فجعلتُ أقول: كيف أقبض روحه في السماءِ الرابعة وهو في الأرض؟! فقبض روحَه هناك.
كما زعموا له أَوَّليَّاتٍ كثيرةً، فقالوا: إنه أوَّلُ من خطَّ بالقلم، وأول من خاطَ الثياب، وأول من خط بالرمل.
وقد قال ابن كثير في قصص الأنبياء: ويزعم كثيرٌ من علماء التفسير والأحكام أنه أول من تكلَّم في ذلك، ويسمونه هرمس الهرامسة، ويكذبون عليه أشياء كثيرة، كمَّا كذبوا على غيره من الأنبياء والعلماء والحكماء والأولياء؛ اهـ.
أما إلياسُ عليه السلام فظاهر القرآن الكريم يشير إلى أنَّه من ذرية نوح عليه السلام؛ حيث يقول الله عز وجل في سورة الأنعام: ﴿ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 84، 85]، فهذا يدلُّ على أنَّ إلياس من ذرية نوح، سواء قلنا: إن الضمير في قوله: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾ يعود على نوح أم على إبراهيم؛ لأن إبراهيم من ذرية نوح، فمَن كان من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح لا محالة.
وقد ذَكَرَ اللهُ تبارك وتعالى إلياسَ في سورة الأنعام كما ذكرْتُ قريبًا، كما ذَكَرَ قصته في سورة الصافات، وقد تضمَّنَتْ هذه القصة صورةً مشرقةً من صور دعوته إلى الله عز وجل، ووجوب إخلاص العبادة لله وحده، وحض قومه على تقوى الله تبارك وتعالى وتحذيرهم من أسباب سخطه، وأنه لا ينجيهم مِن عذاب الله إلا الفرار إلى الله وحده واتباع أوامره واجتناب نواهيه وسلوك صراط الله المستقيم، ونفَّرهم من عبادة صنمهم “بَعْل”، وأشعرهم بأن هذا الصنم لا يستحق تقديسًا ولا تكريمًا، وأن الله تبارك تعالى قد أيَّدَ إلياس بالحق ونصره على قومه المكذبين، وأن الله تعالى قد جعل العاقبةَ الحميدة لإلياس عليه السلام ومَن آمَن به، وأنه ترك له ذكرًا حسنًا وثَناء جميلًا وسلامًا في الآخرين من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصافات: 123 – 132].
وفي هذه القصَّة تثبيتٌ لفؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبرةٌ لأولي الألباب، وأن العاقبة الحسنة لعباد الله الصالحين، وأن عاقبة السوء للمكذبين المنحرفين، وإلياس اسم عبراني، وقد تزاد في آخره ياء ونون، فيقال فيه: إلياسين كما قالوا في إدريس: إدريسين، وقد قرأ أكثرُ القرَّاء السبعة: سلام على إلياسين، وهذا يحتمل أن المراد إلياس وحده بزيادة الياء والنون على اللغة التي ذكرتُها، ويحتمل أن المراد به: سلام على إلياس ومَن معه من المؤمنين، فجُمِعوا معه تغليبًا كقولهم للمهلب وقومه: المهلبون، وللأشعري وقومه: أشعرون بحذف ياء النَّسَب، وقد قرأ نافع وعبدالله بن عامر: (سلام على آل ياسين)؛ وهذا يحتمل أن يكون اسم والد إلياس ياسين، فكأنه قيل: سلام على إلياس ولد ياسين، ويحتمل أن يكون ياسين اسمًا ثانيًا لإلياس عليه السلام، والمراد بآله: رهطه وقومه المؤمنون معه عليه السلام، فكأنه قيل: سلام على إلياس ومن معه من المؤمنين، والعلم عند الله عز وجل.
هذا، وقد قال ابن كثير في قصص الأنبياء: “وقد قدَّمْنَا قول من ذكر أن إلياس والخضر يجتمعان في كلِّ عام في شهر رمضانَ ببيت المقدس، وأنهما يحجَّان كلَّ سنةٍ، ويشربان من زمزم شربةً تكفيهما إلى مثلها من العام المقبل، وأوردنا الحديث الذي فيه أنهما يجتمعان بعرفات كلَّ سنةٍ، وبيَّنا أنَّه لمْ يَصِحَّ شيءٌ من ذلك، وأن الذي يقوم عليه الدليل أن الخضرَ مات، وكذلك إلياس عليه السلام”؛ اهـ كلام ابن كثير.