تنمية العمل الاجتماعي: مواجهة الفقر (الوقفة الثانية: تعريف الفقر وقياسه)
تنمية العمل الاجتماعي: مواجهة الفقر[1]
الوقفة الثانية: تعريف الفقر وقياسه
ولكي نبين ما نعنيه هنا من تحليل مشكلة الفقر، فإننا نقدِّم عينة فقط من المداخل التي يمكن الاختيار من بينها، والتي يمكن قياس الفقر على أساسها في هذه المرحلة.
فإذا بدأنا باستعراض التعريف التقليدي الذي قدمه البنك الدولي في عام 1410هـ/ 1990م فإننا نجد أنه قد عرف الفقر ببساطة على أنه: “عدم القدرة على تحقيق حد أدنى من مستويات المعيشة، على أساس أن هذا المستوى يمكن قياسه بناءً على الآتي:
الحاجات الاستهلاكية الأساسية.
أو مستوى الدخل اللازم لإشباع تلك الحاجات.
وفي ضوء ذلك، فإن الفقر لا يخرج عن كونه “عجز الأفراد أو الأُسر أو المجتمعات المحلية عن التحكم في موارد تكفي لإشباع حاجاتهم الأساسية”[2]، وهناك من يعرف الفقر بأنه: “الحالة الاقتصادية التي يفتقد فيها الفرد إلى الدخل الكافي للحصول على المستويات الدنيا من الرعاية الصحية والغذاء والملبس والتعليم، وكل ما يُعَد من الاحتياجات الضرورية لتأمين مستوى لائقٍ في الحياة”[3].
ومن هنا، فإن تحديد خط الفقر أو خطوط الفقر على أساس مستوى الاستهلاك يعد من المقاييس التي تركز على النواحي المادية، وهذا النوع من المقاييس التي تقيس الفقر على أساس عدم القدرة على تحقيق المستويات المناسبة من الاستهلاك لإشباع الحاجات الفسيولوجية غالبًا ما يسمى بقياس الفقر المطلق، الموجه أساسًا – وبشكل مباشر – لقياس ما إذا كان الناس يجدون ما يسدون به رمقهم، أو أنهم يعانون من الجوع والمرض وسوء التغذية.
وبالرغم من أن هذا النوع من تعريفات الفقر قد تعرض لكثير من النقد فإنه لا يزال يُعَد حجر الزاوية في كثير من التعريفات الأخرى التي أضافت إليه أو عدلته؛ لكي يأخذ في الحسبان أبعادًا أخرى، لها أهميتها الكبيرة في فهم الفقر بصفته مشكلة اجتماعيَّة، فلقد تساءل كثير من نقاد هذا النوع من التعريفات مثلًا عن ماهية ما سمي بالحاجات “الأساسية”، وعمن له الحق في تحديد تلك الحاجات، كما تساءل كثير عما يمكن عده مستويات “مقبولة” للمعيشة، وعمن له الحق في عد تلك المستويات مقبولة، وعليه فقد عدوا هذا النوع من التعريفات مما يتضمن نوعًا من المصادرة على المطلوب، بمعنى أنه يحيلنا إلى أبعاد أخرى تحتاج هي بدورها إلى مزيد تعريف وتحديد.
فإذا انتقلنا إلى نوع آخر من التعريفات فإننا نجد أن بعضها يؤكد على فكرة نسبية الفقر، التي تؤكد على أن الفقر المطلق ليس كافيًا وحده لتعريف الفقر؛ فالناس قد يتحملون كثيرًا من شظف العيش إذا كانوا جميعهم يشتركون في المعاناة، وهذا أمر مجرَّب، وقد مر على المجتمع الخليجي نماذجُ منه، إلا أن إحساس الناس بالحرمان يزيد زيادة كبيرة إذا قارنوا أنفسهم بغيرهم من مواطنيهم ممن يعيشون في مستويات أفضل كثيرًا منهم.
فإذا كان الفقر المطلق يعني حرمان الناس من إشباع حاجاتهم الأساسية بطريقة تهدد بقاءهم ووجودهم، فإن الفقر النسبي يشير إلى الشعور بالحرمان “بالمقارنة” بما يرون أن فئات اجتماعيَّة أخرى في المجتمع تحظى برغد العيش دونهم، أو “بالمقارنة” بما كانوا يحظون به هم أنفسهم في الماضي[4]، ومن الواضح أن هذا النوع من التعريفات يتضمن أبعادًا ذاتية، كما يتضمن أيضًا أبعادًا موضوعية تتصل بمفهوم توزيع الدخل في المجتمع.
ومن جهة ثالثة، فإن هناك مَن يرى ضرورة تضمين مفهوم الفقر فكرة الاستبعاد أو الإقصاء أو العزل الاجتماعي، حيث تقام العقبات أمام مشاركة فئات بعينها في بعض المجتمعات في الحصول على الفرص الاقتصادية التي تمكنهم من إشباع حاجاتهم مثل غيرهم من الفئات الأخرى، مما ينتهي بتلك الفئات المهمشة للوقوع في براثن الحاجة والعَوَز بشكل منتظم ومستمر، ومن ذلك الإقصاء الحسي، عندما يتجمع الفقراء في حي من أحياء كأنها خصصت لهم، تكثر فيها المشكلات الاجتماعيَّة والنفسية والانحرافات غير الأخلاقية، والحرمان النسبي من الخدمات الاجتماعيَّة.
ويتحقق هذا في المجتمعات التي تؤمن بالطبقية والعِرقية، وتطبق العنصرية بأي شكل من أشكال التطبيق بين أفراد المجتمع الواحد، وتطبق كذلك أسلوب السخرة في العمل، وتسعى إلى عزل المواطنين من جنس آخر؛ كالهنود الحمر والأستراليين أو الأوبورجونيين (أهل البلاد الأصليين) والسود (الأفارقة الأميركيين) والملونين من غير السود (اللاتينيين) والآسيويين الشرقيين والعرب، وفي الغرب الثقافي وليس الجغرافي، عن المواطنين البِيض الغربيين “الأنجلوساكسون” الذين يزعمون أنهم هم المواطنون حقًّا، بل ربما شعَروا أو أشعروا أنهم أنصاف آلهة، بينما ينظرون إلى الآخرين على أنهم أنصاف بشر! وذلك في مختلف مناحي الحياة، حتى في العبادة والتعليم والترفيه والسكن ومدى تقديم الخدمات الاجتماعيَّة[5].
على أنه من الحق القول بأن هذا الأسلوب في التفرقة العنصرية قد بدأ يتضاءل شيئًا فشيئًا في تلك الجهات؛ بحكم الوعي العام، وتوجُّه هذه الفئات المهمشة إلى إثبات وجودها عمليًّا في مواجهة التحدي بإيجابية، وأخذها زمام المبادرة في القيادة العلمية والفكرية والاجتماعيَّة والسياسية، ثم في الاقتصاد.
تلك هي بعض الأبعاد فقط التي تثيرها محاولات التحديد الدقيق لمشكلة الفقر، التي يتعين على المهتمين بالقضية دراستها دراسة تفصيلية، ثم اتخاذ القرار الملائم حول التعريف الذي يتم اختياره لتوجيه المراحل التالية للعمل، ومنها المعالجة.
وبطبيعة الحال، فإن التعريف المختار سيكون هو الأساس للطريقة التي ستتبع لقياس الفقر؛ تمهيدًا للتعرف على توزيع الفقر على المناطق الجغرافية (خريطة الفقر)، ومختلف الفئات الاجتماعيَّة، ومن هذا المنطلق الذي تعددت فيه مفهومات الفقر نحتاج في معالجته في بيئة بعينها إلى أن نضع تعريفًا إجرائيًّا للفقر في تلك البيئة المراد معالجته فيها.
وفي حالنا نحن في المنطقة العربية لن يخرج التعريف الإجرائي للفقر عن مفهومه في الإسلام؛ حيث يعرَّف الفقير بأنه مَن لا يجد قوت يومه[6]، وهذا التعريف الموجز يؤدي إلى تنظيم معالجة الفقر من خلال وسائل المعالجة الشرعية، حيث يؤخذ الواقع والزمان في الحسبان، آخذين في الاعتبار أن “الفقر من الظواهر الاجتماعيَّة المعقدة، التي تتسبب بعدد من العوامل وتتفاعل معها، وهي ظاهرة منتشرة في أنحاء المجتمع، ولا تقتصر على جزء جغرافي منه، فهي في الحضر كما هي في الريف، وتوجد بين الأصحاء والمعاقين جسديًّا، كما توجد بين الذين يعانون عاهات أو نقصًا في القدرات”[7].
ونقدِّم – فيما يأتي – عينة من الطرق المستخدمة في قياس الفقر، لمجرد بيان العلاقة بين قضايا التعريف وقضايا القياس من دون تفصيل: المقاييس الكمية النقدية الموضوعية:
يقوم هذا النوع من المقاييس على أساس مؤشرات الاستهلاك أو الدخل، ويتفق معظم الخبراء على أنه في حال توافر بيانات مفصلة عن الاستهلاك، مبنيَّة على نتائج المسوح المستخلصة من الدراسات على مستوى الأسرة، فإن مثل تلك البيانات المفصلة عن الاستهلاك تكون أفضل في قياس الفقر من البيانات التي تقيس الدخل على تفصيل في الأمر[8].
وبصفة عامة، فإن المقاييس الكمية النقدية تتطلب تحديد خط للفقر أو خطوط الفقر تفصل بين الفقراء وغير الفقراء، وبين الفقراء أنفسهم، بحسب مستوى الفقر لديهم، يقوم على تحديد عتبة للإنفاق الذي نتصور أنه ضروري للحصول على ما يُعَد حدًّا أدنى مقبولًا اجتماعيًّا من الطعام والضرورات الحياتية الأساسية الأخرى؛ أي مستوى محدد للمعيشة.
ومن الضرورات الحياتية الأساسية توفُّر الحد الأدنى من الرعاية الصحية، من حيث وجود آليات للتطعيم ضد الأوبئة، وتحقيق المناعة ضد العدوى، وحسن الغذاء، بحيث يتحقق شعار “الصحة للجميع”[9].
المقاييس غير النقدية:
وُجِّه نقدٌ متعدد الأبعاد للمقاييس النقدية؛ لاعتمادها على ما يقرره الناس وما يقدمونه من معلومات حول طرق إنفاقهم، نظرًا لترددهم في الإفصاح عن التفصيلات الدقيقة المتصلة بدخولهم، ومن هنا فقد صار الاتجاه نحو بدائل للقياس غير النقدي على أساس أن الفقر لا يرتبط فقط بعدم كفاية الاستهلاك أو الدخل، وإنما يرتبط أيضًا بجوانب أخرى، تتصل بالصحة والتغذية والتعليم والعلاقات الاجتماعيَّة وعدم الشعور بالأمان على المستقبل من منطلقات مادية بحتة، لا تعطي اعتبارًا للتوكل على الله تعالى في الرزق.
ومن هنا فقد اهتم كثير من الخبراء ببلورة ما أصبح يعرف بمقاييس الإمكانات أو القدرات البشرية التي تنصب غالبًا على تقدير الحال الصحية والحال التعليمية، باعتبار ما لها من مردود كبير على قدرة الناس على المشاركة الفعالة في الحياة المنتجة في المجتمع؛ حيث تتم دراسة حال الصحة والتغذية لأفراد الأسرة.
[1] أعد هذه البحث بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور صالح بن محمد الصغير أستاذ الاجتماع بجامعة الملك سعود، ونشرته المجلة العربية ضمن سلسلة كتيب المجلة (عدد 90)،وهو في الأصل محاضرة ألقيت في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) بالمملكة العربية السعودية في ذي القعدة سنة 1424هـ/ 2003م، وألقيت في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في محرم من سنة 1425هـ/ 2004م.
[2] Julian May،“An Elusive Consensus: Definitions، measurement and analysis of poverty” in: UNDP، Choices for the poor: Lessons from NATIONAL poverty strategies، United Nations Developoment Program، (2001)،– P25)
[3] انظر الفصل الثالث “عولمة الفقر” من كتاب: باتر محمد علي وردم، العولمة ومستقبل الأرض، عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2003، ص 77 – 123.
[4] Julian May.”An elusive Consensus: definitions، measurement and analysis of poverty” in: UNDP، Choiees for the poor: Lessons from national poverty strategies، United Nations Development Program، (2001)،P26.
[5] Paul A،Jargowsky،Poverty ND Place; Ghettos، Barrios، and the American City.
[6] انظر مادة “فقر” في: ابن منظور،لسان العرب،– القاهرة: دار المعارف، د،ت،– 6: 3444 – 3447.
[7] انظر: عبدالرزاق الفارس، الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 71.
[8] راجع مثلًا: Aline Coudouel، Jesko S،Hentschel، and Quentin T،Wodon (2003) “Poverty Measurment and Analysis” in: World Bank، Poverty Reduction Strategy Sourcebook،2003: 30- 31 http:/ / www،worldbank.org/ poverty/ strategies/ sourcons.htm
[9] انظر: فيليب عطية، أمراض الفقر: المشكلات الصحية في العالم الثالث، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1412هـ/ 1992م، ص 257 – 293، (سلسلة عالم المعرفة؛ 161).