Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

تنمية العمل الاجتماعي: مواجهة الفقر (الوقفة الأولى: إدراك المشكلة)


تنمية العمل الاجتماعي: مواجهة الفقر[1]

 

الوقفة الأولى: إدراك المشكلة

عندما يقارن المتأمل بين الإجماع شبه التام على الرفض العام للفقر بصفته مشكلة اجتماعيَّة – سواء من جانب العامة أم المتخصصين من جهة، وبين ضعف الجهود المبذولة لمعالجة الفقر وعجزها في معظم المجتمعات المعاصرة إن لم تكن كلها، وكذلك ضعف فعالية كثير من الجهود المبذولة في هذا الصدد رغم حُسن النيات من جهة ثانية – يصاب هذا المتأمل بقدر من الاستغراب من الأساليب المرعية للتعامل مع التوجه للتخفيف من الفقر مع وجود محاولات مستمرة للمعالجة، إلا أن هذه المحاولات رغم ما لها من تأثير وما تتوخاه من الأجر والثواب من الله تعالى لم تأخذ طابع التأطير للمشكلة، والنظرة الشمولية لها في محاولات المعالجة، بل اعتمدت على قدر عالٍ من الضخ العاطفي المصحوب بالرغبة الملحة في فعل الخير في التعاطي مع الفقر، ما أثَّر سلبًا على هذه المشكلة.

 

ويصدُقُ هذا غالبًا على الجهود الذاتية القائمة على الملاحظة الميدانية لمواقع الفقر المحلية في البلاد، ولا يصدق على الجهود المؤسسية التي تقوم بها جهات خيرية وتعتمد أسلوب المسح، بحيث بدأت تكون عراقة في “التعاطي” مع العمل الخيري، إلا أنها محدودة دائمًا بضيق ذات اليد، وربما ضعف المقدرة والإمكانات على وضع إستراتيجيَّة أو خطة بعيدة المدى للمعالجة.

 

والحقيقة أن ظاهرة الفقر تؤرق ذوي الضمائر الحية، ممن يهُولهم أن يروا أنفسهم يتمتعون برغد العيش في مجتمعات يشاركهم العيش فيها فئات لا تكاد تجد قوت يومها، ولا تكاد تجد مأوى يؤويها، ما يجعل نظرتها إلى المستقبل نظرة قاتمة.

 

إلا أن الشعور بوجود مشكلة الفقر والرغبة في إيجاد الحلول لها شيءٌ، والاستعداد الذهني والاقتناع والإرادة لتقديم التضحيات اللازمة لحلها من جانب مختلِفِ الفئات في المجتمع شيءٌ آخر؛ ذلك أن قضية الفقر لا تخص من يتصدى لمعالجة المشكلة وحده، وإنما تتجاوز ذلك إلى ضرورة إجراء مراجعات لمسائل حيوية تتصل بمزايا وحقوق مكتسبة، ترتبط بفئات اجتماعيَّة بأسرها، وهذا بدوره قد يقود إلى ترسخ مسألة حاجات الأنا مقابل حاجات الغير؛ أي إلى قضية الأنانية مقابل الإيثار مع الخصاصة أو دونها؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].

 

وهي قضايا جوهرية مترسخة في النهاية في صميم الطبيعة الإنسانية لبني آدم ونظرة الإنسان لنفسه ولدنياه ولآخرته، ولمدى معرفته بربه سبحانه وتعالى وقربه منه وترسخها أكثر في النفس البشرية من خلال الرسالات السماوية.

 

المشكلة المركبة:

وليت الأمر قد وقف عند هذا الحد؛ أي شدة الأمر على النفس الإنسانية وصعوبة التغيير لما في هذه الأنفس، بل إنه ومع أن الناس قد اجتمعوا وأجمعوا على خطورة قضية الفقر على صدق الرغبة في معالجتها، وعلى قبول ما تقضي به جهود مواجهتها، فإننا نجد أنهم غالبًا ما يتبنون حلولًا عاجلة وغير مدروسة وربما آنية، وقد تغلب عليها السطحية القائمة على سيطرة العاطفة، وردود الفعل الآنية، التي قد تبدو في ظاهرها طبيعية ومقبولة ومنطقية، من دون أن يدركوا أن هذه القضية في المجتمعات الحديثة، لا سيَّما منذ الثورة الصناعية وما صحبها من سرعة في التغير الاجتماعي وتعقد في التراكيب والبنى الاجتماعيَّة، لم تعُدْ بتلك الصورة السطحية أو البسيطة التي يتصورها بعض المتعاطفين مع المشكلة، ومن دون أن يدركوا أن تعقُّد البناءات الاجتماعيَّة وسرعة التغير الاجتماعي قد صحبها تعقدٌ وتداخلٌ كبيران فيما يتعلق بالأسباب التي تؤدي إلى الفقر، كما صحبها تداخل معقد بين العوامل المرتبطة بالفقر، تلك العوامل التي تؤثر ويتأثر بعضها بالآخر[2].

 

لم يعُد من الممكن اليوم النظر إلى الفقر على أنه مشكلة شخصية أو فردية، ناتجة عن العجز التام أو الجزئي عن كسب العيش لإعاقة أو شيخوخة أو ترمل، بل أصبح من الضروري النظر أيضًا للفقر على أنه مشكلة أسرية تربوية اجتماعيَّة؛ حيث نجد أن بعض الفئات الاجتماعيَّة غير قادرة أو غير راغبة في ذلك، وإن كانت قادرة على بذل الجهود لإعداد أولادها لحياة العمل الجاد، ما ينتهي بهؤلاء الأولاد إلى حالات من ضعف الدافع لبذل الجهد للتحصيل والاستفادة من الفرص المتاحة لإعالة الذات[3].

 

وهذه من إفرازات ما سُمِّي بزمن الطفرة التي مرت بها بعض المناطق، ومنها منطقة الخليج العربية، وأزعم أننا مررنا بهذه الحال في تلك المدة (المرحلة) التي اصطلحنا على تسميتها في مجتمعنا بزمن الطفرة، كان ضحيتها بعض من الجيل الشاب اليوم، الذي ظهر عليه عزوف عن العمل، بسبب وهم العيش في مستوى معيشي قد لا تحققُ فرصُ العمل المتاحة كل مقوماته، حتى أضحى العمل لدى طائفة من الناس مهدرًا نهبًا للآخرين ممن لا يتوافر لديهم بالضرورة التأهيل المبدئي، بل اكتسبوه عن طريق التجرِبة والخطأ، حتى أضحت بعض المجتمعات – لا سيَّما المجتمع الخليجي – مركز تدريب مفتوحًا للآخرين الوافدين، مع أن العمل بالمفهوم الإسلامي له يُعَد ضرورة، وليس بحالٍ ترفًا[4].

 

والحقيقة أن الأمر لا يقف عند حد ما يتم من تعداد العوامل المؤثرة وتعقدها وتشابكها في البنى الاجتماعيَّة والمشكلات الاجتماعيَّة؛ إذ إن الأهم من ذلك هو أن التفاعل بين تلك العوامل، بل في الحقيقة “تلك الفئات من العوامل” المذكورة، لا بد أن ينتهي بنا إلى نتيجة لا مناص من التسليم بها، وهي حتمية النظر إلى الفقر بصفته ظاهرة عالمية معقدة الأوجه، متعددة الأسباب، وأننا نعيش في “عالم يعاني من مظاهر قاسية من الحرمان والمسغبة والقهر، وظهرت مشكلات كثيرة جديدة وقديمة على السواء، من بينها الفقر المزمن، والعجز عن الوفاء بالاحتياجات الأولية، وحدوث المجاعات، وانتشار حالة الجوع على نطاق واسع”[5].

 

تتناقض هذه النتيجة مع أساليب محاولة علاج مشكلة الفقر التي يقترحها بعض المتعاطفين مع المشكلة، تلك المحاولة المبنية على مجرد آراء انطباعية وخبرات شخصية محدودة، لا تتسم بالشمولية في النظرة والتحليل والعلاج، تلك النظرة التي عادة ما تقترح أساليب سريعة جزئية مفتتة، تلتفت إلى الأعراض والمظاهر أكثر مما تنفُذُ إلى الأسباب التي تكمن وراءها، أو إلى تحليل العوامل المؤدية إلى ظهور تلك الأعراض أصلًا[6].

 

وربما أسهمت هذه النظرة في ترسيخ المشكلة أكثر من إسهامها في التغلُّب عليها والحد أو التخفيف منها، وليس بالضرورة القضاء عليها، خلافًا لمن يتوقع ذلك؛ إذ إن مشكلة الفقر مشكلة لازمة يتعامل معها من خلال “تحجيمها” ووضعها في موضعها “الطبيعي”، وموضعها الطبيعي يحتِّم استمرارها بحدود، كما يحتم الاستمرار في الحد منها[7].

 

أسلوب المواجهة:

من هنا يتبين لنا أنه لمعالجة الفقر بطريقة فعالة ليس هناك مفرٌّ من اتباع الأسلوب العلمي الصحيح في دراسة المشكلات وتحليلها، وفي وضع الإستراتيجيات والسياسات والخطط التنفيذية الكفيلة بمواجهتها، حتى لو تطلب ذلك بذل الجهود المضنية، واستغرق مزيدًا من الوقت الثمين مع التروِّي والتريُّث غير المخل، وتجنُّب الاستعجال في الوصول إلى النتائج؛ لأن الثمن الذي تدفعه الدول جراء ارتجال البرامج والمشروعات التي تنقصها الفاعلية وتتسم بالاستعجال يكون أكثر من تكلفة تصميم البرامج والمشروعات القائمة على أساس علمي مبني على فهم صحيح للظاهرة المراد القيام بمعالجتها، والديمومة في ذلك، حتى تتضاءل المشكلة، ولو لم تَزُلْ؛ لأنها لا تزول.

 

وفي ضوء ما تقدم، فإن هذه المعالجة تركز أساسًا على توضيح الخطوات العلمية والعملية الفنية المناسب اتباعها، ومع الأصول التي ينبغي أن تتماشى فيها جهود معالجة الفقر، وَفْقًا للأصول المرعيَّة في مجال التخطيط الاجتماعي لمواجهة المشكلات الاجتماعيَّة التي تتمثل فيما يأتي:

تحديد المشكلة، وذلك من خلال تعريف الفقر، وتحديد مفهومه من المنطلق الشرعي الذي لم يغفل التعريف والمفهوم، وكذلك طرق قياسه وتحديد حجم المشكلة في المجتمع المدروس وتوزيعها جغرافيًّا على مختلف المناطق الإداريَّة والفئات الاجتماعيَّة.

 

تحليل أسباب الفقر، وتحديد العوامل المرتبطة بمختلف جوانب تلك المشكلة، بما في ذلك توفير البيانات والإحصاءات حول الفقر، ومع توافر جزء كبير من البيانات إلا أنها تحتاج إلى أن تتركز في جهة بعينها تضطلع بمسؤوليتها، مثل مصلحة الإحصاءات العامة ووزارات الاقتصاد والتخطيط في حال المملكة العربية السعودية[8].

 

وضع الإستراتيجيات والسياسات والخطط التنفيذية، وتصميم البرامج اللازمة لمعالجة الفقر في ضوء التحليل السابق للأسباب.

 

وضع أنظمة المتابعة والتقويم الكفيلة بتقدير درجة فاعلية تلك السياسات والبرامج والخطط التنفيذية في تحقيق الأهداف المرجوة منها.

 

وينصب الاهتمام في هذه المعالجة على بيان متطلبات القيام بكل مرحلة أو عملية من العمليات السابقة، مع الإشارة العامة إلى البدائل المطروحة في التعامل مع كل منها، من دون أي محاولة لاستقصاء التفصيلات أو التوصل إلى النتائج المتوقعة، فذلك يخرج عن أهداف المعالجة التي تتوقف عند حد الإشارة إلى الطريق وبيان المعالم لمن شاء أن يسهم بجهوده في معالجة هذه القضية الكبرى.


[1] أعد هذه البحث بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور صالح بن محمد الصغير أستاذ الاجتماع بجامعة الملك سعود، ونشرته المجلة العربية ضمن سلسلة كتيب المجلة (عدد 90)،وهو في الأصل محاضرة ألقيت في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) بالمملكة العربية السعودية في ذي القعدة سنة 1424هـ/ 2003م، وألقيت في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في محرم من سنة 1425هـ/ 2004م.

[2] انظر: أحمد زايد واعتماد محمد علام، التغير الاجتماعي، ط 2، القاهرة: مكتبة الأنجلو – المصرية، 2000م، 328ص.

[3] انظر: الفصل الأول (بالعمل والرجوع إلى الله يدفع الفقر) من الباب الرابع (المواجهة المباشرة مع الفقر) من كتاب عبدالسلام الخرشي، فقه الفقراء والمساكين في الكتاب والسنة، مرجع سابق، ص 297 – 325.

[4] انظر: نشأت جعفر، العمل في الإسلام: الضرورة المهدرة، القاهرة: المؤلف، 1424هـ/ 2003م، ص 53 – 82.

[5] انظر: أمارتيا صن، التنمية حرية: مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر/ ترجمة شوقي جلال، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1425هـ/ 2004م، ص 11، (سلسلة عالم المعرفة؛ 303).

[6] انظر: ميشيل تشوسودوفيسكي، عولمة الفقر/ ترجمة محمد مستجير مصطفى، ط 2، القاهرة: مجلة سطور، 2000م،وانظر أيضًا: جي آر،ماندل، العولمة والفقراء/ تعريب وليد شحادة، مرجع سابق، 240ص.

[7] لقد تنبهت الجمهورية اليمنية لهذا البعد فأصدرت إستراتيجية التخفيف من الفقر (2003 – 2005)، ولم تقل: إستراتيجية القضاء على الفقر،انظر: وزارة التخطيط والتنمية،إستراتيجية التخفيف من الفقر (2003 – 2005)،(صنعاء الوزارة، 2003م)، 149ص + الملاحق.

[8] انظر: عبدالرزاق الفارس، الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001م، ص 40؛ حيث يؤكد المؤلف على تقصير المملكة العربية السعودية في مجال توفير البيانات الحيوية، لا سيما في مجال الفقر.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى