Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

الشام إذ تكرم أبا شامة


الشام إذ تكرِّم أبا شامة

إبراهيم الزيبق وصدى الوفاء

 

قالوا قديمًا: “الجَزاءُ من جِنس العَمَل”. ولعلَّ هذا أصدقُ ما يُوصَف به كتابُ (أبو شامة مؤرِّخ دمشقَ في عصر الأيوبيين) للأستاذ المؤرِّخ والمحقِّق الأديب إبراهيم الزِّيبَق.

 

فكما أنَّ أبا شامة رسمَ بريشته الصادقة دمشقَ ولوَّنها بعاطفةٍ حَرَّى ومشاعرَ مُرهفة، حتى قامت في كتابه “الرَّوضَتَين” رُوحًا تنبِض وحياةً تضطَرِب، تكاد لإبداع التصوير أن تنطِقَ وتجاذبكَ الحديثَ كِفاحًا. كذلك كان جزاءُ أبي شامة من جِنس عمله حين قيَّض الله تعالى له محقِّقًا ثَبْتًا وأديبًا لقِنًا، أمضى رَدَحًا من الزمن يتتبَّع أبا شامة في كلِّ ما خطَّته يُمناه، وفي كلِّ ما أفضَى به من خَلَجات نفسه وهمَسات روحه، حتى إنه لفَرْط تتبُّعه له وعنايته بأخباره ترسَّم خطُواته في أزِقَّة دمشقَ العتيقة، وتنسَّم عَبَقَ مدرسته في قاعة الباحثين بالمدرسة العادلية، وجعله فردًا من أُسرته يقتسِمُ معها عقلَه وقلبَه وفكرَه.

 

فأبدع الأستاذُ إبراهيم الزِّيبَق بريشته المُرهفة صورةً لأبي شامةَ ما أظنُّه لو كان حيًّا بيننا اليومَ أن يجلِّيَ لنا حياته في صورةٍ أدقَّ وأنقى، حتى إنك لتُحِسُّ به قد قامَ من رَمْسِه – بعدما غيَّبته عنا سبعةُ قرون ونيِّف – يناجيك ويبثُّك آلامَه وآماله.

 

لقد أبدع المؤلفُ إذ أقام أبا شامة بيننا رجلًا من لحم ودم، ورُوحًا تهيِّجُها الأشواقُ، ونفسًا تُمِضُّها الآلام، لا كما اعتدنا أن نُطالعَ سيرَ عظمائنا في كتب التراجم؛ إذ لا نكاد نُلِمُّ إلا بملامحَ باهتةٍ لسيرة باهتة في عصرٍ باهت، وبعُسرٍ تتمخَّضُ لنا شخصيةٌ لا رَونقَ يَزِينُ مُحَيَّاها ولا نبضَ ينبعِثُ بين أوصالها!

 

و هذا ما ألمعَ المؤلفُ إليه في حديثه عن منهجه فــــ (معَ إمعانِ النظر وإدمان القراءة بدأَت تطفو من قاع الزمن شخصيةُ أبي شامةَ أصيلةً متفرِّدة، وبشغَف رُحْتُ أتتبَّع ملامحها، وفي سبيل الوصول إلى ملامحَ مكتملةٍ قدرَ الإمكان نأَيتُ بنفسي عن المنهج المتَّبَع في كتابة التراجم عندنا، ذلك المنهجِ الذي يَعْمِدُ إلى تقطيع أوصال المترجَم، متحدِّثًا عن عصره وحياته وثقافته كلًّا على حِدةٍ وكأنها أجزاءٌ منفصلة، وسعَيتُ إلى منهج متكامل يُرينا الشخصيةَ حيَّةً كما كانت في عصرها، وقد تلاحمَت في كلٍّ واحدٍ، ناميةً متطوِّرة في زمانها الذي عاشته من طفولتها إلى شبابها وكهولتها، متواشِجةً مع أحداث عصرها).

 

وهذا ما يتبدَّى بجَلاءٍ للقارئ إذ يشرَعُ في رحلته مع الكتاب، فتَلِجُ الفصلَ الأوَّلَ من الكتاب لتجدَ نفسَك أمام أبي شامة وجهًا لوجه؛ ليكونَ (أول ما يُخبرنا به أبو شامة في سيرته أنه عبد الرحمن بن إسماعيل…)، وأنه (عُرِفَ بـأبي شامةَ لأنه كان به شامةٌ كبيرة فوق حاجبه الأيسر…) وهكذا يمتدُّ حديث أبي شامةَ عن ولادته وأسرته التي كان لبعض أهلها اشتغالٌ بالعلم، ولكن لم يَنْبُه منهم أحد.

 

ويصحَبُنا أبو شامة إلى الفصل الثاني فيصف لنا أمَّه وهي تقصُّ عليه حُلمًا رأته حين حمَلَت به، تدفعُه بهذا الحُلم أن يرتقيَ أُولى درَجات العلم في المكتب – بجوار الجامع الأموي – ينهَلُ منه مبادئَ القراءة والكتابة والقرآن. ويَمضي في حديثه ليصفَ لنا طريقَه حتى إنَّ القارئ ليكاد يُماشي أبا شامةَ في غُدوِّه ورَواحه إلى المكتب.

 

وهكذا تمتدُّ بنا الطريقُ مع أبي شامة فيحدِّثنا عن حفظِه للقرآن الكريم وجمعه لقراءاته بين أروِقة المسجد الأموي، وأخذِه عن شيخه علم الدين السَّخاوي، وتأثُّرِه بعلمه وزُهده.

 

ثم (…بريشةٍ مُرهَفة، وبذاكرةٍ لا تفوتُها أدقُّ التفاصيل، رسمَ لنا أبو شامةَ صورةً حيَّة لجامع دمشق ومَن كان فيه من العلماء والزُّهَّاد في سِنيْ صِباه…) فيحدِّثنا عن مجلس سِبْط ابن الجَوزي في الوعظ، وازدحام الناس عليه وفرحهم به، وعن شيخ الشافعية فخر الدين ابن عساكر وقد أقبل الناسُ عليه يستفتونه ويسمعون الحديثَ عليه في مجلسه تحت قبَّة النسر، وهنا تطفو مشاعرُ الإعجاب على لسان أبي شامةَ لشيخه الفخر، إذ كان وَرِعًا زاهدًا في المناصب، منصرفًا عن أبواب السُّلطان. ويخبرنا أيضًا عن شيخه ابن الصلاح وما أوتيَه من جلالة ووَقار وهيبة وفصاحة. ولا يترك الأستاذُ الزيبق شيخًا من شيوخ أبي شامةَ دون أن يُلمحَ – من طَرْفٍ خفيٍّ – إلى أثره في نفس أبي شامة وتكوينه، وهذا ما يفسِّر لنا فيما بعدُ شخصيةَ أبي شامة، ويُعيننا على فهمِ كثيرٍ من مواقفه إزاءَ القضاة والولاة والصليبيين.

 

وتمرُّ بنا الفصولُ تِباعًا – وهي تزيدُ صورة أبي شامة وضوحًا وجَلاء – إذ تَسيحُ بنا في عوالم أبي شامة كلِّها، في بيته إذ يتزوَّج، وفي مدرسته إذ يَدرُس ويُدرِّس ويكتب ويؤلِّف، وفي مجلس القضاء إذ يُعدِّل ويشهد، وفي الحجِّ إذ تهفو نفسُه لزيارة الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي القدس إذ يحرِّكه الشَّوقُ ليزورَها ويأنسَ بها، حتى زفَراتُه على فَقْد أمِّه وشيوخه لا يملك القلبُ إذ تتناهى إليه أنَّاتُها إلا أن يرِقَّ لها ويَألَم.

 

ولكنْ (… في غَمْرة انصراف أبي شامة لطلب العلم طرقَ دمشقَ خطَرٌ أفزعَها… فيصحو أبو شامةَ من أحلامه ليَرى بؤسَ الواقع…)، ويخرجُ بنا المؤلفُ من حلَقات العلم التي دأَبَ عليها أبو شامة ليُجَلِّيَ لنا واقعَ دمشق وما يُلِمُّ بها من أحداثٍ سيكون لها أكبرُ الأثر في نفس أبي شامة واهتمامِه بالحياة العامَّة فيما بعد، ولـتَّتضِحَ شيئًا فشيئًا (معالمُ الخَلاص لأبي شامة، فلا بدَّ للأمَّة كي تنهضَ من كَبْوَتها من حاكم عادل كعمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه، ومن عالم ناصح يفتح للأمَّة بابَ الرحمة ويأخذ بأيديها إلى أسباب الحياة…).

 

ويبحث أبو شامة وهو الرَّازِحُ تحت الشُّعور بالعجز عن دَورٍ له في كشف الغُمَّة، وتبدأ هنا رحلةُ أبي شامة مع التاريخ؛ ليخُطَّ لنا بقلمٍ صادق وبحثٍ دائب – أنفقَ فيه سنواتٍ مديدةً من عمره – صورةَ التاريخ المجيد الذي عاشته دمشقُ يومًا في ظلال نور الدين محمود بن زنكي وصلاح الدين يوسف بن أيُّوب، حتى كان عصرُهما روضةً تتفيَّأ دمشقُ ظِلالها في هَجِير هذه الحياة المُستَعِرة من حولها، وكأنَّ أبا شامة في كتاب الرَّوضَتَين – إذ أرَّخَ لدولة نور الدين وصلاح الدين – أراد أن يرسُمَ (ملامحَ نهوض الأمَّة تحت حُكمِهما؛ راجيًا ملوكَ عصره الاقتداءَ بهما، وهم يواجهون الصليبيين من الغرب… ).

 

ولكنَّ انشغالَ أبي شامة بالتاريخ المنصرم لم يمنعه أن يعيشَ واقعَه بحُلوه ومُرِّه، ليكشفَ ويسجِّل – بجُرأة عزيزة في ذلك الزمان – ما وصلت إليه حالُ القضاء والأوقاف والمدارس في دمشقَ من فسادٍ وضياع وتدهوُر.

 

و(للخَلاص من هذا البلاء بدأت تخطِرُ في باله فكرةُ الاعتزال؛ أن يعتزلَ التدريسَ وأن يهجُرَ المدرسةَ العادلية الكبرى؛ لينصرفَ ناعمَ البال إلى ما وهَبَ حياته له من العلم النافع… ولم يكن قرارُ أبي شامة هذا سهلًا إذا عرفنا أن المدارسَ في ذلك العصر تكاد تكون مصدرَ رزقِ العالِم الوحيد، ولم يبقَ من مَوردٍ يعيش منه إلا بُستانُه الصغير… يَفلَحُ أرضَه، ويأكلُ من ثمارها… ). ولا تزيدُ الأحداثُ – التي تَدلَهِمُّ لتُحْكِمَ الخِناقَ على المسلمين بعد سقوط بغداد بيد التتار – أبا شامة إلا حِرصًا على عُزلته، يُطِلُّ منها على واقع مُفزِع، فيَرقُب بعين البصير ما يجري، ويسجِّل بحسِّ الناقد ما يصلُ إليه، وبين هذا وذاك يعتصِرُه الألمُ على ما آلت إليه حالُ المسلمين.

 

ويبزُغ الفجرُ مرَّةً أُخرى على يد قُطُز وبِيبَرس في ملحمة عين جالوت، وتعود البهجةُ إلى دمشقَ فتنفِضُ عنها رِجسَ التتار، وتُصلح ما ورثته عن سِني الضعف من دَمار، ويخرج أبو شامة من عُزلته ليشاركَ أهل دمشق تباشيرَ العهد الجديد، فيعودَ للتدريس والإفتاء في دار الحديث الأشرفية التي تولَّى مشيختَها اعترافًا بمكانته وعلمه.

 

وتتوالى قصائدُه وفتاويه تذمُّ المفسدين وتُقرِّعُ الظالمين، لتكون سببَ مِحنته التي احتسبَها عند ربِّه فخُتِمَت بها فصولُ حياته الحافلة الغنية، ليتكشَّفَ لك في نهاية المطاف لغزُ المقدِّمة التي استفتحَ بها المؤلفُ إذ قال: (سترى من خلال ما كتبتُ أنَّ أبا شامة لم يكن مؤرِّخًا يَرقُب الأحداثَ من بعيد في بُرجِه العاجي، ثم يدوِّنها في هدوء، بل كان مؤرِّخًا صاحبَ قضية، أبانَ عنها في مؤلَّفاته، ونافحَ عنها، ثم دفعَ حياته ثمنًا لها…).

 

وتتبدَّى لك – في خاتمة الرحلة – شخصيةُ أبي شامة، حيَّةً نابضةً تنمو معك شيئًا فشيئًا لتُرشدَكَ وتأخذَ بيدك في طريق العلم والإصلاح، حتى تستويَ كأبي شامة عالمًا من كبار العلماء وأصدقهم وأثبتهم على الحقِّ، وأصلبهم في وجه الظلمة والمفسدين.

 

وتتوالى فصولُ الكتاب التي يعرِضُ فيها المؤلفُ لكتب أبي شامة في التاريخ وسائر الفنون، ممحِّصًا صحيحَها من زائفها، مبيِّنًا مزاياها وفضائلها.

 

وتنتهي رحلتُك الممتعة مع الكتاب وكأنك تحلِّقُ في أجواء روايةٍ من الأدب الرفيع، روايةٍ تاريخية تَلوحُ لك من الماضي لتلامسَ الحاضر، وتشِعُّ بين ثنايا الغيب السَّحيق لتُضيءَ أمامك طريقَ الإصلاح في رحِم المستقبل القريب.

 

ويَفِي الكاتبُ بعهده الذي قطعَه على نفسه في طالعة حديثه أن ينقل (التاريخَ من خبرٍ في صحيفة إلى واقعٍ في الحياة…)، ليُفيدَ منه أبناءُ الأجيال اللاحقة إن هم تأمَّلوه و أنعَمُوا النظر فيه.

 

وممَّا يُحمَد للمؤلف الأستاذ إبراهيم الزيبق جزاه الله خيرًا، أنه نسجَ كتابه من سَدَى التاريخ ولُحْمة الأدب، فجاء فصيحَ العبارة على وضُوحها، سلِسَ الأسلوب على رِفعته، ثَبْتَ النقل صحيحَ الأخبار، فاستوى الكتابُ خَلقًا آخرَ في عالم الترجمة لأعلامنا الكبار.

 

وأنت أيضًا إذ تُطالع الكتابَ وتحلِّق في أجوائه الساحرة، لا تكاد تفصِلُ بين حياة أبي شامة وحياة دمشق، فكأنهما امتزجَتا – في لوحة المؤلف – فصارتا حياةً واحدة لا تَبْعُد كثيرًا عمَّا أحسَّ به أبو شامة تجاه دمشقَ التي أحبَّها، وأطالَ الحديث عنها، وسجَّل بفرحٍ وحُرقةٍ تاريخَها.

 

فأنت – إذ تطالعُ حياةَ أبي شامة – إنما تسكُن في دمشق وتسكُن هي فيك، فترمُق أحداثها وترقُب أحوالها، وتلتاعُ لآلامها وتهفو لآمالها، تُزعجك آهاتُها وتُطربك مسَرَّاتها.

 

وهكذا تَرُدُّ دمشقُ الجميلَ لمَن أسداه لها يومًا، فينال أبو شامة جزاءَ دمشق له، إذ أحيَتْ اسمه وسيرته في الحاضر – وهو الذي طالما أحيا اسمَها وسيرتها في الماضي – بقلم رجل فذٍّ من رجالات العلم والأدب فيها، وتكافئ دمشقُ مؤرِّخَها أبا شامة على يد مؤرِّخِها إبراهيم الزيبق؛ ليكونَ الجزاءُ من جنس العمل.

 

كُتب في دمشق 6/ 3/ 2010م





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى