قراءة لكتاب “السنن الإلهية في الخلق” (2) لمؤلفه: عبد الحميد محمود طهماز
قراءة لكتاب “السنن الإلهية في الخلق” (2)
لمؤلفه: عبدالحميد محمود طهماز
ذكَرنا فيما سبق بعض السُّنَن الإلهية في الخلق، ونتابِع كلامَنا هنا – بعون الله تعالى -:
مِن سنن الله – تعالى – في خلقه (إهلاكُ الظالمين):
وإهلاك الظالمين سُنة من سنن الله – تعالى – البارزة في خلقه، والتي تدلُّ عليها شواهدُ التاريخ الماضية، ووقائعُ الأمم المعاصِرة، قال الله – تعالى -: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: 13، 14].
وإهلاك الظالمين عامٌّ شامل لجميع الطغاة والمستبِدِّين من الأفراد والأمم الظالمة، قال الله – تعالى -: ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 11 – 15].
وهكذا رسَمَت هذه الآياتُ تلك الصورةَ المخيفة الراعِبة لحال الطغاة والمتجبِّرين حين ينْزل بهم بأسه – تعالى – بسبب إجرامهم وظلمهم، ثُم إنَّ الله – تعالى – أبقى آثار الأمم المُهلَكة شاهدةً؛ كي يتَّعظ بها أصحابُ العقول الواعية.
من سنن الله – تعالى – في خلقه (الجزاء من جنس العمل):
من ذلك أن الله – تعالى – قدَّرَ أن تكون الأمم والحضارات والمجتمعات التي لا يَفشو فيها الظلمُ أطْوَلَ أعمارًا من غيرها، قرَّر الحقُّ ذلك بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11].
فالله – تعالى – لا يغيِّر حال قوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم، فقد شاء – عزَّ وجلَّ – أن تكون أسبابُ تغيُّر أحوال الناس نابعةً من أنفسهم، فهو – تعالى – لا يعاملهم بعِلْمه السابق فيهم؛ بل بحسب عمَلِهم أنفسهم، والنصوصُ في هذا كثيرة.
وأكَّد – عزَّ وجلَّ – هذه السُّنةَ الماضية بقوله – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
ولما تساءَل الصحابةُ عن سبب الخسارة الكبيرة التي حلَّتْ بهم في غزوة أحدٍ، أجابهم الله – تعالى – بقوله: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165].
من سنن الله – تعالى – في خلقه (الصِّرَاع بين الحقِّ والباطل):
ومن سننه – تعالى – في خلقه أن يدفع المفسدين بالصالحين، والكافرين بالمؤمنين، كما قال – تعالى -: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251]؛ أي: لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض لانتشر الفسادُ في الأرض؛ ولهذا أمر الله – تعالى – المؤمنين بجهاد الكفارِ والمنافقين في آيات كثيرة.
وقد ينتقم الله – تعالى – من الظالمين بالظالمين، كما في قوله – تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 129].
فالصراع بين الحق والباطل سُنَّة من سنن الله – تعالى – في خلقه، ولكن الله – تعالى – يؤيِّد الحقَّ ويثبِّت أهلَه، ويدمغ الباطل ويخذل أهله.
من سنن الله – تعالى – في خلقه (التلَوُّث البيئي والسلوك الإنساني):
خَلَق الله العليم الحكيمُ الكونَ على أكملِ نظام وأحكمِه، وهيَّأه للناس على أتمِّ الوجوه، وجعل – تعالى – استمرارَ إحكام الكون وإتقانه مَنُوطًا بصلاح عقائد المكلَّفين وسلوكهم.
وإنَّ سبب ظهور الفساد البيئي كثرةُ فُجور الناس وكفرهم، بيَّنَ ذلك اللهُ – سبحانه وتعالى – في قوله: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
والمعنى المراد بالآية: ظهر الخلل والاضطراب في بيئة الحياة، وانتشر في البَرِّ والبحر؛ بسبب فجور الناس ومعاصيهم وكُفْرهم، حتى قال ابن عباس: الفساد في البحر انقطاع صَيده؛ بذنوب بني آدم.
من سنن الله – تعالى – في خلقه (ذهاب الصالحين):
من سنن الله – تعالى – في أمَّة الإسلام أن يكون انتهاؤها بذَهاب الصالحين وانقراضهم؛ فعن مِرْداسٍ الأسلمي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يذهب الصالحون الأوَّلُ فالأوَّلُ، ويبقى حُفالةٌ كحفالة الشَّعير أو التمر، لا يباليهم الله بالةً))؛ رواه البخاري، ومعنى ((لا يباليهم الله بالة))؛ أي: لا يرفع لهم قدْرًا، ولا يُقِيم لهم وزنًا.
ومن هذا قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((النُّجوم أمَنَةٌ للسماء، فإذا ذهبَتِ النجوم أتى السماءَ ما تُوعد، وأنا أمنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهـبْتُ أتى أصحـابي ما يوعدون، وأصحابي أمنَةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي، أتى أمتي ما يوعدون))؛ رواه مسلم.
وكذا قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مِن شِرار الناس مَن تُدركهم الساعةُ وهم أحياء))؛ رواه البخاري من حديث ابن مسعود.
من خصائص الأمة الإسلامية:
وأخيرًا لا بدَّ وأن يُنبَّهَ على أنَّ الله – تعالى – خصَّ الأمة الإسلامية بخصائص؛ تكريمًا لنبيِّه نبي الرحمة – صلَّى الله عليه وسلَّم – فمِن هذه الخصائص:
أنهم أطول الأمم مدَّةً وأكثرهم بقاءً وامتدادًا:
فأمة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أطول الأمم مدَّةً، كما أنها أكثرُها عَدَدًا ودخولاً للجنة، قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما مِن الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطِي ما مِثلُه آمَنَ عليه البشرُ، وإنما كان الذي أوتيتُه وحْيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة))؛ البخاري من حديث أبي هريرة.
وقد تحقَّق له ما رجاه – صلَّى الله عليه وسلَّم – كما في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((عُرضتْ عليَّ الأمم، فأَجِد النبيَّ يَمُرُّ معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وَحده، فنظرتُ فإذا سَوادٌ كثير، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرتُ فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفًا قدَّامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولِمَ؟ قال: كانوا لا يَكْتَوُون، ولا يَسْتَرْقون، ولا يتَطَيَّرون، وعلى ربِّهم يتوكلون))، فقام إليه عُكَّاشة بن مِحْصَن، فقال: ادْعُ الله أن يجعلني منهم، قال: ((اللهم اجعله منهم))، ثم قام إليه رجل آخر قال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((سبَقَك بها عُكَّاشة))؛ رواه البخاري.
لا يُهلِك الله الأمة الإسلامية هلاكًا عامًّا، ولا يسلِّط عليها عدوًّا من غيرها فيستبيح بَيْضَتَها:
فعن ثَوبانَ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن الله زَوَى لِيَ الأرض، فرأيتُ مَشارقها ومغاربهـا، وإن أمتي سيبلغ مُلكها ما زُوِي لي منها، وأُعطيت الكَنْزين الأحمر والأبيض، وإني سألتُ ربـي لأمتي ألاَّ يهلكها بسَنَةٍ بعامـة، وألا يسلِّط عليهم عدوًّا مِن سِوى أنفسهم فيستبيحَ بيضَتهم.
وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُـردُّ، وإني أعطيتُك لأمتك ألاَّ أهلكهم بسَنَة عامة، وألا أسلِّط عليهم عدوًّا مِن سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها – أو قال: من بين أقطارها – حتى يكون بعضهم يُهلك بعضًا، ويَسبي بعضُهم بعضًا))؛ رواه مسلم.
لكن قد يقع خسْفٌ أو غرَقٌ جزئي لبعض الأمة، وقد وردت أحاديث كثيرة، يدلُّ مَجموعُها على أنَّ لِهذا أصْلاً ثابتًا كما ذكر الحافظ في “الفتح”.
وكذلك قدَّر – سبحانه – أن يكون بلاءُ هذه الأمة بالاختلاف والاقتتال، والانقسام إلى فرق وشيع، يَذوق بعضُها بأْسَ بعض، فلما نزل قولُ الله – تعالى -: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]، قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعوذ بوجهك)) قال – تعالى -: ﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65] قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعوذ بوجهك))، قال – تعالى -: ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 65]، قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هذا أهْوَن، أو هذا أيسر))؛ رواه البخاري.
والكتاب من مطبوعات “دار القلم” بدمشق.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.