قراءة مختصرة لكتاب “النهضة بين الحداثة والتحديث.. قراءة في تاريخ اليابان ومصر الحديث” (2)
قراءة مختصرة لكتاب
“النهضة بين الحداثة والتحديث.. قراءة في تاريخ اليابان ومصر الحديث” (2)
لمؤلفه الدكتور محمد أمحزون
التفاعل الثقافي مع الغرب بين الاقتباس والتطوير:
في العقد الأوَّل لإصلاحات “مايجي” في اليابان، تُرجِم عددٌ كبير من الكتب الأوربية والأمريكية والصينية؛ لأغراض الدِّراسة الأكاديميَّة والبحْث العلمي، وتَمَّ استقدام أعداد متزايدة مِن الأساتذة والباحثين والخُبراء والمستشارين الأجانب؛ للعمل في مؤسَّسات التعليم الياباني، كذلك تم تدريس بعض المواد الجامعيَّة بلغات أجنبية، دون أن يستمرَّ هذا المنحى لفترة طويلة، ثم بدأ اليابانيُّون بالحلول تدريجيًّا مكان الأجانب في مؤسَّسات التعليم، وأصبحتِ اليابانية لغةَ التدريس في كل المؤسَّسات العامَّة والخاصَّة.
وهنا يظهر جليًّا أنَّ عملية استيراد التكنولوجيا الغربية واستقدام آلافِ الخبراء والمدرِّسين كان الهدف منه تدريبَ اليابانيين فقط، فهي خُطة انتقالية تلتْها مرحلة الاستيعاب والتطوير المحلِّي، فآمَن اليابانيُّون بأن عملية تحديث اليابان قضية يابانيَّة بالدرجة الأولى، كما اعتمدتِ اليابان على تعدُّد مشاربها التحديثيَّة، فلم ترتبطْ بمنهج غربي واحد.
أمَّا في مصر فقد اشتدَّتْ حدة الاقتباس الثقافي من الغرْب، وازداد معها الانخراطُ التبعي لمصر في دائرة التغريب الثقافي طوالَ القرن التاسعَ عشر، الذي انتهى بسقوط مصرَ تحتَ الاحتلال الأجنبي.
فقد تخلَّى خلفاء محمَّد علي بالكامل عن حمايةِ الإنتاج المحلِّي، واكتفوا فقط باستيراد السلع الجاهزة التي أغرقتِ الأسواق المصريَّة، وضربتِ الأُسس البنيويَّة للاقتصاد، مع الزيادة الهائِلة في الاقتراض مِن المؤسَّسات الرِّبوية الأوربيَّة بفوائد فاحشة، وفتح الباب على مصراعيه للمضاربين الأجانب في البورصة المصريَّة، وحِرْمان السِّلع المحليَّة من أيِّ حماية أو قُدرة على المنافسة.
مسألة المحاكم المختلطة:
شكَّلتْ مسألة المحاكم المختلطة نموذجًا بالغَ الدَّلالة على كيفية تعاطي السُّلطات المصريَّة واليابانيَّة مع الضغوط الأجنبيَّة في النصف الثاني مِن القرن التاسع عشر.
فعندما حاول الغربيُّون تطبيقَ ذلك النموذج على اليابان في وقت كانتْ تجهد فيه اليابان للتخلُّص من الاتفاقيات المجحِفة بحقها، انفجر صراع حاد داخلَها دام سنوات، وانتهى برفض تلك المحاكم؛ لأنَّ في قَبولها انتقاصًا للسيادة اليابانية.
أمَّا في مصر فقد بدأتِ المحاكم المختلطة التي تَمنح امتيازات خاصَّة للأجانب على حسابِ المواطنين – تعمل في أواخِر عهد محمد علي، إلى أن بَرَز نفوذها الهائل في عهدِ الخديوي إسماعيل، عندما اعتبرَها نوبار باشا انتصارًا للدبلوماسيَّة المصريَّة في منْع احتلالها عن طريق التفاهُم مع القُوى الأجنبية بدلَ التصادم معها!
وقد كانتْ هذه المحاكم أداةً للهيمنة الأوربية والاستغلال الأجنبي في مصر، فهي محاكِمُ أجنبية، تعتمد لُغةً وقوانين أجنبية، لصالح الأجانب، فلم تأتِ بأيِّ نفْع لصالح المصريين: حكومة وإدارة وشعبًا.
البعثات الطلاَّبية إلى أوربا:
مِن الأدوات التي مهَّدتْ لعملية التغريب في مصر: سياسة الابتِعاث التي اعتمدَها محمد علي، وذلك بإرسال الطلاَّب الشبَّان إلى أوربا ليتعلَّموا هناك، وكان هذا مِن أخطر ما فعَله في الحقيقة؛ لأنَّه من هناك بدأ الخط العلماني يدخُل ساحة التعليم، ومِن ورائه ساحة الحياة بكلِّ جوانبها في مصر.
وتأثَّر أعضاء البعثات بما شهِدوه في المجتمع الأوربي واضِحًا فيما عجَّتْ به كتبُهم من دعوة إلى التغريب والعَلمانيَّة، فلأوَّل مرة في البيئة الإسلاميَّة نجد كلامًا عن الوطن والوطنيَّة بالمعنى القوْمي الضيِّق الحديث في أوربا، ولأوَّل مرةٍ نجد افتخارًا بالتاريخ الجاهِلي الفرعوني! يوجه لتدعيم المفهوم الوطني الجديد.
تلك الدَّعوات التي مهَّدت لقَبول التشريع الوضْعي الذي يستند إلى العقْل على قُصوره، وعلى مخالطة الأهواء والشَّهوات له، والذي أدَّى فيما بعدُ إلى إلغاء الشريعة الإسلاميَّة وإقصائها من واقع الحياة، واستحلال ما حرَّم الله.
أمَّا في اليابان، فقد أرسلتِ الدولة في بدء نهضتها بعوثًا دراسيَّة كما أرسلت مصر، ورجعتْ بعوث اليابان لتحضرَ أمَّتها؛ وذلك أنَّ بعوث اليابان لم تكن منفكَّة عن اعتزازها برُوحها وثقافتها، بلغ ذلك أنْ ترسل الدولة مشرفين رُوحانيين للطلبة يجدِّدون فيهم رُوح الأصالة.
لقد أحسَّت اليابان بالحاجة إلى النهوض وهي محتفظة بهُويتها وذاتيتها، فأعطَتْ من نفسها العزيمةَ المطلوبة، وبذلتِ الجهد المطلوب، وأحسَّت مصر بالحاجَة إلى النهوض وهي مسلوبةُ الشخصية، فلا هُويتها الإسلاميَّة كانتْ حيَّةً فيها، ولا هي اكتسبتْ في موضع التقليد ذاتيَّة مستقلَّة، ومن ثَمَّ تقدمت حرَكة التحديث اليابانيَّة وَفْق هويتها، ولم تُبقِ حركة التحديث المصرية دِينًا ولم تأتِ بدنيا!
خلفاء محمد علي ومأزق حركة التحديث:
تتَّفق وجهاتُ النظر العربيَّة والغربيَّة على القول: إنَّ الخديوي إسماعيل بالغ في الاعتماد على الأجانب، وفتَح لهم أبواب مصر على مصاريعها، فقدْ أخَذ إسماعيل على عاتقِه مهمةَ جعْل مصر قطعةً من أوربا، لكن شكلاً لا مضمونًا.
وقد أسهَم في تسريع عملية التغريب هذه موقعُ مصر الجغرافي القريب مِن مراكز التحديث الغربيَّة، وفي عهد إسماعيل بدأتْ شرائح جديدة تتبلور داخلَ المجتمع المصري، وتتميَّز بكثرة الاقتباس عن المجتمعات الأوربية في المجالات الشكليَّة، وكان للتعليم الأوربي عبْر المدارس الأوربيَّة أكبر الأثر في هذا، مع انتشار الأفكار الواردة التي تدْعو للتبرُّج والاختلاط، وفتْح النوادي الثقافيَّة والرياضيَّة على غرارِ النمط الأوربي.
صاحَبَ هذا الفساد الاجتماعي فسادٌ إداري ومالي، عمَّ طبقة الأسرة الحاكمة المتفرِّعة بكثرة، وطبقة الأعيان التي مثَّلت حلقة الوصل بيْن الحكَّام والجماهير، مع ما وفَّرتِ المحاكم المختلطة والسياسة العامَّة للبلاد مِن تلاعُب الأجانب بالمال المستفاد مِن الرِّبا وإفقار العامَّة.
نهضة يابانيَّة شاملة الإصلاحات:
هناك ظاهرةٌ اجتماعيَّة إيجابيَّة في اليابان، قد تكون فريدةً في العالم اليوم، وهي ممارسةُ الطبقات العليا لعملية تثقيف سائرِ طبقات المجتمع، مما أسهَم في تطوير البناء الإصلاحي على قاعدةِ السُّلم والمشارَكة الأهلية بكلِّ طبقاتها، وذلك كله نتاج المنطلق الثابِت الذي جمَع تلك الطبقات المختلفة.
وعلى صعيدِ الإصلاح الاقتصادي اندفَع التحديثُ مِن ذات المنطلق، فجهَّزتِ الدولة القُوى المحليَّة بأحدث التكنولوجيا لعجْز تلك المشاريع المحليَّة عنها، كما وضعتِ الدولة الرقابةَ الصارمة على التجارة الخارجيَّة لحماية الإنتاج الداخلي، وبهذا تؤدِّي الدولة الدورَ الرئيس في إرساء قواعِد الإصلاح الاقتصادي.
وهكذا استقبلتِ الدولة اليابانية سائرَ عملية التحديث في شتَّى المجالات، فاستفادتْ منه في ظلِّ محافظتها على هُويتها وأصالتها.
شتان ما بين التحديث والحداثة:
في حين لم يَجمع محمد علي في حركة التحديث بيْن الأصالة والمعاصَرة، ورَفَض ردَّها إلى هُوية الأمَّة، وفتَح خلفاؤه مِن بعدُ البابَ على مصراعيه للتدخُّل الأوربي، واقتباس أنماط الحياة الغربيَّة، والسير بعيدًا عن جوهرِ عملية التحديث – ومع كلِّ هذا: نجد اليابان تسير على طريق الإصلاح والتحديث في إطار مشروعٍ طويلِ الأمَد، ترعاه الدولة، وتعِي أبعادَه الأمةُ عن طريقِ تفعيل كل الطاقات الحيَّة والفاعِلة فيه.
فتباينُ النتائجِ بنجاح التجرِبة اليابانيَّة وفشَل التجرِبة المصريَّة يُعزى إلى أنَّ محاولات الإصلاح في مصر باءتْ بالفشل بعد أن تحوَّلت إلى حركَة تغريب وحَدَاثة، وليس حركةَ تحديث متأصِّلة الجذور في الدولة والمجتمع معًا، بينما حركةُ التحديث في اليابان ليستْ تحديثًا للعسكر وبالعسكر، ومِن أجل العسْكر؛ لحماية مكاسبِ الحاكِم وحاشيته، بل تحديثًا للمجتمَع كله، عبر جميع فئاتِه وفعالياته وقُواه الحيَّة، وأنظمته السياسيَّة والماليَّة والإداريَّة عبْر استقلالية التشريعات والقوانين والنُّظم اليابانية، التي تدْعو بوضوح إلى الاحتفاظِ بالهُويَّة الذاتيَّة والأصالة.
آخر الكتاب، وهو مِن مطبوعات “دار السلام” بالقاهرة.
والحمد لله ربِّ العالمين