Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

تنمية المجتمع: الضبط الإداري للعمل الاجتماعي


تنمية المجتمع: الضبط الإداري للعمل الاجتماعي[1]

 

التمهيد:

لأغراض إجرائية، يقصد بالعمل الاجتماعي ذلك الأداء المناط بكيانات إداريَّة، حكوميَّة كانت أم غير حكوميَّة، تعمل على تحقيق الرفاه الاجتماعي (وزارات الشؤون الاجتماعيَّة، والجهات الأخرى الحكوميَّة وغير الحكوميَّة التي تقدم خدمات اجتماعيَّة)، ومن المهم هنا التوكيد أن العمل الاجتماعي هو في محصلته النهائية عملٌ خيري، بالمفهوم الشامل للعمل الخيري، حتى وإن تعددت أهدافه وتنوعت وظائفه.

 

المراد بالرفاه الاجتماعي: تحقيق الوفاق والوئام الاجتماعي[2]، من خلال تحقيق متطلبات المجتمع الأساسية والضرورية[3]، ولا يلبس هذا الإطلاق مع مفهوم الترفيه الاجتماعي الذي يأتي تبعًا، ويتحقق الرفاه الاجتماعي بمد الخدمات الاجتماعيَّة إلى كل فئات المواطنين المحتاجين إلى الخدمات، على اعتبار أن كل فرد في المجتمع بحاجة إلى خدمة اجتماعيَّة تتناسب ومتطلباته.

 

ولا يكاد يوجد مواطن لا يحتاج إلى نوع ما من الخدمات الاجتماعيَّة، سواءٌ تلك الخدمات الموجهة إلى الفئات ذات الاحتياجات الخاصة؛ كالأيتام والمعوقين والمسنين والمعوزين، وهو ما يدخل في مفهوم الرعاية الاجتماعيَّة، أم كانت تلك الخدمات الموجهة إلى بقية أفراد المجتمع المحتاجين لها، المتمثلة في خدمات التنمية الاجتماعيَّة، وسيأتي تفصيل لتلك الخدمات.

 

لا يقتصر العمل الاجتماعي، بمفهومه الشمولي، على جهة رسمية أو غير رسمية (وزارات الشؤون الاجتماعيَّة، مثلًا)، ويمكن القول بأن أي عمل يعود نفعه على المجتمع فردًا وجماعة هو عمل اجتماعي، وأي عمل آخر يسعى إلى تحقيق هذا النفع فإنما هو داخلٌ في مفهوم الوسائل المسخرة، بما في ذلك إدارة العمل الاجتماعي.

 

من هذا المنطلق لا يستغرب أن تكون الرعاية الصحية والنفسية والتربوية والترفيهية من رياضات وأعمال فنية مؤصلة داخلةً في المفهوم الشمولي للعمل الاجتماعي.

 

إدارة العمل الاجتماعي:

التعريف التقليدي السريع للإدارة هو اتخاذ جميع الإجراءات والتدابير المشروعة في سبيل تحقيق الأهداف، ويعني هذا وجود فعل أو أداء أو ممارسة تحتاج إلى ضبط بالإدارة، ولهذا الفعل أهدافٌ ينبغي بسطها ووضوحها سعيًا إلى تحقيقها، وللأهداف تدبيرات وإجراءات تكفل تحقيقها، ولا بد من التوكيد أن الإدارة في أصلها وسيلة لا غاية[4].

 

العناصر الرئيسة للإدارة التقليدية خمسة (5) عناصر، هي:

التخطيط.

والتَّنظيم.

والتوظيف.

والميزانية.

 

والمراقبة، وستحاول هذه الوقفة تطويع هذه العناصر الخمسة الرئيسة لإدارة العمل الاجتماعي.

 

للإدارة التقليدية مبادئ تقودها إلى تحقيق الأهداف، أوصلها أهل الاختصاص إلى سبعة عشر (17) مبدأ، تذكر هنا إجمالًا:

1- تقسيم العمل.

2- السلطة والمسؤولية.

3- السلوك الوظيفي السليم.

4- وحدة الأمر الإداري.

5- وحدة الإدارة للهدف الواحد.

6- إخضاع المصالح الفردية للصالح العام.

7- كفاية الرواتب والمكافآت.

8- المركزية.

9- التسلسل الإداري.

10- نطاق الضبط الإداري ومداه.

11- التوزيع حسب الأقسام المتجانسة.

12- خطوط السلطة والتشاور.

13- كفاءة العمليات وتنظيمها.

14- العدالة في المعاملة.

15- استقرار الموظفين (العاملين).

16- المبادرة.

17- روح الفريق.

 

لا بد أن يخضع العمل الاجتماعي إلى الإدارة، مثله مثل أي أداء يسعى إلى تحقيق أهداف، سواء أكانت هذه الإدارة تقليدية أم حديثة (غير شمولية) بحسب طبيعة الأداء المراد القيام به.

 

يعني هذا أن إدارة العمل الاجتماعي لا تخرج عن كونها وسيلة لتحقيق الرفاه الاجتماعي، ومتى ما اتخذت الإدارة غايةً لذاتها كان هذا على حساب فاعلية العمل الاجتماعي، وهذا مما ينبغي التوكيد عليه والتذكير به دائمًا؛ لما لوحظ من طغيان الضخ الإداري في بعض المواقف، التي لم تعد تأخذ طابع السلوك الشخصي، بل إنه أضحى نمطًا يقوم على حساب تقديم الخدمات الاجتماعيَّة.

 

طبيعة العمل الاجتماعي تحتم نظرة إداريَّة حديثة وغير تقليدية (غير شمولية)، ودون إغفال المفهوم الإداري من أن المسؤوليات لا تفوض، وإنما القابلة للتفويض هي الصلاحيات التي تمنح وتحجب، تقوم إدارة العمل الاجتماعي على توخي المرونة، والإكثار من التفويض، ومنح الصلاحيات، مِن دون تسيب في إدارة جزئيات العمل الاجتماعي.

 

وإذا كانت المركزية مطلوبة في بعض الأعمال، فإنها في إدارة العمل الاجتماعي تحد من الإبداع والمبادرة في تقديم الخدمات، وتقيِّد الفنيين من العاملين بكثرة الإجراءات والنماذج، ومن ثم يتأثر العمل الاجتماعي عند تطبيق المركزية في الإدارة الاجتماعيَّة.

 

يحتم هذا أن تراعيَ ضوابطُ الدولة الإداريَّة في مجالات التوظيف المستهدَفين، فتضع لكل فئة مستهدَفة ما يناسبها من حيث الضوابط الإداريَّة وشروط التوظيف والتوصيف الوظيفي وانتقاء الموظفين والموظفات المنتظر عملهم في المجال الاجتماعي، وبوجه خاص في مجالات الرعاية الاجتماعيَّة، من دون إغفال القدرات الذاتية على أداء هذا العمل.

 

ولا يتصور أن تكون الضوابط الإداريَّة متساوية في إدارة الدولة؛ إذ إن طبيعة العمل المراد أداؤه تحتم طبيعة التأهيل.

 

لذلك فإنه يلزم أن يكون للعمل الاجتماعي ضوابط إداريَّة عامة، وأخرى خاصة به، يشارك في وضعها متخصصون في المجال الاجتماعي من علماء الاجتماع والخدمة الاجتماعيَّة، وإقحام المَعْنيين في مجالات التربية وعلم النفس، فليس كل موظف أو موظفة مؤهلًا للمتطلبات الرئيسة للوظيفة العامة، وتنطبق عليه ضوابط التوظيف العامة، يكون مؤهلًا للقيام بالعمل الاجتماعي في مجالات الرعاية أو التنمية الاجتماعيَّة.

 

هناك فلسفة إداريَّة مُفادها: أن يسيِّر العملُ القائمين عليه، أو أن يسيِّرَه القائمون عليه، بمعنى أن يقتصر القائمون على العمل على الحد الأدنى من الأداء من دون ترك المجال للثغرات أن تؤثر على الأداء، فهذه المدرسة الإداريَّة هي التي تسيِّر العمل، وتملك أن توقفه في أي وقت، ويتضح هذا لدى بعض العاملين الميدانيين من الحرفيين والفنيين الذين تناط بهم أعمال تنفيذية لا تتوقف، ولكنهم هم الذين يوقفونها عند حد متعارف عليه، قد يكون عامل الوقت أو الراحة المعتادة أو طبيعة الأداء.

 

أو أن ينظر القائمون على العمل إلى أنه لا يحتمل التأجيل والتسويف، وأنه قد يترتب على التأجيل والتسويف مضرة تلحق بالعمل المناط بهم وبالمستفيدين من الخدمات، وبذا يسيِّرهم العمل، مع أنهم لا بد أن يتوقفوا عند حد ما يكون فاصلًا بين أداء وأداء على سبيل التناوب في العمل، إلا أن العمل نفسه لا يحتمل الوقوف، وهذا أقرب ما يكون إلى الإدارة بالأهداف[5].

 

العمل الاجتماعي يقوم على استمرار وجود الحاجة للخدمة على مدار الساعة، ولا يحتمل تأجيل الحاجة لها إلى اليوم التالي أو الأسبوع الآتي أو الشهر المقبل، ولذا فإن العمل الاجتماعي يسير القائمين عليه، أي أن حجم المسؤوليات هو الذي يسير القائمين عليها، لا هم الذين يسيرونها، فلا يحتمل العمل الاجتماعي الاعتماد على حساب الوقت، بل على تحقيق الهدف، ولذا يتناوب العاملون في العمل الاجتماعي على صورة “ورديات” لا تترك مجالًا للتأجيل والتسويف.

 

البعد السيادي:

تتحمل الدولة سياديا تحقيق الاجتماعي من تربية وتعليم وتنمية ورعاية اجتماعيَّة ووقاية وعلاج، وتوفر ذلك بموجب أنظمتها ودساتيرها[6]، وتبعًا لذلك فالدولة تمارس إعالة من لا عائل له، ولا بد للمجتمع المدني أن يسهم بطريق ما في تحقيق الرفاه الاجتماعي، مما يدخل في مفهوم تحقيق المسؤولية الاجتماعيَّة، وقد أفردت للمسؤولية الاجتماعيَّة فصلًا خاصًا لاحقًا.

 

تمارس الدولة حقها السيادي على الهيئات والمؤسسات والجمعيات الخيرية، من خلال الإشراف عليها في التأكد من أدائها وضبط هذا الأداء، وعدم خروج هذه المنشآت عن الأهداف التي رسمتها هي لنفسها، ووافقت عليها الدولة، وأعطت بموجبها الترخيص لها لتعمل على تحقيقها.

 

تتم ممارسة الدولة لحقها السيادي من خلال قنوات عدة ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بالبعد السيادي، وتمارسه في هذا المجال بوضع الضوابط ومتابعة المراقبة لتحقيق الضوابط ومراجعتها دوريا؛ لضمان سلامة سيرها، ومن ذلك ممارسة الدولة للمهمة الرقابية من بعد، فإن لم تطرأ مشكلات جوهرية تستدعي التدخل المباشر تركت الدولة للقائمين على العمل الخيري معالجة ما يطرأ من محدثات غير مؤثرة على السياسة العامة والعليا للدولة.

 

يمكن للدولة أن تمنح بعض صلاحياتها، من دون أن تتنازل عن مسؤولياتها السيادية، فتسند بعض الخدمات الاجتماعيَّة إلى القطاع الأهلي (الخاص)، عن طريق الخصخصة أو عن طريق المساندة أو عن طريق التفويض الذي يقدم هذه الخدمات بمقابل مادي.

 

يمكن أن تسند هذه الخدمات أيضًا إلى القطاع الثالث، القطاع الخيري، الذي يقدم هذه الخدمات دونما مقابل مباشر من المستفيد المباشر، وتقدم له الدولة الدعم الكافي بما يعفيها – من دون التنازل عن البُعد السيادي أيضًا – من ممارسة هذه المسؤولية مباشرة.

 

أنواع العمل الاجتماعي:

يمكن تقسيم العمل الاجتماعي المؤسسي المؤطر من حيث الأداء الوظيفي إلى قسمين رئيسين، هما:

التنمية الاجتماعيَّة.

والرعاية الاجتماعيَّة.

 

التنمية الاجتماعيَّة تتم بطرق، منها:

تحقيق الثقافة الاجتماعيَّة بالتوعية والتثقيف الاجتماعي (ثقافة الأسرة، تربية الأولاد، الدفاع المدني، الإسعافات الأولية، والحفاظ على البيئة، والنظافة العامة… إلخ).

 

التأهيل المهني الأولي (خياطة، طباعة، “إدخال بيانات”، غزل نسيج، أعمال يدوية، طبخ.. إلخ).

 

الوقاية من الأمراض الاجتماعيَّة (التدخين، المخدِّرات، الخمور، الظاهرات والسلوكيات الاجتماعيَّة السيئة؛ كالتصدع الأسري، والعنف الأسري، وانحراف الشباب)، وقد تتحول نتائج هذه الممارسات الخاطئة إلى جانب الرعاية الاجتماعيَّة عندما تنتقل الحال من الوقاية إلى العلاج.

 

الترفيه (سمر، رياضة، رسم، أشغال يدوية فنية، ألعاب، رحلات، هوايات أخرى).

 

يتم تقديم الخدمات الاجتماعيَّة التنموية عن طريق مراكز التنمية الاجتماعيَّة، وما يتفرع عنها من لجان التنمية الاجتماعيَّة واللجان الأهلية للتنمية الاجتماعيَّة ومراكز الأحياء، وتنضبط هذه الخدمات بضوابط المجتمع ومقوماته المستقاة من خلفيته الدينية والاجتماعيَّة والثقافية والانتمائية.

 

تتضاءل مهمات مراكز التنمية الاجتماعيَّة كلما قُدِّمت هذه الخدمات التنموية عن طريق مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة الأخرى، مثل التربية والتعليم، بما في ذلك محو الأميَّة، والتدريب التقني والفني والمهني والصحة والنوادي الأدبية والثقافية والرياضية، وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، وهذا مرهونٌ بالتنمية الشاملة التي تحرص على تحقيق البنية لمتطلبات الحياة الثابتة.

 

تقدَّم خدمات الرعاية الاجتماعيَّة – بمقابل أو من دون مقابل – عن طريق الدور الإيوائية والمراكز التأهيلية الحكوميَّة، أو الأهلية، أو الخيرية، لا سيَّما لذوي الاحتياجات (القدرات) الخاصة من أعضاء المجتمع، مثل:

دور التربية الاجتماعيَّة (رعاية الأيتام)،.

دور الملاحظة للجانحين.

دور التوجيه للمتمردين على ذويهم[7].

دور المسنين لغير المعولين من ذويهم من أبنائهم وبناتهم وأقاربهم.

مراكز تأهيل المعوقين جسديًّا وفكريًّا، وربما أطلق عليها: مراكز التأهيل الشامل.

 

مراكز الحماية الاجتماعيَّة التي تضطلع بالحد من العنف الأسري من قِبَل الأزواج “ذكورًا أو إناثًا”، أو الوالدين، وربما الأولاد في بعض الحالات.

 

الظواهر الاجتماعيَّة الطارئة، كالزلازل والفيضانات والأعاصير، لا تعالج بالنظرة الإداريَّة التقليدية القائمة على مهمات وظيفية محددة مناطة بالموظف أو الموظفة، بل تعالج بأسلوب إداري آخر غير تقليدي، يقوم على تكوين فِرق عمل مؤقتةٍ (ad hoc) (committees) تسرع في معالجة هذه الظواهر الطارئة.

 

يعاني العمل الاجتماعي في شقَّيه التنموي والرعائي الموجه إلى فئاتٍ مستحقة من تسلق غير المستحقين لخدماته من بعض أفراد المجتمع، وربما كان ذلك على حساب المستحقين من المستفيدين المستهدَفين، ويفرض هذا مزيدًا من الضبط والتحري والتثبت والمراجعة الدورية للحالات المستفيدة، وتكثيف البحث الاجتماعي الميداني، بحيث لا يضار المستحق الحقيقي في سبيل إقصاء غير المستحق؛ ولذا برزت مما اكتسب من واقع العمل الاجتماعي فلسفة في إدارة العمل الاجتماعي، مُفادها: “أن تمنح الخدمة لغير مستحق: خيرٌ من أن تمنعها عن مستحق”، والموقف الطبيعي، وهو المثالي، هو أن تمنح الخدمة للمستحق الفعلي.

 

ويحصل أن يتنازل غير المستحق للمستحق، عندما يدرك أنه قد حجب الخدمة عمن هو أحق منه بها، أو يشعر أنه يمكن أن يحقق الخدمة نفسها ذاتيًّا، عندما ينتقل من حال الحاجة إليها عن طريق آخر إلى الحاجة إليها عن طريقه هو أو هي، وهذا مع قلته إلا أنه يزداد مع المزيد من التوعية والتثقيف وتقوية الوازع الديني في النفوس، وتطبيق الأنظمة التي تجرِّم مَن يأكل حق غيره.

 

عناصر الإدارة الاجتماعيَّة:

من حيث التخطيط الأولي، ومن دون إغفال وضع الإستراتيجيات للنهوض بالعمل الاجتماعي، لا بد من اتباع خطط تتسم بالمرونة، وتكون في الوقت نفسه قصيرة المدى، ومتجددة في التخطيط للعمل الاجتماعي، بحيث يكون هناك مجالٌ واضحٌ للطوارئ، ويتضح هذا جليًّا في مجال الرعاية الاجتماعيَّة.

 

من حيث التَّنظيم تحتم البيئة الثقافية المستهدَفة مدى التَّنظيم ومرونته وسلاسته، التَّنظيمات الاجتماعيَّة الجاهزة لمجتمعات (TURN – KEY) أخرى لا يضمن نجاحها في بيئات غير بيئتها، وقرى الأيتام (SOS) مثلًا التي نجحت في بيئات ومجتمعات غربية يمكن أن تنجح في بيئتنا الإسلاميَّة، إذا جرى تطويعها لمنطلقاتنا القائمة على ثوابت هذا الدين، ولا يتوقع نجاحها إذا ما استوردت جاهزةً على ما هي عليه من حيث البرامج ونوعية الرعاية، وإنما تطوع حسب البيئة، ولا يعني هذا رفضها ابتداءً لمجرد أنها نماذج مستوردة.

 

من حيث التوظيف لا ينظر للعمل الاجتماعي الميداني على أنه مجرد وظيفة إداريَّة فحسب، بل هو رسالة إنسانية، يقوى فيها البُعد الاحتسابي، والرغبة في الانخراط فيه، دون أن يخلو بحال من الأحوال من الضخ العاطفي المرشَّد؛ ولذا تغلغلت المِلل والنِّحَل، مثل التنصير والماسونية، في هذه الرغبة التي تسيِّرها العاطفة، من خلال تقديم الخدمات الإنسانية الاجتماعيَّة على أيدي المؤهلين القادرين، ولا يصلح كل الناس للعمل ذي البُعد الاحتسابي، وإن اتصف بعضهم بالتأهيل العلمي أو المهني، أو العاطفة، أو الرغبة، أو الحماسة لذلك.

 

العمل الخيري التطوعي – باعتباره عملًا اجتماعيًّا – هو أحد الروافد في عنصر التوظيف، وكثير من المهمات الاجتماعيَّة قامت على هذا النوع من العمل، وسيأتي تفصيل ذلك في فصلٍ لاحقٍ – بإذن الله.

 

من حيث الميزانية تُتَّبع في العمل الاجتماعي أقصى درجات المرونة في الإنفاق على الفئات المخدومة دونما تسيُّب؛ ولذا تعد الميزانية، أو الموازنة، بما يتيح الزيادة في الدعم، سواء أكان الدعم حكوميًّا، أم كان من موارد مالية أخرى خيرية أو أوقاف أو استثمارات، ومن ذلك اتباع أسلوب الدعم الطارئ الذي يعد نوعًا أو مخرجًا لتغطية النقص الذي قد يعتري الميزانية في بعض بنودها.

 

ومن درجات المرونة في ميزانية العمل الاجتماعي تنويع الموارد المالية؛ فشيء منها عن طريق دعم الدولة، وشيء منها عن طريق الزكوات والصدقات، والمنح والهبات، وشيء ثالث منها عن طريق الأوقاف والاستثمارات الموقوفة على عمل اجتماعي بعينه، أو على عمل اجتماعي عام، ولا تغفل هنا الوصايا التي تدخل في مفهوم الوقف.

 

يغطي القطاع الخيري تكلفة تقديم هذه الخدمات من خلال التبرعات التي تصل عن طريق دعم الدولة، وعن طريق إسهام القطاع الخاص، أو عن طريق المحسنين من الموسِرين، من خلال الزكوات والصدقات والأوقاف والهبات والتبرعات، ومن خلال استثمار الأموال العائدة إلى هذا القطاع في ضوء الضوابط الشرعية، وبقدر ضئيل من المخاطرة؛ إذ إن هذه أموالٌ القائمون على الجمعيات مؤتمنون عليها، والتفريط بها في الاستثمار غير المأمون يحُدُّ من الإقبال على التبرعات[8].

 

من الممارسات المطلوبة بإلحاح لتحقيق الموارد المالية للجمعيات والمؤسسات الخيرية، تفعيل جانبي المشروعات الاستثمارية والوقف، بحيث يضمن الحد الأدنى من التمويل الذاتي للميزانيات التشغيلية وميزانيات البرامج والمشروعات، فلا تتعطل بسبب قلة الموارد، فيتضرر المستفيدون.

 

من حيث الرقابة والمتابعة لا تتيح الدولة – في نُظمها (قوانينها) ولوائحها وضوابطها – ثغراتٍ لتغلغل العاملين (الموظفين) ذوي النفوس الضعيفة في هذا البُعد، لا سيَّما في مجالات الرعاية الاجتماعيَّة، بل إن الضوابط العقابية والرقابية ربما تكون أشد من غيرها في مجال العمل الاجتماعي عندما يتمادى العاملون في التقصير، ويكون تقويم الأداء الوظيفي مبنيًّا على ما سبق ذكره من تسيير العمل للموظف، لا تسيير الموظف للعمل.

 

ومع أن تقويم الأداء يقوم عادةً على مقدار الإنتاجية والانضباط، إلا أن المعلوم في إدارة العمل الاجتماعي صعوبة قياس الإنتاجية فيه على المدى القريب؛ إذ إنه يتعامل في الغالب مع أشخاص ذوي احتياجات خاصة يصعب معها بيان التطور الذي يحصل لهم، إلا من خلال تدخل مقومات أخرى، كالعلاج الطبيعي والعلاج النفسي والتربية والتعليم وتطوير بعض المهارات الذهنية واليدوية.

 

تُقوَّم الهيئات والمؤسسات والجمعيات الخيرية من خلال مشروعاتها وبرامجها وتحفيز العاملين فيها والمتعاونين معها بقدر ما تحقق من منجزات في مجال الرفاه الاجتماعي، ولا بد من التركيز حين التقويم على المد الأفقي في الخدمات، بحيث تتنوع البرامج والمشروعات، وتسعى إلى صناعة أشخاص يقفون على أقدامهم، ويبنون أنفسهم، فيكونون أعضاء فاعلين منفقين، وليسوا أسرى الحاجة المستمرة.

 

العمل الخيري:

العمل الخيري هو جزء فاعل في العمل الاجتماعي لتحقيق الرفاه الاجتماعي، وكونه خيريًّا لا يعني أن يكون من الناحية الإداريَّة عملًا فرديًّا متسيبًا وغير منضبط يقوم على اجتهادات عاطفية فقط.

 

يحتاج العمل الخيري إلى تكوين العراقة في مجال العمل الاجتماعي، بحيث لا يقتصر على الأداء الفردي القائم على الارتجالية؛ أي إنه لا تلازم بين العمل الخيري والارتجالية؛ بحجة الخروج من القيود البيروقراطية والتعقيدات الإداريَّة والرقابة المالية[9].

 

لا تنتظر الديمومة للعمل الخيري الفردي المعتمد على الضخ العاطفي السريع المبني على ردود الأفعال؛ فضرر هذا الأداء بعيد المدى، وقد يكون أكثر من نفعه قريب المدى؛ ولذا برز تنظيميًّا مفهوم الهيئات والجمعيات والمؤسسات الخيرية.

 

الحماسة للعمل الخيري لا تكفي لتقديمه، بل ربما جَنَتِ الحماسة على تقديم الخدمة الاجتماعيَّة من حيث أراد أصحابها أن يحسنوا، في العمل الاجتماعي المؤسس ضغطٌ على الأعصاب، وتضحيات بالوقت والمشاعر والصبر على الواقع المعاش، ووضوح في الأوليات، وتقديم البُعد التَّنظيمي، والنزوع إلى التخصصية في تقديم الخدمات الاجتماعيَّة، لقد كانت الحماسة في بعض الحالات مؤخرة للعمل الاجتماعي، حينما يتوقف تفكير بعض المستأثرين بالعمل الاجتماعي والقائمين عليه في أداء الخدمات عند حد يصعب معه تطوير الذات.

 

ولذا تبرز هنا ضرورة التغيير الدوري في مجالس الإدارة وفي الطاقم التنفيذي، ولو على سبيل التدوير بين العاملين ميدانيًّا وإداريًّا بحسب القدرات، لا سيَّما أن مجالس الإدارة والعاملين التنفيذيين ليسوا وقفًا على الجمعية، وليست الجمعية وقفًا عليهم، من دون إغفال الأمان الوظيفي، وإنما يتشبث بعضوية مجلس الإدارة في الجمعية من يخشى عليها من أن تفقد بوصلتها، وسيأتي ذكر لهذا الهاجس.

 

العمل الخيري في المؤسسات الخيرية، من حيث الاصطلاح الإجرائي، هو أقرب إلى العمل الفردي[10]،ومع هذا فإنه من الناحية التَّنظيمية يخضع للوائح المؤسسات والجمعيات الخيرية التي تحتم وجود مجلس أمناء، يكون هو صاحب القرار “رسميًّا” في توجيه المشروعات والبرامج الخيرية والتخطيط لها، ولا بد من المرونة في هذا، بحيث لا تتأثر حماسة المؤسسة، أو تفتُرُ حماسة صاحبها، لكن من دون أن تكون المسألة “مزاجية”، وتلك معادلةٌ فيها قدرٌ من الصعوبة في واقع التطبيق.

 

البُعْد الإغاثي – من تقديم الإعاشة والكساء والسكن والعلاج والتأهيل والتدريب – هو إحدى وظائف الجمعيات الخيرية، وليس هو الوظيفة الوحيدة أو الرئيسة، والأَوْلى أن تكون الجمعيات الخيرية مع ذلك هي المنوطة بذلك، وتبتعد المؤسسات الخيرية عن هذا الأداء التفصيلي “الميداني”، وتتركه للجمعيات، وتكتفي بدعم البرامج والمشروعات التي قد يأتي بعضها – من حيث التنفيذ – عن طريق الجمعيات الخيرية.

 

الجمعيات الخيرية ذات الأداء العام، أو ذات الأداء المتخصص، هي الأسلوب الناجع في مَأْسسة العمل الاجتماعي؛ ذلك أنها تقوم على المشاركة الجماعية لمن هم مهتمون بتنمية المجتمع ومتحمسون لذلك.

 

مَأْسسة العمل الخيري:

يعني هذا التوكيد على مأسسة العمل الخيري، ومن ثم الابتعاد عن الأداء عن طريق ردود الأفعال، وهنا يبرز عامل التخطيط، الذي يشمل إجراء البحوث والدراسات الواقعية والمسوح الميدانية، بل ربما برز عامل وضع الإستراتيجيات العامة الاستئناسية للعمل الاجتماعي، بما فيه العمل الخيري، وإنما قيل: الاستثنائية هنا، للتوكيد على عامل المرونة في إدارة العمل الاجتماعي.

 

تقتضي مأسسة العمل الاجتماعي، بما فيه العمل الخيري، التركيز على الخبرات والتعليم والتدريب والابتعاد عن النمطية في الأداء والاقتصار على الخبرة الميدانية المحدودة التي تحُول دون التوسع الأفقي للعمل الاجتماعي، ويتحقق ذلك بتكثيف إنشاء المؤسسات التعليمية والتدريبية المعنية بهذا الجانب، والانخراط في الدورات التدريبية المتوالية.

 

تتكفل مؤسسات التعليم العالي بالجانب التعليمي، من خلال أقسام علم الاجتماع والخدمة الاجتماعيَّة، ثم أقسام التربية وعلم النفس والدعوة، ويحتاج هذا العمل إلى المراكز أو المعاهد التي تغطي الجانب التدريبي التأهيلي للراغبين والراغبات في العمل الاجتماعي، على اعتبار أن التأهيل العلمي ليس كافيًا للدخول في هذا الميدان.

 

تعتمد الجمعيات الخيرية في تحقيق وظائفها على الأداء الجماعي، من خلال مجالس الإدارة المنتخبة، التي تعنى بالخطط ووضع السياسات وتتابع الأداء، وهي تنوب عن المجتمع في مساندة الدولة في تحقيق الرفاه الاجتماعي، وتعزيز مفهوم المسؤولية الاجتماعيَّة[11].

 

المؤسسات الخيرية التي تعطي لمجلس الأمناء والهيئات الاستشارية شأنًا واضحًا في اتخاذ القرار هي المؤسسات الناجحة، التي تتضمن لخدماتها الديمومة – بحول الله تعالى، ومن ثم تقلل من الهدر المالي والوظيفي، وتجعله في أضيق الحدود.

 

الجمعيات التعاونية:

تدخل الجمعيات التعاونية في مفهوم العمل الاجتماعي، وهي جزء فاعلٌ في العمل الاجتماعي الجماعي، وهي من التنمية الاجتماعيَّة من قسمي العمل الاجتماعي، ورغم أنها تراعي الربحية النسبية، فإنها مهضومة الحقوق في مسألة العناية بما تقوم به من خدمات اجتماعيَّة، كما أنها مهضومة الحقوق قليلة الحصول على الاهتمام والإشهار والعناية والتركيز على ما تقدمه للمجتمع من خدمات، ومشكلاتها الإداريَّة كثيرة، وهي أقرب من غيرها إلى التصفية؛ بسبب طغيان البُعد المادي فيها، وبسبب كثرة التنازع تاليًا بين المسهمين فيها، ودخول عناصر بينهم همها إثارة الكثير من التساؤلات والاختلافات والشكوك في العاملين فيها.

 

واضحٌ أن الجمعيات التعاونية قد نجحت في بداية انطلاقتها، وفي طريقتها الحديثة المنظمة في البيئات التي تطبق المفهوم الاشتراكي، لكنها خرجت من عباءة الاشتراكية عندما تبينت فاعليتها وتغطية خدماتها لفئة تحتاج إليها، فأفادت منها المجتمعات الرأسمالية والمجتمعات الأخرى التي تطبق مفهومات اقتصادية هي خليط بين الاشتراكية والرأسمالية، فالجمعيات التعاونية هي رافد من روافد العمل الاجتماعي التنموي، وتطوَّع مثل غيرها للثقافة التي يتبناها المجتمع المستفيد.

 

تختلف إدارة الجمعيات التعاونية في عناصرها الخمسة عن إدارة الجمعيات والمؤسسات الخيرية، وإن كانت داخلةً في مفهوم إدارة العمل الاجتماعي والخيري، وهي ذات بُعد خيري واضح، فتحتاج هي بدورها إلى صياغة إداريَّة ومالية خاصة، تجمع بين كونها تقدم خدمات اجتماعيَّة وبين كونها جهةً استثمارية تجارية، تخضع لعوامل الربح والخسارة، وهي هنا تقف بين المنشأة الربحية البحتة وبين المنشأة الخيرية البحتة، فتأخذ من هذه وتأخذ من تلك، ومن هذا فهي داخلةٌ في مفهوم القطاع الثالث أو الخيري، وهذا يستدعي وقفاتٍ تخصصيةً خاصةً.


[1] ألقيت هذه الورقة في مناسبات عدة، منها محاضرة في كلية اليمامة بالرياض، ومركز صالح بن صالح الاجتماعي في عنيزة بالقصيم، الأربعاء 23/ 3/ 1428هـ – 11/ 4/ 2007م، ومؤسسة اليوم الصحفية بالمنطقة الشرقية ولجنة أصدقاء المرضى في الغرفة التجارية الصناعية بالرياض، الأحد 4/ 6/ 1429هـ – 8/ 6/ 2008م.

[2] انظر: إبراهيم مصطفى وآخرين، المعجم الوسيط – إستانبول: دار الدعوة، 1406هـ/ 1986م، ص 363، مادة رفه: (الرفاه) يقال للمتزوج: بالرفاه والبنين: بالوفاق والوئام.

[3] سماه معجم مصطلحات الرعاية والتنمية الاجتماعية: الرفاهية الاجتماعية،وعرفها بأنها: (نسقٌ منظمٌ من الخدمات والمؤسسات الاجتماعية يرمي إلى مساعدة الأفراد والجماعات للوصول إلى مستويات ملائمة للمعيشة والصحة، كما يهدف إلى قيام علاقات اجتماعية سوية بين الأفراد بتنمية قدراتهم وتحسين الحياة الإنسانية بما يتفق وحاجات المجتمع)،انظر: أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات الرعاية والتنمية الاجتماعية: إنجليزي – فرنسي، عربي، القاهرة: دار الكتاب المصري، 1407هـ/ 1987م، ص 249.

[4] انظر: محمد مهنأ العلي، الوجيز في الإدارة العامة، جدة: الدار السعودية، 1404هـ/ 1984م، 263 ص.

[5] يعد بيتر دروكر أول من أبرز مفهوم الإدارة بالأهداف في كتابه: الإدارة بالتطبيق سنة 1374هـ/ 1954م،ويرى أن هذا الأسلوب يركز على ضرورة العمل الجماعي وروح الفريق والمشاركة الفعالة والإيجابية بين الرئيس ومرؤوسيه في التخطيط والرقابة، ويحقق الرقابة الذاتية،انظر: سعود بن محمد النمر وآخرين، الإدارة العامة: الأسس والوظائف، ط 2، الرياض: المؤلفون، 1411هـ/ 1991م -ص 96 و 408.

[6] تنص المادة السابعة والعشرون من النظام الأساسي للحكم بالمملكة العربية السعودية على الآتي: (تكفل الدولة حق المواطن وأسرته في حالة الطوارئ والمرض والعجز والشيخوخة، وتدعم نظام الضمان الاجتماعي، وتشجع المؤسسات والأفراد على الإسهام في الأعمال الخيرية).

[7] كنت قد عبرت عن هذه الفئة بمصطلح الشُّطَّار، وهم باللغة العربية جمع شاطر، والشاطر هو الذي أعيا أهله خبثًا، إلا أن المجتمع لم يتقبل هذا المصطلح، على اعتبار أنه أضحى يستخدم للمدح،وعند ابن منظور في لسان العرب: (وشطر عن أهله شطورًا وشطورة وشطارة: إذا نزح عنهم وتركهم مراغمًا أو مخالفًا، وأعياهم خبثًا، والشاطر: مأخوذ منه)، 4: 2263،وعند محمد مرتضى الزبيدي في تاج العروس (3: 399) نحوه منقولًا عنه.

[8] يأتي هذا التحذير في ضوء ذلك الاندفاع المحموم في المضاربات التي ضربت بأطنابها في المجتمع الخليجي بخاصة، وخلَّفت خسائر مادية واضحة، وأضرارًا اجتماعية وآثارًا نفسية صعبة العلاج.

[9] البيروقراطية من الكلمات المركبة من بيرو، وتعني المكتب، وقراطية وهي لاحقة وصفية تعني السلطة،وتتردد هذه الكلمة كثيرًا من مفهوم سلبي،والمفهوم السلبي أضحى أحد معانيها، وهو: المغالاة في الاهتمام بالشكليات الإدارية التي لا معنى لها، والتنحية للهدف، والقلب لمبدأ الوسائل والأهداف، والإفلات من العقلانية المرشدة،انظر: تشارلز فوكس وهيو ميللر، نظرية ما بعد الحداثة للإدارة العامة باتجاه فن النقاش/ ترجمة عاصم محمد الفارس، ومراجعة ثامر بن ملوح المطيري، الرياض: معهد الإدارة العامة، 1421هـ/ 2000م، ص 170،والبيروقراطي، كما في قاموس إلياس العصري،(ص 110) هو: المتشدِّد في التَّوافِهِ.

[10] يقصد بالمؤسسات الخيرية من حيث الاصطلاح الإجرائي تلك التي يقوم بها فرد طبيعي أو اعتباري ذو يسار، ولها تنظيمها الذي يميزها عن الجمعيات الخيرية التي تقوم بها المجموعة من أفراد المجتمع.

[11] سترد مناقشة هذا المفهوم في فصل لاحق.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى