Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

الأستاذ الدكتور محمد الهدلق


الأستاذ الدُّكتور محمَّد الهَدْلَق

(١٣٦٣- ١٤٤٥هـ = ١٩٤٤- ٢٠٢٤م)

 

كُنْتُ أُسَمِّي الدُّكتور محمَّد الهدلق “الكمبيوتر”، لِقُوَّةِ حافِظَتِهِ، وسُرْعَةِ استحضارِهِ للنُّصُوصِ، وكأنَّ ذاكرتَهُ لا تَخْرِمُ مِنَ الشَّواهِدِ والآثارِ حَرْفًا، وما انفكَّتْ صُورتُهُ عندي هي صُورةُ الأستاذِ الجامِعِيِّ الَّذي اجتمعَ فيهِ أَزْكَى القِيَمِ وأعلاها، كانَ، يومَ اختلفْتُ إلى جامِعةِ الملِكِ سُعُود لدراسةِ الماجستير = عميدَ كُلِّيَّةِ الآداب، عَلَى أنَّهُ أَحْرَصُ ما يكونُ الأستاذُ عَلَى دُرُوسِهِ وطُلَّابِهِ، لا أَذْكُرُ أنَّهُ تَغَيَّبَ عنْ دَرْسِهِ إلَّا مَرَّةً واحِدَةً، أَعْلَمَنا قَبْلَها بتخلُّفِهِ عنِ الدَّرْسِ!

 

ولا أزالُ، عَلَى تَقادُمِ الأيَّامِ، أذكُرُ دُرُوسَهُ الجامِعيَّةَ في النَّقدِ الأدبيِّ القديمِ، يَعْرِفُ نُصُوصَهُ، بلْ إنَّهُ يستظهِرُها، ويُؤدِّيها إلينا، كما هي، حَرْفًا حَرْفًا، وكأنَّهُ يُطالِعُ كِتابًا، مع استيعابٍ عجيبٍ لِمَصادِرِ النَّقدِ، قديمِها وحديثِها، مخطوطةً ومطبوعةً = وإحاطةٍ بمظانِّها في المجلَّاتِ العِلْمِيَّةِ، يَقْصِدُهُ زُملاؤهُ في الجامِعةِ، وطُلَّابُهُ، فلا يَرُدُّ أحدًا إلَّا بِثَبَتٍ وافرٍ، يُمْليهِ مِنْ ذاكرتِهِ، فيهِ أسماءُ الكُتُبِ، ومَظَانُّ البُحُوثِ في هذهِ المَجَلَّةِ أوْ تلك.

 

وعَلَى أنَّ أُستاذَنا ذُو تكوينٍ عِلْمِيٍّ عَرَبِيٍّ؛ فإنَّهُ أَتَمَّ دُرُوسَهُ العالِيَةَ في بريطانيةَ، لكنَّكَ لا تكادُ تَجِدُ في حديثِهِ أَثَرًا لِّدراستِهِ في الغَرْبِ، وأغلبُ الظَّنِّ أنَّ النَّظريَّاتِ الجديدةَ لمْ تُغْرِهِ، مَهْما أَلْقَتْ عَلَى مُنْتَحِلِيها سِيماءَ الحداثةِ، فكانَ، بهذا المعنى، “مُحافِظًا”، مُتَبَتِّلًا في مِحرابِ النَّقدِ العربيِّ القديمِ، “حافظًا” لَّهُ، إذا أردتَّ بالحِفْظِ: الاستظهارَ، أوْ حِفْظَهُ مِنْ عَوادِي التَّغريبِ والتَّحديثِ، لَكِنَّهُ كانَ سَمْحًا، لا يَحْمِلُ طُلَّابَهُ عَلَى رأيٍ أَخَذَ بِهِ، فإذا سَمِعَ كلامًا أسانيدُهُ “حَدَاثِيَّةٌ”، مِنْ تلكَ الَّتي لا تُلائِمُ رُوحَهُ وذَوْقَهُ وعَقْلَهُ = قابَلَكَ بابتسامةٍ حانِيَةٍ حُلْوَةٍ تَطْوِي خَلْفَها نَفْسًا كأنَّما طَبَعَها اللهُ – جَلَّ جلالُهُ – عَلَى المحبَّةِ والسَّمَاحةِ.

 

وكانَ أستاذُنا، مَعَ إحاطَتِهِ بالنَّقدِ العَرَبِيِّ القديمِ، قليلَ التَّأليفِ، ولَوْلا إلْحاحُ بعضِ الصَّديقِ عَلَيْهِ بإخراجِ بُحُوثِهِ الَّتي نَشَرَها في مَجَلَّاتٍ عِلْمِيَّةٍ = في كِتابٍ، لَظَلَّ عُمْرَهُ كُلَّهُ سُقْرَاطِيَّ المَنهَجِ، واختيارُهُ، عَلَى غَرابتِهِ، لهُ وَجْهٌ؛ فما الجديدُ الَّذي ستَجْنِيهِ كُتُبُهُ، لَوْ أنَّهُ انقطَعَ للبحثِ والتَّأليفِ؟ أوْ لَعَلَّ طُغْيانَ المناهجِ النَّقديَّةِ الحداثيَّةِ الَّتي عَنَتْ لها الجامِعاتُ أَسْكَتَ فيهِ رُوحَ البحثِ والتَّأليفِ، ما دامَتْ صُورَتُهُ عِنْدَ طائفةٍ مِنْ زُمَلائِهِ هي صورةَ الأستاذِ المُحافِظِ!

 

وأيًّا كانَ التَّعليلُ فإنَّ بُحُوثَهُ الَّتي أَخْرَجَها في كِتابَيْنِ أوْ ثلاثةٍ تُظْهِرُهُ أُستاذًا مِنْ طِرَازِ الأساتذةِ العُلماءِ، لا الأساتذةِ المُدَرِّسِينَ، وأَحْسَبُ أنَّ طُلَّابَهُ الَّذينَ اختلفُوا إلى دُرُوسِهِ يَعْرِفُونَ فيهِ الأستاذَ الْجليلَ، والعَلَّامةَ الكبيرَ، وما مِنْهُمْ إلَّا مَنْ قَبَسَ مِنْ عِلْمِهِ، وأفادَ مِنْ تنبيهاتِهِ ونصائحِهِ – وبخاصَّةٍ أولئكَ الَّذينَ أشرفَ عَلَى رسائلِهِمْ العاليةِ -.

 

رَحِمَ اللهُ أستاذي الدُّكتور محمَّد الهدلق، وجزاهُ عَنِ العِلْمِ وطُلَّابِهِ خَيْرَ الْجزاءِ.

 

الدُّكتور محمَّد الهَدلَق مُحاضِرًا في ندوة الوَفاء، وعن يساره الدُّكتور عبد الله العُرَيني





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى