المثالية والواقع العربي: الرهانات والآفاق
المثالية والواقع العربي: الرهانات والآفاق
هل يحتاج الواقع العربي إلى المثالية الأفلاطونية؟ أم يحتاج مثقفوه إلى دخول أكاديميته ليتلقوا مبادئ فلسفته المثالية؟ أم يكفي أن يتصفحوا المحاورات بين سقراط وغلوكون وسيفالس وبوليمارخس وسيمونديس وغيرهم من المحاورين في جمهوريته الفاضلة؛ حتى يكونوا على بيِّنة لا تخفى تفاصيلها؛ لأن كثيرًا منهم تناسى لأسباب ذاتية وموضوعية أمر الواقع العربي في كثير من بلداننا، فلم يكرِّس القلم ولم يعصر الفكر في سبيل توجيه الدفة التي ظلت معوجَّة عقودًا طويلةً تخلَّفت فيها منظومات متعددة، وحتى الذين مارسوا شيئًا من النقد في أعمالهم اختاروا الطرق الإبداعية؛ كالرواية والقصة والمسرح، فمارسوا سلطتهم المعرفية كمثقفين عضويين في مجتمعاتهم أداءً للرسالة الإنسانية التي يرمي إلى إيصالها الأدب المتين والفكر الرصين، سواء بلغة بارودية تنقل الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في لوحاته القاتمة، أو عبر لغة الكناية والاستعارة في إطار تضليلي يمارس نوعًا من التمويه على السلطة التي تمارس رقاباتها المعروفة، وهو ما يفسر لنا الضيق الذي يجده كثير من المبدعين والمفكرين وحتى الصحفيين من أرباب الأقلام العادلة والكاشفة للمخبوء في واقع تتغشَّاه البهمة في أغلب بلداننا العربية.
لقد مارس الشعر انزياحاته وشكَّل ترسانته اللغوية عبر بلاغة الغموض في الشعرية الحديثة ممارسًا لعبة الإرجاء والمراوغة، وخالقًا العلاقات التركيبية والدلالية من المتنافرات والمتضادات ليرسم لوحة الواقع العربي المسكون بهاجس الصراع مع كل شيء، وهو صراع أنطولوجي تبحث فيه الذات عن معنى لوجودها في واقع متردية معالمُه، وستسلك المنتجات النثرية نفس المسلك عند كثير من أدبائنا في نأي عن منطق البوح والكشف المباشر لما تجده من ممارسات تضييقية على الإبداع والفكر، وهو ما يفسر تضاؤل الكثير من الأعمال ووهنها وابتعادها عن واقع الأمة لتنكفئ على الذات المتهشمة التي تستشعر الخيبات والعطب في كل ناحية أو تعبر عن الواقع بنوع من الرمزية المكثفة الضاربة في التأويلات؛ لذلك فالإحساس بغياب النزوع المثالي كما جسدته الفلسفات منذ أفلاطون إلى عصر الأنوار من حيث البعد القيمي القائم على مفاهيم العدالة والمساواة والمدينة الفاضلة والإنسان ككينونة؛ لكن التحوُّل الذي بدأ يشهده المجتمع العربي في كنف التحوُّلات العالمية القيمية والحقوقية التي توَّجتها المناداة بشعارات دمقرطة الحياة وخطابات الحرية التي غدت تتردد في كثير من المنابر منحت ضوءًا أخضر للكاتب العربي في ممارسة طقوسه المفضلة؛ وهي الكشف والبوح عن العطب في جسد المجتمع العربي في بعده الإنساني والقومي، دون أن توقف الفعل الرقابي الذي ظل يمارس هوايته من بعيد ويتدخَّل بين الفينة والأخرى من أجل التنبيه وإن اقتضى الأمر اضطر إلى الردع بوسائله المتاحة وفق الإملاءات القانونية.
صحيح أن عددًا لا يُستهان به من المفكرين والدارسين والأدباء ظلوا شديدي الصلة بواقع مجتمعاتهم والخيوط المتشابكة التي تجمع المجتمعات العربية في نسيج واحد مع بعض الفروق البينة لأقطار أخذت بزمام التنمية مبكرًا ولم تعش نفس المؤثرات التاريخية في بقية المجتمعات التي ظلت تئنُّ من شدة الفقر والهشاشة، وتعاني تردي القيم بسبب انتشار الأمية في أوساط أبنائها بدرجات كبيرة؛ لكن هذا لا يعني أن المثقف العربي في المجتمعات الناهضة ظل بمنأى عن واقعه فلا بد أن هناك ثغرات وفجوات كانت تنفذ منها اعتلالات عديدة في مستويات متباينة؛ لذلك ظل المثقف العربي قريبًا من هذه الصور، يكشفها بطرقه الفنية، ويبين المفكر تمفصلاتها في إطارات فلسفية تُوجِّهه حسب القناعات التي يؤسسها مشروعه الفكري، لكن يبقى السؤال الكبير الذي يفرض نفسه في هذا السياق الثقافي والفكري وهو: هل تمكن المثقف العربي من تحقيق حلمه في الوصول إلى العالم المثالي بالفهم الأفلاطوني؟ أليس من المفروض أن يتحول المثقف العربي إلى أفلاطون جديد يحمل على عاتقه مشروع التغيير المجتمعي والسياسي والفكري للمجتمع العربي؟
إن المتأمل فيما أنشأته الثقافة العربية الحديثة وهي تستلهم المفاهيم الحداثية الغربية وتتغذَّى بالطروحات الفلسفية ذات المشارب المختلفة، سيجد أن المشروع الثقافي العربي ظل محاصرًا رغم محاولات انفلاته بين الفينة والأخرى، فالمركزيات الثقافية سواء الغربية أو الشرقية التي تعود إلى عصر الترجمة زمن العباسيين، لعبت دورها الكبير في تشكيل أجزاء مهمة من الثقافة العربية؛ لكنها لم تستطع أن تبني واقعًا عربيًّا قويمًا بالقدر الذي ظلت تنظر له وتشبعه وتغرقه بفلسفاتها ورؤاها وتصوُّراتها الأنطولوجية أملًا في تحقيق المتغير الجديد الذي ينشده المثقف بسبب الصراع القوي الذي وجده هذا الأخير أمام تيارات سلطوية يمثلها المثقف التقليدي، وتمثلها السلطة بمؤسساتها وأجهزتها الرقابية في غالب المجتمعات العربية؛ مما جعل المبدع يظل متنقلًا بين توجُّهات مدرسية متعددة؛ كالكلاسيكية في مهادها الأول، والرومانتيكية المتغنية بالذات حينما أحَسَّ المثقف أن ممارسات من قبله لم تُجْدِ نَفْعًا ولم تحقق المطلوب، وكان الانعراج إلى نماذج إبداعية متشظية وموغلة في الغموض تعبر عن طبيعة الواقع المتهشم، وتعكس الشروخ في مراياه، ونفس الاتجاه سيسلكه الفكر العربي عبر تعرية واقع العقل العربي وبنيته ونبش الذاكرة التاريخية لمعرفة كيفية تكوينه في محاولة لإعادة صياغة عقل عربي جديد يساير خطاب التحديث ويستفيد من التراث العربي حينما كان العقل العربي على قدر هائل من الإبداعية في مجالات فلسفية وعلمية وأدبية أدهشت العالم.
ومن هنا فإن حلم المثقف العربي بالمدينة الفاضلة يتبخَّر في سباسب المجهول، ويظل النزوع الأفلاطوني الطوباوي كائنًا في الفكر والمنتج الإبداعي العربي في انتظار تحقيق انتصار المعرفة في المجتمع التي تجد جدران صد منيعة تمارسها العولمة الجارفة بحمولاتها الثقافية وزخمها الرقمي وتؤازرها بلا وعي الإيديولوجيات المحبوكة والمتحكمة في الواقع العربي، ليجد المثقف العربي نفسه بين مطرقة وسندان في محاولة للبحث عن الخلاص والتخليص باعتباره القادر على رسم خطوات التغيير في واقع عربي لا يزال محتاجًا إلى مزيد من الوعي الجمعي الذي لا يقدر على بلورته غير المثقف ليدفع برَكْب التنمية نحو الأمام، ويجعل المثالية الأفلاطونية واقعًا ترتع فيه البشرية في مروج العدالة والسعادة وتسند فيها المهام لأصحاب الحكمة وأرباب المعرفة.