Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

محمود شاكر (شيخ العربية) (2)


محمود شاكر (شيخ العربية) (2)

 

منهج التذوق عنده:

بدأ محمود شاكر بإعادة قراءة ما وقع تحت يده من الشعر العربي، قراءةً تختلف عن الأولى في أنها متأنية تتوقف عند كل لفظ ومعنى محاولًا الوصول إلى ما قد يكون أخفاه الشاعر في ألفاظه بفنِّه وبراعته، وهذا هو أساس منهج التذوق الذي جعله منهجًا شاملًا يطبقه على كل الكلام شعرًا كان أو غيره، فأقدم على قراءة كل ما يقع تحت يده من كتب أسلافنا: من تفسير لكتاب الله، إلى علوم القرآن، إلى دواوين الحديث، إلى ما تفرع منها من كتب مصطلح الحديث، والجرح والتعديل، وغيرها من كتب أصول الفقه وأصول الدين، وكتب المِلَل والنِّحَل، ثم كتب البلاغة والنحو والتاريخ؛ بحيث يكون اتجاهه من الأقدم. ومع تطبيقه لأسلوب التذوق كان يقرأ كل التراث على أنه إبانة عن خبايا كاتبه. يقول: “وشيئًا فشيئًا انفتح لي الباب على مصراعيه؛ فرأيت عجبًا من العجب، وعثرت يومئذٍ على فيض غزير من مساجلات صامتة خفية كالهمس، ومساجلات ناطقة جهيرة الصوت، غير أن جميعها إبانة صادقة عن الأنفس والعقول.

 

يقول شاكر: “……وببديهة العقل لم يكن من عملي، ولا من عمل أي كاتب مبين عن نفسه، أن يبدأ أول كل شيء فيفيض في شرح منهجه في القراءة والكتابة ثم يكتب بعد ذلك ما يكتب ليقول للناس ها هو منهجي، وها أنا قد طبقته، هذا سخف مريض غير معقول، بل عكسه هو الصحيح المعقول، وهو أن يكتب الكاتب مُطبِّقًا منهجه، وعلى القارئ والناقد أن يستشف المنهج ويتبينه، محاولًا استقصاء وجـوهـه الظاهرة والخفية، مما يجده مطبقًا فيما كتب الكاتب”.

 

أعماله:

يعد شاكر على رأس قائمة مُحقِّقي التراث العربي، وأطلق عليه العقاد المحقق الفنان، وإنجازاته في هذا المجال كثيرة، وهي عنوان على الدقة والإتقان، ومن أشهر الكتب التي حقَّقها: تفسير الطبري (ستة عشر جزءًا)، طبقات فحول الشعراء (مجلدان)، تهذيب الآثار للطبري (ستة مجلدات).

 

وشاكر لا يحب أن يُوصَف بأنه مُحقِّق لنصوص التراث العربي، وإنما يحب أن يُوصَف بأنه قارئ وشارح لها، وهو يكتب على أغلفة الكتب التي يقوم بتحقيقها عبارة: “قرأه وعلَّق عليه”.

 

وفق كتب التحقيق فإن له مؤلفات وإن لم تكن كثيرة لكنها عميقة وذات تأثير كبير في الأوساط الأدبية لفترة طويلة، منها: المتنبي، أباطيل وأسمار، القوس العذراء، نمط صعب ونمط مخيف، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، مدخل إعجاز القرآن، الأحرف السبعة…

 

حدَّة محمود شاكر:

كل من اقترب من محمود شاكر عرَف فيه اندفاعة ملحوظة لا تخطؤها عين.

 

نقل حسين أحمد أمين عن حوار بينه وبين صاحب دار وهبة للنشر حينما كان الأول بصدد شراء نسخة من كتاب فحول الشعراء تحقيق محمود شاكر، يقول حسين أحمد أمين: وإذ دخلت مع وهبة في حديث عبرت خلاله عن إعجابي بشاكر كمُحقِّق، سألني عما إذا كنت أعرف الرجل شخصيًّا، فأجبت بالنفي. فإذا به يتمتم وهو يبتسم: “أن تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه”.

 

وسألته مندهشًا: كيف؟ أتعرفه شخصيًّا؟

قضينـا فتـرة في السجن في زنـزانـة واحـدة خلال حكم جمـال عبدالناصر، وكنت شديد الإعجاب به قبلها، فلما عاشرته إذا هو أثقل النـاس وطأة، وأقلهم أدبًا ومراعاة لمشـاعـر الآخرين. كنت على استعداد بسبب تقديري العظيم له لأن أكون خادمه في الزنزانة. غير أنه تقَبَّل خدمتي له كأمر طبيعي، وعاملني معاملة الخادم الأجير.

 

أي نوع من الشخصيات هو؟

 

فظ، فظ، فظ! وفي ظني أن مفتاح شخصيتـه يكمن في إحسـاسـه العميق بالفشل رغم ثقافته الأصيلة، ومواهبه الجمة، وشعوره بأن حياتـه قد ضاعت سُدًى …..”

 

ويحكي حسين أحمد أمين في لقاء جمعه بمحمود شاكر وكيف كان شاكر صُلْبًا وحادًّا لأبعد الحدود. تعالَ نسمع ما حكاه حسين أحمد أمين:

“وصلنا إلى الشقة ففتح لنا بابها شاب دمیم، شدید الأُدْمة، يرتدي جلبابًا، حسبته الخادم، حتى حيَّاه محمد المعلم تحيةً حارةً وناداه باسمه “فهر”، فأدركت أنه ابنُ رَبِّ الدار. ودلفنا مباشرةً إلى الصالة، فإذا بمحمود شاكر وأم فهر وابنته وزوج ابنته وقد اجتمعوا حول جهاز التليفزيون يتابعون إحدى حلقات تمثيلية مسلسلة. وقد كانت صدمة لي أن أرى هذا العملاق المخيف جالسًا أمـام التليفزيون يضيع وقته بمراقبة تمثيلية غثة. غير أنه ترك مقعده أمام الجهاز عن طيب خاطر، واصطحبنا إلى صالون صغير ملحق بالصالة. وإذا اعتذرنا له عن قدومنا في وقت غير مناسب ودعوناه إلى إكمال مشاهدة التمثيلية، تظاهَرَ ضاحكًا بعدم المبالاة بتفاهات التليفزيون. هنَّأه المعلم بجائزة الملك فيصل، وكان واضح السرور بها. وعندما عَرَّفته بنفسي لم ألحظ في وجهه أي رد فعل، فأيقنت أنه لم يقرأ شيئًا من كتاباتي، كما رجحت بسبب فتور ترحيبه بي أنه لم يكن على علاقة طيبة بأبي. ثم بدأنا نتحدث عن الجائزة، فقال شاكر في مرارة: إنه رغم أهميتها العظمى، ورغم أنه شرف عظيم لمصر أن تُعطى الجائزة لأحد أبنائها، لم تتحدَّث أيٌّ من الصحف أو المجلات المصرية ولو في سطر واحـد عن فوزه بها، وهو ما ارتأه دليلًا قاطعًا على أن ثمة مؤامرةً ضده. غير أن محمد المعلم نفى أن يكون الإغفال مقصودًا، ونسبه إلى قصور من صحافتنا في تغطية الأخبار. ثم قال: سأتصل الليلة بأحمد بهجت في الأهرام، وأطلب منه أن يكتب مقالًا في الموضوع في الصفحة الأدبية. قالها بلهجة الواثق من أن أحمد بهجت لا بد ممتثل للأمر، وكأنه موظف عنده في “دار الشروق”، غير أن هذا لم يكن مفاجأة لي.

 

فقال شاكر: هيهات يا سيدي، هيهات! أليس كافة موظفي الأهرام من تلاميذ حسنين هيكل، ذلك الذَّنَب الأكبر للاستعمار الغربي؟ وعلى أي حال فإن رسالة الأهرام هي هي لم تتغيَّر منذ كان يرأس تحريرها تقلا الذي بصق في وجه أحمد عرابي. هي عملية الاستعمار منذ عهد تقلا إلى عهد إبراهيم نافع. ثم شرع يتحدث عن كيف أن لويس عوض، بعـد صـدور “أبـاطـيـل وأسمار”، شعر بأن من واجبه إزاء فداحة الاتهامات التي وجَّهَهـا شـاكـر إليه، وعجزه عن الرد عليها، أن يتقدم باستقالته من الأهرام إلى حسنين هيكل، غير أن هيكل رفض قبولها، وأصرَّ على أن يـواصـل لـويس عمله وكتـابـاتـه في الصحيفة. ثم قال مُوجِّهًا الحديث إلى المعلم: أتحسب أن أحدًا من زملائي الأفاضل أعضاء المجمع اللغوي خطر في ذهنه أن يهنئني على فوزي بالجائزة؟ لا يا سيدي، بل إن منهم من بلغت به القحة حد الاستهزاء أمامي بقيمتها الأدبية. غير أني لم أعبأ بالرد أو المعاتبة؛ إذ ماذا عساي أن أتوقَّع من أناس كهؤلاء؟

 

ولاحظ المعلم أن شاكرًا لم يوجه إليَّ كلمة منذ أن استقر بنا المجلس، ولا يكاد يلتفت إليَّ بوجهه في أثناء حديثه، فحسب أنه لم يسمع اسمي واضحًا حين عَرَّفته بنفسي. فانبرى يقول: الأستاذ حسين أمين هو ابن أستاذنا المرحوم أحمد أمين. قال شاكر: أعرف ذلك. وقد نشرنا له مؤخرًا كتابًا بعنوان “دليل المسلم الحزين”، أحرز نجاحًا عظيمًا. سأرسل إلى سيادتك في الصباح نسخة منه. فإذا بمحمود شاكر يشير بذراعه إلى الباب المفتوح لغرفة مكتبه (إشـارة إلى أن الكتاب موجود بها)، ويتمتم قائلًا: قرأتُه!

 

قلت في دهشة: قرأت سيادتك “دليل المسلم الحزين”؟

 

أيوه يا سيدي!

 

وما رأيك فيه؟

 

فوت! (أي لا داعي للحديث عنه).

 

اسمح لي بأن أصر على سماع رأيك مهما كان.

 

اعتدل في مجلسه ليواجهني، ثم قال: أتحسبني غافلًا يا سيد حسين عما تفعله؟ أتحسبني غافلًا عن نوايـاك وخططك من وراء مقالاتك في “المصور” أو كتابك هذا؟ لا يا سيد حسين! لا أنا بالغافل ولا أنا بالأبْلَه حتى أسميـك كما أسماك عبدالعظيم أنيس منذ أسبوع في “الأهالي” بالكاتب الإسلامي المستنير. ما معنى “الإسلام المستنير” بالله عليك؟ أهناك إسلام مستنير وإسلام غير مستنير، أم أن الإسلام كله نور ومن لم يستنر به لا يجوز وصفه بأنه مسلم؟ الكاتب الإسلامي المستنير حسين أمين! محمد عمارة! فهمي هويدي! حسن حنفي! دعني أقول لك: إن كل ما تكتبونه هو عبث أطفال. نعم، مجرد لعب عيال! كلكم أطفال. يقرأ أحـدكم كتابين أو ثلاثة فيحسب نفسه مجتهدًا ومؤهلًا للكتابة عن الإسلام والإصلاح والاستنارة! محمد عمارة هذا تبلغ به الصفاقة والادِّعـاء والجهل مبلغًا يجعله يصف كتاب محمد عبده “رسالة التوحيد”، بأنه من أهم ما كتب في التراث الإسلامي في علم الكلام! لا يا شيخ؟! هل قرأت يا سيد عمارة كـل ما كتب في التراث الإسلامي في علم الكلام، ثم وصلت إلى اقتناع بأن هـذا الكتاب الهزيـل الحقيـر الغـث لمؤلفه ضحـل الثقافة، من أهم الكتب في الموضوع؟! ما هذا العبث وهذا الاستغلال لجهل الناس؟! لا . . الأمر أخطر من ذلك. إنها مؤامرة!

 

مؤامرة؟!

 

مؤامرة تستهدف تمجيد رجلين من أخطر عملاء الاستعمار في تاريخ أمة الإسلام: جمال الدين الأفغاني الماسوني، ومحمد عبده الصديق الصدوق لكرومر. ودخلت زوجته السمينة، بعد انتهاء التمثيلية، تدور علينا بأكواب الشاي. فرشف شاكر من كوبه رشفةً بصوت هائل، ثم عاد يتمتم: نعم، تبدو مندهشًا! غير أني قائل لك إن المسؤولية عن معـظم ما يعاني منه الإسلام اليوم تقع على عاتق هذين الخبيثين، خاصة الأفغاني الذي هو أُسُّ الفساد كله. وقد تعجبـان إن قلت لكما إنني متفق مع لويس عوض في الرأي بأن الأفغاني كان مجرد متآمر، وأنه لم يكن صحيح الإسلام.

 

وعلى أي حال فإن رأي لويس ليس جديدًا، وكل هذه الأمور كانت معروفة عن الأفغاني حتى أثناء حياته. وبدا محمد المعلم نفسه مذهولًا، رغم صلته الوثيقة القديمة بشاكر. فكان أن خيم علينا الوجوم، وساد المجلس سكون لم يقطعه غير صوت احتساء ربِّ الدار لشايه وقد بدا غير عابئ بما أصابنا.

 

ألف حسرة على العالم الإسلامي وأمة الإسلام! جهل مطبق بالفكر الإسلامي وبالتاريخ الإسلامي. تدهور رهيب في اللغة العربية، نظم التعليم في مدارسنا غربية محضة. حتى الجماعات المسماة بالإسلامية قد ألقت بتراث أربعة عشر قرنًا في صندوق القمامة. نعم، ولكنهم ينبرون للتهليل لإسلام جارودي وكأنه حدث هام في تاريخ الإسلام، وذلك لمجرد أن هذا الأفَّاق الانتهازي نطق أمامهم بالشهادتين وأثنى على الإسلام في كتب له كلها أخـطاء وكفر ومغالطات. وبعضهم يهلل للخميني والثورة الإيرانية والاثنـا عشرية، وما منهم من يدري أن الاثنا عشرية هم غلاة الشيعة لا معتدلوها كما يزعمون، وأن الخميني كافر زنديق.

 

کافر زندیق؟!

 

بالتأكيد. ألم يقل بتحريف القرآن وتزنية عائشة؟

 

قلت: إزاء فرحة اتهامك للأفغاني ومحمـد عبـده، سـأكـون شـاكـرًا لو فصَّلت لنا الأمر.

 

وسأكون أنا شاكرًا لو غيَّرت الموضوع.

 

وهو كذلك. هل لي أن أسألك سؤالًا يحيرني منذ مدة؟

 

قل.

 

ما السبب يا تُرى في قلة إنتاجك مع غزارة علمك؟

 

امتقع وجهه امتقاعًا شديدًا لسؤالي، وخُيِّل إليَّ لأول وهلة أنه في سبيل أن يسبني سبًّا غليظًا. غير أنه سرعان ما تمالك نفسه وقال في هدوء: لماذا توقفت عن الكتابة بعد صدور كتابي عن المتنبي؟ أقول لك بكل بساطة يا سيد حسين: إنني خشيت على نفسي من أن يصيبني الغرور، لقد كتبت المتنبي، في أيام الحداثة، ووصلني بعد صدوره أكثر من ثمانين رسالة تثني عليه وترفعه إلى السماء. وظللت مدة لا تكاد الدنيا تسعني من النشوة والزهو، إلى أن أفقت لنفسي، أفقت لنفسي وقررت التوقف عن الكتابة. بالضبط كما فعل الشاعر على محمود طه ولنفس السبب . . . الكتابة لا تهمني وإنما تهمني نفسي وتقويم ذاتي. وكان أن انصرفت إلى تحقيق الكتب القديمة وبذلت كل جهدي وطاقتي في أن يكون التحقيق غاية في الدقة والإتقان.

 

غير أنك توقفت عن إكمال تحقيقك لتفسير الطبري.

 

قال في ضيق وهو يتململ في مقعده: نعم؛ لأن الناشرين معظمهم لصوص. لا تؤاخذني يا محمـد بك! ولأن الناس لم تعد تقرأ. فإن قرأوا فليست الكتب الجادة هي التي يقرأونها، وإنما يقرءون لأنيس منصور، ومحمود السعدني، ومحمد عمارة.

 

قلت: وحسين أمين.

 

فرَدَّ: وحسين أمين!

 

هل لي أن أسألك عن علاقتك بوالدي كيف كانت؟

 

ابتسم ابتسامة خبيثة ثم قال: فوت!

 

لا يا أستاذ شاكر لن أفوت!

 

لم أكن أحبه. لحظة صمت.

 

ولمَ؟

 

ما كل هذه الأسئلة المحرجة؟ تريد أن تعرف لماذا لم أكن أحبه؟ حسنًا. لم أكن أحبه لأنه كان رجلًا خبيثًا داهية.

 

لم يكن ثمة رجل أطيب قلبًا ولا أبسط من أبي.

 

وانفجر شاكر ضاحكًا. ولدهشتي البالغة إذا بمحمـد المعلم هو أيضـًا يشاركه الضحك لقولي: إن أبي كان طيب القلب. قال المعلم: لا تؤاخذني يا حسين بك، ولكن المرحوم أحمد أمين لم يكن طيب القلب على الإطلاق، ولا كان رجلًا بسيطًا.

 

كيف؟ كيف؟

 

قال شاكر: لن نخوض في هذا الأمر. عبد الوهاب عـزام، على عيوبه، كان رجلًا طيبًا بسيطًا، أما أحمد أمين فلا. ولكنه على أي الأحوال لم يكن في خبث طه حسين ودهائه ومكره. غير أن ما أعيبـه حقيقة على أحمـد أمين هو أنـه وهو الرجل العالم المثقف الذي كان بوسعه أن يقدم فكرًا جديدًا مبتكرًا في ميدان الدراسات الإسلامية، والذي يجبُّ علمـه علـم كـافـة المستشرقين، استسلم وأذعن لتأثير طه حسين وآرائه، ووقف مـوقـفـًا ذليـلًا من أحكـام المستشرقين الخبثاء الحاقدين على الإسلام، وتبنَّى في كتبه: فجـر الإسـلام، وضُحاه، وظُهْره هذه الأحكام، دون أن يجرؤ على تفنيدهـا والتصدي لها… ما هذا الذل، وهذه الاستكانة، وهذا الضعف، سواء منك أو من أبيك، تجـاه المستشرقين الغربيين؟ أهم أدرى بتراثنا وأقدر على إصدار الأحكام بصدده من علمائنا نحن الذين نهلوا من هذا التراث مع لبن أمهاتهم ونشأوا عليه منذ نعومة أظفارهم؟! كيف يكون من حق “خواجة” بدأ في تعلم العربية في سن العشرين أو الثلاثين، ويظل “يتهته” بها إلى أن يموت، أن يُدلي برأي في المُعلَّقات السبع، وأن يصدر حكمًا على المتنبي أو أبي العلاء؟! كيف تسوغ لمسيحي صليبي نفسه أن يتحدث عن الأشاعرة أو المعتزلة حديث الواثق المطمئن لمجرد أنه قرأ كتابين أو ثلاثة في الموضوع؟! أيجوز لي، وأنا العربي، مهما بلغ إتقاني للغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي أن أؤلف كتابًا عن تشوسر شبيهًا بذلك الذي كتبه بلاشير الفرنسي عن المتنبي؟ هل أسمح لنفسي، وأنا المسلم، أن تبلغ بها الصفاقة والغـرور حد الكتابة عن دقائق الاختلاف بين المذاهب المسيحية؟ كيف يمكن لعالم إسلامي فذ كأحمد أمين أن يقع في فخِّ هؤلاء الصليبيين؟! الأمر في حالة طه حسين أيسر فهمًا؛ فهو لم يقع في الفخ، وإنما قرر باختياره الحر أن يشارك الصليبيين في نصب الأفخاخ لبني قومه ودينه. أما أحمد أمين، بالرغم من ذكائه وعلمه وصدق إسلامه، فقد وقع “زي الشاطر” في حبـائل الشيطان.

 

ثم استطرد يقول: كلمني هذا الصباح المدعو مارسدن جونز الأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، يريد أن يجتمع بي. رفضت، وقلت له: إنني لا أريد أن أجتمع به. أتسمع عن مارسدن جونز هذا؟

 

محقق كتاب المغازي للواقدي.

 

آه! حتى أنت قد صدقت هذه الأكذوبة كسائر الناس. مارسدن جونز لم يحقق مغازي الواقدي ولا بذل فيه إلا أضعف الجهد. وهذا هو السبب في أني رفضت مقابلته. فقد حدث يومًا أن جاءني رجل مصري “غلبان” اسمه عبدالفتاح الحلو، وأخبرني أنه هو الذي حقَّق كتاب المغازي من أوَّلِه إلى آخره بناء على تكليف من مارسدن جونز ومقابل بضعة جنيهات كان في حاجة ماسة إليها، ولم يظهر اسمه على الغلاف لا باعتباره محققًا ولا حتى باعتباره مشتركًا في التحقيق، واكتفى جونز بالإشارة إليه في المقدمة باعتباره أحد الذين قدموا له العون أثناء تحقيقه للكتاب! هذا مجرد مثل لأخلاقيات هؤلاء المستشرقين الذين تغنَّى والدُك بفضلهم!

 

وما الذي مال بك إلى تصديق زعم عبدالفتاح الحلو دون تصديق زعم مارسدن جونز أنه محقق الكتاب؟

 

قال شاكر – في ضيق وهو يتململ في كرسيه مؤذنًا بانتهاء الجلسة: الذي مال بي إلى تصديق زعم الحلو يا سيد حسين هـو مـعـرفتي بأخلاقيات المستشرقين: بالمر، جيب، ماسينيون، مـرجـوليـوث، شاخت، كلهم خنازير استعماريون. وإني لأرد على كل عربي يتحدث عن فضل هؤلاء سواء في تعليمنا المنهج العلمي في تحقيق التراث أو في كتابة التاريخ أو غير ذلك، بأن المسلمين هم الذين خرجوا على الدنيا في عصرهم الذهبي بالمنهج العلمي في التأليف، وهم الذين ابتدعوا وضع الفهارس للكتب لا الغربيون كما يدعون. لقد وضعت بنفسي فهارس كتاب المقريزي “إمتاع الأسماع”، الذي حققته، فوصلتني رسالة من مستشرق فرنسي شهير يبدي فيها انبهاره بروعة هذه الفهارس، ويقول: إنه ليس بوسع أي غربي أن يأتي بمثلها. فالمسألة إذن ليست مسألة فضـل، وإنما هي تتعلق بخيبـة المسلمين المحدثين حيـال تراثهم. كل الأمور معنا تسير من سيئ إلى أسوأ؛ في الثقافة، والسياسة، والاقتصاد، والأخلاق….. والله سبحانه وتعالى إنما يعاقبنا على ما نرتكب وما نهمل، وهو على كل شيء قدير. وتحرك في مقعـده حـركـة من يهمُّ بـالـوقـوف، فنهضنا على الفـور للانصراف.

 

بدري يا جماعة!

 

وكرَّر محمد المعلم عند باب الشقة وعده بأن يتصل بأحمد بهجت حتى يكتب عن الجائزة.

 

قال شاكر: لا تتعب نفسك… لن ينشروا شيئًا. إنها مؤامرة يا صديقي، وعزم قاطع من جانب السلطة على ألا يذكر اسم العبد الفقير في الصحف والمجلات لا بخير ولا بشَرٍّ حتى ينسى الناس وجودي. لا بأس.. لا بأس… شرفتم… خطوة عزيزة.

 

وعاد المعلم يهنئه بالجائزة، غير أني حين حاولت أن أحذو حذوه لم يطاوعني لساني”.

 

وواضح تحامل حسين أحمد أمين على شاكر؛ من قبيل “أن عين السخط تبدي المساويا”، وإلا فما تفسيرك من أقواله التي تناثرت في وصف الموقف: “ففتح لنا بابها شاب دمیم، شدید الأُدْمة …. حسبته خادمًا ….. أرى هذا العملاق المخيف جالسًا أمـام التليفزيون يضيع وقته بمراقبة تمثيلية غثة…… ودخلت زوجته السمينة، بعد انتهاء التمثيلية، تدور علينا بأكواب الشاي. فرشف شاكر من كوبه رشفةً بصوت هائل …. وخيِّل إليَّ لأول وهلة أنه في سبيل أن يسبني سبًّا غليظًا، غير أنه سرعان ما تمالك نفسه وقال في هدوء…”.

 

وهي سقطات تبدي عدم موضوعية حسين، وأنه وقع في حبائل التحيز الذي هو مقتلة للباحث المدقق، ألم يكن في غنى من ذكر “فهر” بأنه حسبه خادمًا لأنه دميم، وألم يكن في غنى عن وصف زوجة شاكر بأنها سمينة، بتكراره الوصف في مرتين، ثم ما الذي نستفيده من هذا السرد من أن شاكر كان يشرب الشاي بصوت هائل، غير التعريض بجلافة الرجل، ثم ما أدراه أنه كان يشاهد تمثيلية، فضلًا عن أنها غثة، وهل باتت مشاهدة التليفزيون مضيعة للوقت، وأليس له الحق في الترفيه مع أسرته بما يراه ما دام لا يتعارض مع عُرْف أو دين؟! وكيف عرف أن الرجل في طريقه إلى أن يسبه؛ حينما سأله عن سبب قلة إنتاجه؟!

 

غير أنه في الأحوال جميعها نتفق مع حسين أمين بأن شاكرًا كان مندفعًا، حاد المزاج، ويمكن ربط ذلك بما سيأتي في حديثنا عن نفسه الثائرة.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى