غزوة بني المصطلق وأحداثها
غزوة بني المصطلق وأحداثها
كانت في شعبان سنة ست للهجرة، فقد وصلت الأخبار للنبي صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق تجمعوا بقيادة الحارث بن أبي ضرار، فلما سمع بهم خرج بجيشه ليقاتلهم، فلقيهم على ماء المريسيع عند قديد، فاقتتلوا، فانهزم بنو المصطلق تاركين وراءهم عددًا من القتلى والمصابين، وغنم المسلمون أموالًا وسبايا كثيرة، فقسمها بين أصحابه وفيهم جويرية بنت الحارث، فوقعت في سهم – من نصيب – ثابت بن قيس، فكاتبته على مبلغ من المال، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستعين به على سداد مكاتبتها، فقال لها: ((هل لكِ في خير من ذلك؟)) قالت: وما هو؟ قال: ((أقضي مكاتبتك وأتزوجك))، قالت: نعم يا رسول الله، ففعل، وسمع الناس الخبر فقالوا: أصهار رسول الله، فأعتقوا أكثر من مائة بيت من أهل بني المصطلق، فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها منها.
• قُتل من المسلمين هشام بن صبابة، قتله خطأ رجل من الأنصار من الخزرج وهو يظنه من العدو.
• حدث خلاف على الماء والناس يستقون بين جهجاه خادم عمر بن الخطاب وهو من غفار، وبين سنان الجهني حليف الخزرج، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبدالله بن أبيٍّ ابنُ سلول، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم – غلام حديث السن – فقال: أقد فعلوها! كاثرونا في بلادنا! أما والله ﴿ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: 8]، ثم قال لمن حضره من قومه: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم ببلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، ونقلها زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب، فقال عمر: يا رسول الله، مُرْ عباد بن بشر فليقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كيف إذا تحدَّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟!))، ولكن أذِّنْ بالرحيل، فارتحل الناس في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فقال أسيد بن حضير: يا رسول الله، رحت في ساعة لم تكن تروح فيها، فقال: ((أوما بلغك ما قال عبدالله بن أبي؟))، قال: وماذا قال؟ قال: ((زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل))، قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت؛ فإنك العزيز وهو الذليل، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به؛ فوالله لقد منَّ الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه يرى أنك قد استلبته ملكًا، وأتى ابن سلولَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحلف: إنني ما قلت هذا ولا تكلمت به، فقال الجالسون: لعل الغلام أخطأ في النقل ولاموه، فأنزل الله: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 1 – 8]، فلما نزلت بعث رسول الله إلى زيد بن أرقم فقال: ((إن الله قد أنزل عذرَك وصدقك))، وفي رواية أنه لما حلف ابن سلول أنه ما قال الذي نقل عنه، كذَّب الناس زيد بن أرقم، فنام مهتمًّا، قال: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي الخلد بها في الدنيا، فلحقني أبو بكر وقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: ما قال شيئًا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال: أبشِرْ، وكذلك فعل عمر، وجاء ولده عبدُالله بنُ عبدِالله بنِ أبيٍّ – وهو مسلم نقي تقي – بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله العزيز، ففعل، وروي أنه قال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فوالذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له، ولئن شئت آتيك برأسه لأتيتك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي يمشي في الناس؛ فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل نترفَّق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا))، فكان بعد ذلك إذا أحدث أمرًا عاتبه قومه وعنفوه وتوعدوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ((كيف ترى ذلك يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته))، فقال عمر: أمر رسول الله أعظم بركةً مِن أمري.
• حضر مقيس بن صبابة إلى المدينة على أنه مسلم وطالب بدية أخيه هشام الذي قتل خطأ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ديَة أخيه، ثم أقام فترة في المدينة فعدا على قاتل أخيه فقتله، ثم هرب إلى مكة مرتدًّا.
• وفي غزوة بني المصطلق كان حديث الإفك، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة بني المصطلق ونادوا بالرحيل، وكانت عائشة في صحبته، خرجت ليلًا لقضاء حاجتها، ثم عادت وتجهزت للرحيل وقبل أن تركب الهودج فقدت عِقدها في المكان الذي كانت فيه، فأسرعت إلى ذلك المكان تبحث عنه، فلما وجدته عادت فإذا بالناس قد رحلوا، وظن الموكل بالهودج أنها داخله، وقاد مع الناس، فلما حصل ما حصل مكثت في مكانها وتلفعت بمرطها تنتظر أن يطلبوها عندما يفتقدونها، وكان صفوان بن المعطل مكلفًا بمسح المكان وتفقده، فرآها، فقدم بعيره بعد أن استرجع وقال: اركبي، فركبت، فساق بها إلى أن أدرك الجيش، ولما رآه المنافقون أشاعوا الفاحشة، وأوَّلوا هذا التأخير إلى الوقوع بها وبصفوان، وتصاعد الكلام حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر، وحدث أن توعكت عائشة وألم بها المرض وارتفعت درجة حرارتها، وشعرت بجفوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أمها تمرِّضها، وإذا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أمها: ((كيف تيكم؟))، لا يزيد على ذلك، فلما رأت هذه الجفوة – وهي لا تزال لم تسمع بما رماها به المنافقون ومَن ضعف إيمانه وشك في بيت النبوة – طلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن تمرض في بيت أمها، فأذن لها، وما نقهت من مرضها إلا بعد أكثر من عشرين ليلة، ثم تسرب لها الخبر، عن طريق أم مسطح، فقد خرجت معها ليلًا لقضاء حاجتها، فعثرت أم مسطح بمرطها، فقالت: تعس مسطح، فقالت عائشة: لعمر الله بئس ما قلت لرجل من المهاجرين شهد بدرًا، قالت: أوما بلغك الخبر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتها بما يدور في المدينة، فعادت إلى منزلها وهي تبكي، وقالت لأمها: تحدث الناس بما تحدثوا ولا تذكرين لي من ذلك شيئًا؟ فهدَّأت أمها مما أصابها وقالت لها: أي بنية، خفضي عليك، فوالله قل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها، ولما مضت هذه المدة والناس في أخذ ورد، كلما خفت الكلام حركه المنافقون، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن غير الحق، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت عليه إلا خيرًا، وما دخل بيتًا من بيوتي إلا معي؟!)) – يقصد به صفوان بن المعطل – وكان الذي يحرك الفتنة ابن سلولَ مع مسطح وحمنة بنت جحش أخت زينب من باب كيد الضرائر وهي تنتصر لأختها دون رضا زينب بهذا، وتحرك المخلصون من الصحابة، فقال أسيد بن الحضير: يا رسول الله، إن كانوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك، فقال سعد بن عبادة: والله ما قلت هذه المقالة إلا وقد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا، وكاد الشر يقع، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فقال خيرًا، وأما علي فقال: النساء كثير وسل الخادم تصدقك، فدعا بريرة فقال: اصدقيني القول، فقالت: خيرًا، وما أعيب عليها إلا أنها كانت تنام من عجينها فيأتي الداجن فيأكله، فهي على هذا غاية في الطيبة والعفاف، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فإن كنت قارفت سوءًا فتوبي إلى الله))، فقالت لأبويها: ألا تجيبانه؟ فقالا: والله ما ندري بماذا نجيب! فاستعبرت، ثم قالت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدًا، والله لئن أقررت – والله يعلم أني بريئة – لتصدقُني، ولئن أنكرت لا تصدقني، ولكني أقول كما قال أبو يوسف – نسيت اسمه وهو يعقوب: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، ولهذا الموقف الرهيب الذي خيم على بيت النبوة وعلى بيت أبي بكر، وإنه والله لساعة شديدة، ولمصيبة وقعها على النفس أليم – كان لا بد من تدخل الوحي ليزيل هذه الغمة بالنبأ اليقين، فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه حتى أتاه الوحي، وإن أبا بكر لفي فرق كبير خشية أن يصدق كلام الناس، فلما سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليتحدر عنه مثل الجمان، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: ((أبشري يا عائشة؛ فقد أنزل الله براءتك))، فقلت: بحمد الله، ثم خرج إلى الناس فخطبهم وذكر لهم ما أنزل الله فيَّ من القُرْآن، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم، وأنزل الله في ذلك: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 11 – 17]، وبهذه الآيات الكريمة برَّأ الله بيت النبوة مما أراد المنافقون أن يرموه به، وخرج المسلمون وهم أكثر قوة وإيمانًا.
وصايا مستخلصة من هذه الآيات
إن أهمية الوصايا تكمن في أهمية سبب النزول، إن هذا الحدث الذي اهتزت له المدينة والذي يتعلق مباشرة ببيت النبوة قد وجه الأنظار إلى أمر خطير إذا استشرى في المجتمع دمره وشل قواه، وبانتشاره يصبح المسلمون غرضًا سهلًا لأعدائهم، وكما ركز الدين الإسلامي على طُهر المجتمع وعفافه، وأن اختراقه من هذا الجانب مذلٌّ ومهين ومخالف لتعاليم الدين القويمة، فإن حمايته أيضًا تستوجب إحاطته بسياج قوي؛ كيلا يخترق، فإذا ما تآمر قوم على تشويه سمعة أحد المسلمين أو إحدى المسلمات وأشاعوا ما أرادوا من تهم، ثم ترك هذا الأمر بلا ضوابط، فإن البناء الإسلامي سينهار؛ ولذلك كانت الحماية على قدر عظم النتيجة، فجاءت هذه الآيات لتوقظ عقول المسلمين ولتضع حدًّا لمثل هذه التُّهم.
• سمى الله هذه الحادثة بالإفك، وهو قمة الكذب والفرية مع الظلم، وأسوأ أنواع الكذب الذي ينتج عنه تدمير المجتمعات.
• ذكر الذين أشاعوه بأنهم عصبة تكتلوا من أجل الكيد للمسلمين وهم المنافقون، ومع ذلك فلا تحسبوا أيها المسلمون أن في إشاعته قد انتصر الشر، وإنما في ذلك خير؛ من أجل أن تعرفوا مكائد الأعداء، ولكي تتنبهوا لها، كما أن هذه التهمة قد نزل بها تشريع يعرفكم كيفية التعامل مع مثل هذه التهم ضمن ضوابط ربانية.
• توعد أصحاب الإفك بالعذاب، كل على حسَب خوضه فيها، ورأس الفتنة الذي تولى إشاعتها سيناله قسط من العذاب الأليم.
• تنبيه المسلمين إلى كيفية التعامل مع هذه الإشاعات والتهم، وعدم الانسياق وراءها كأنها حقيقية، وعليكم أيها المسلمون دائمًا أن تظنوا بأنفسكم وبإخوانكم جميعًا الخير، وهو المقدم؛ لأن جانب الخير عند المسلم هو الأصل، والانحراف هو النادر، ولا ينبغي تقديم النادر على الأغلب الأعم، فإذا ما ظهر في المجتمع مثل هذه التهم لأي مسلم – والمسلمون جسد واحد – عليهم أن يقولوا: هذه فِرية وتهمة، فلا يخوضوا فيها، وكما يقال اليوم: المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
• ثم أتت القواعد التي تدين المتهم أو تبرئه، وأن مثل هذه الأمور الخطيرة – التي لها أثرها الخطير على سلامة المجتمع الإسلامي – لا تثبت إلا بأربعة شهود يشهدون على أنهم رأوا وقوع الزنا بين فلان وفلانة رؤية واضحة لا لبس فيها، فالتهمة بلا شهود تعد باطلة، وأصحابها كاذبون مفترون مؤاخَذون على أقوالهم.
• الأمر الذي تكلم به الناس عظيم خطره، وإن من رحمة الله وفضله على المسلمين أن رحمهم فلم ينزل بهذا الشأن غضبه وعذابه عليهم، وربما لأنها المرة الأولى التي يمرون فيها بهذه التجرِبة فلم تكن لديهم خبرة في التعامل معها كما ينبغي فأخطؤوا.
• بيان انتقال الإشاعة من لسان إلى لسان دون التثبت من صدق المصدر ومعرفته، وهذا الأمر خطير؛ لأنه يسهل غرض المغرضين، فلو كانت مثل هذه التهمة مؤكدة لما كان ينبغي إذاعتها، فكيف بها وهي باطلة؟ فالأَوْلى عدم نقل مثل هذه الأخبار، فلو أن كل واحد من المجتمع قد تكتم عليها ودفنها عنده لما وصلت إلى غيره، فلا تكونوا سبب نقل ما ليس لكم به علم أو تأكد من صحته، فبهذا تشاركون في الإثم المترتب على هذه التهمة.
• وكان عليكم أيها المسلمون عندما سمعتم بهذه الفرية التي تتهم زوج نبيكم ومثلكم الأعلى النقي الطاهر وقد عرفتموه بذلك، أن تقولوا: ﴿ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16].
• وبعد هذه التجرِبة العملية التي مررتم بها إياكم أن تعودوا لتصديق الإشاعات والتهم الكاذبة التي تقضي على وحدة المسلمين وتماسكهم، فهذا درس بليغ عليكم الاستفادة منه، والعاقل من تحنكه التجارِب.
• وقد وردت في ثلاث آيات متتاليات عبارات: ﴿ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 14] و﴿ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15] و﴿ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16]، فلهذا دلالته على الحدث، والأهمية التي وصلت إلى منتهاها في فرية الإفك، فكانت تستحق العقاب العظيم؛ لأن جُرمها عند الله عظيم، ولأنها بهتان عظيم.
وبعد بيان تبرئة عائشة رضي الله عنها وبيان الموقف الذي كان يجب أن يكون عليه المسلمون، هدأ الخطاب قليلًا؛ لأنه أصبح يقعد لبناء خلق المسلم والتزامه بالأخوة الإسلامية، وأن المسلم يصون عرض إخوانه ويمنع أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، بل يغضب أشد الغضب إذا رأى منكرًا أو فاحشة قد انتشرت في مجتمعه أو بين إخوانه المؤمنين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 19 – 21]، وكان أبو بكر يُنعم على مسطح ويساعده ماديًّا، ولما خاض في حديث الإفك أقسم أبو بكر أن يقطع عنه المساعدة؛ لأنه لا يستحقها، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، فتراجع أبو بكر رضي الله عنه عن قراره، وقال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، وأعاد إلى مسطح نفقته، ثم جاء التهديد القوي والقانون الرباني الذي سنَّه الله تعالى ليردع أولئك المفترين الذين يرمون المحصنات: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23]، وهناك لا يستطيعون الإنكار مهما أقسموا، كما فعل ابن سلولَ، ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 24، 25]، ثم وضع الله مكانة الخبيثين والخبيثات وأنهم مناسبون بعضهم لبعض لصفات الخسة والوضاعة، ورفع الله تعالى مكانة المؤمنين والمؤمنات بأن بعضهم لبعض لصفات السمو الروحي والطهر والعفاف: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: 26].