صبر عروة بن الزبير رضي الله عنه
صبر عروة بن الزبير رضي الله عنه
سافر عروة من المدينة إلى دمشق، وفي الطريق بوادي القرى أصيبتْ رجلُه بأَكَلَةٍ[1]، ولم يَكَد يَصِل دمشق حتى كانت نصفُ ساقه قد تلِفتْ، فدخل على الخليفة الوليد بن عبدالملك، فبادر الوليد باستدعاء الأطبَّاء العارفين بالأمراض وطرق علاجها، فأجمعوا على أن العلاج الوحيد هو قطعها قبل أن يَسريَ المرض إلى الرِّجل كلِّها حتى الوَرِك، وربما أكلتِ الجسمَ كله، فوافق عروةُ بعد لأْيٍ على أن تُنْشَر رِجله، وعرض عليه الأطباء إسقاءه مُرْقِدًا؛ حتى يغيب عن وعيه فلا يشعر بالألم، فرفض عروة ذلك بشدة قائلًا: لا والله، ما كنت أظن أحدًا يشرب شرابًا، أو يأكل شيئًا يُذهِب عقلَه، ولكن إن كنتم لا بُدَّ فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة؛ فإني لا أحس بذلك ولا أشعر به، فقطعوا رجله من فوق الأكلة من المكان الحي؛ احتياطًا أن لا يبقى منها شيء، وهو قائم يصلي، فما تضوَّر ولا اختلج، فلما انصرف من الصلاة عزَّاه الوليد في رجله، فقال: اللهم لك الحمد، كان لي أطرافٌ أربعة فأخذتَ واحدًا، ولئن كنتَ أخذتَ فقد أبقيتَ، وإن كنتَ قد ابتليتَ فلطالما عافيتَ، فلك الحمد على ما أخذتَ وعلى ما عافيتَ، اللهم إني لم أمشِ بها إلى سوء قط.
وكان قد صحب بعضَ بنيه، ومنهم ابنه محمد الذي هو أحب أولاده إليه، فدخل دارَ الدواب فرفسته فرسٌ فمات، فجاء المعزون إلى أبيه، فقال: الحمد لله كانوا سبعةً فأخذتَ منهم واحدًا وأبقيتَ ستة، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت، فلمَّا قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة، فما سُمع يَذكُر رِجْله ولا ولده، ولا شكا ذلك إلى أحد، حتى دخل وادي القرى الذي أصابته فيه الأكلة، وهناك قال: ﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ [الكهف:62]؛ (انظر وفيات الأعيان لابن خلكان:2 / 418 – 421) (البداية والنهاية: 9/ 101 – 103).
فهذه نماذج من مواكب الصابرين، فأين أنت منهم يا ضعيف العزم والصبر؟ فهذا سبيل تعب فيه آدم، وجاهد فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، واتهم بالسحر والجنون نبي الله الكريم، وكسرت رباعيته، وشج رأسه ووجهه، وقُتِل عمر مطعونًا، وذو النورين، وعليّ، والحسين، وسعيد بن جبير، وعذب ابن المسيب، ومالك، والإمام أحمد، فلا سبيل ولا نجاة ولا فلاح لسالكي هذا الطريق إلا الصبر.
وفي الختام:
نسألك اللهم أن ترزُقنا الصبر على طاعتك، والصبر عن معصيتك، والصبر على أقدارك، حتى نكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
واجعلنا اللهم من الصابرين في البأساء والضراء، وحين البأس، والصابرين في السراء والضراء.
واجعل صبرنا فيك ولك، واجعلنا من الذين قلت فيهم: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22– 24].
[1] الأَكَلَة: داء يقع في العضو فيأكل منه.