من أعلام مدينة دمشق: أستاذي الشيخ هيثم إدلبي
من أعلام مدينة دمشق
أستاذي الشيخ هيثم إدلبي
يعود بي شريطُ الذكريات للعام 1969 عندما كنت طالبًا في الصف العاشر في ثانوية ابن الأثير بدمشق، في بنائها القديم في سوق ساروجة طلعة سوق الهال القديم، عندما كان اللقاء الأول بفضيلة الشيخ هيثم إدلبي رحمه الله، وقد خطَّت لحيته ولم تكتمل، وهو طالبٌ في الصف الثاني عشر، ويرفع أذانَ العصر من إذاعة المدرسة، ويؤمُّ الطلَّابَ في الصلاة.
كان يُمسك بيدي في الفرصة بين الحِصَّتين وأقرأ عليه غيبًا صفحةً من القرآن الكريم، وفي وقت الاستراحة بين الدَّوامين كنَّا نصلِّي الظهر في جامع الحيِّ بعد تناول الغداء، ونجلس في ذلك المسجد، ويجيبني عن أسئلة تراودُني، ويوضح كثيرًا من الشُّبهات.
فمَن هو هذا العَلَم؟
المربي الداعية الشيخ هيثم بن محمود إدلبي، ولد في مدينة دمشق عام 1951 لأسرة طيبة كريمة، فوالدُه من أهل الصلاح لا يكاد لسانُه يفتُر عن ذكر الله عز وجل، والصلاة على النبيِّ صلواتُ الله وسلامه عليه.
ويتصف الشيخ هيثم رحمه الله بالخُلق الرفيع والأدب الجمِّ، والتواضع مع كامل الحِشمة والهَيبة، منحَهُ الله عزوجل ذكاءً حادًّا، ونظرة عميقة ثاقبة للأمور. وكان صاحبَ همَّة عالية؛ يعمل بصمت ولا يحبُّ الظهور. ويَصدُق فيه: (إنَّ الله يحبُّ العبد التقيَّ النقيَّ الخفيَّ).
واجتباه الله عز وجل لخدمة كتابه الكريم وسنَّة نبيِّه عليه الصلاة والسلام، والعلم الشرعي، ولسانُ حاله يردِّد قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108]، وينطبق عليه القولُ المأثور: (كالغَيث أينما وقَع نفَع).
وقد أحيا الله عز وجل به إرثَ الشيخ عبد القادر القصاب رحمه الله، فمنذ 1975 وقفَ نفسَه لخدمة مدرسة الشيخ عبد القادر القصَّاب في دَير عَطِيَّة، فجعل الله عز وجل منه منارةً للقلَمون وخاصَّة النبك، فتخرَّج به شبابٌ نهلوا من علوم القرآن الكريم؛ تلاوةً وحفظًا وتدبُّرًا وعملًا، وتعلَّموا الفقهَ والسيرة وعلوم العربية، وكانوا مثالَ الوعي والنشأة الطيبة.
ثم انتقل إلى جامع الشيخ محمد الأشمر رحمه الله؛ ليجعلَ منه خليَّةَ نحل، فيها الزهور الطيبة، وليجعل منها قاماتٍ شامخةً تخدُم القرآن الكريم وعلومه؛ تعلُّمًا وعملًا ودعوة. فتخرَّج به شبابٌ يصدُق فيهم قولُ مولانا عزو جل: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13].
ثم شرَّفه الله عز وجل ليكونَ مديرَ معاهد تحفيظ القرآن في مدينة دمشق، ومديرًا لمعهد الفرقان لعلوم الشريعة واللغة العربية.
وحلَّ به المَطافُ ليكون فارسَ منبر جامع سيدنا زيد رضي الله عنه، وعضوَ اللجنة العليا لشؤون القرآن الكريم في وِزارة الأوقاف، وعضوَ اتحاد المحكَّمين في المسابقات القرآنية الدَّولية، ورئيسَ اللجنة الدائمة لشؤون القرآن الكريم، ولجنة تدقيق المصاحف، ولجنة تصديق الإجازات، ولجنة المنشورات القرآنية. وهو صاحبُ فكرة هذه اللجان والمهندسُ لعملها ودورها في خدمة القرآن الكريم، والمحافظة على المصحف الشريف.
كان الشيخ رحمه الله داعيةً مؤثِّرًا، جذب إلى المساجد بفضل الله تعالى عشَرات بل ربما مئات الشباب والفتيات من دير عطية حتى دمشق، وتعرفه المدارسُ والثانويات العامَّة في دير عطية ودمشق قبل المدارس الشرعية، وكان رحمه الله يعتِبُ على العلماء وأساتذة التربية الإسلامية الذين يتركون المدارسَ الحكومية ويذهبون للتدريس في المدارس الشرعية؛ لأنه كان يرى أنَّ مِساحةَ العمل الأخطر هناك، عند تلك الفئة من الشباب التي لا تأتي إلى المساجد، فكان يذهب هو إليها، وكان يعرف تمامًا أين يعمل، ويسعى إليه بجهد لا يهدأ.
مَن عرَف الشيخ من قُرب عرَف أنه لم يكن شيخًا للأضواء ولا شيخًا يتغنَّى بعمل زائف، كان يعمل في أمكنةٍ لا يفطَنُ لها إلا من رُزقَ قلبًا يتفطَّر على شباب الأمَّة وبناتها. وكان حريصًا على متابعة أيِّ عمل من أعمال مؤسسات المجتمع المدني التي تمسُّ الدين وخصوصًا المتعلِّقة بجيل الشباب والمتعلِّقة بالمرأة، ويجهَدُ في تصحيح المسارات ما استطاع.
ولا غرابةَ أنْ يمنحَ الله عز وجل الشيخ هيثم هذه الصفاتِ، فهو من أصل طيِّب، ونبتة رعَتها يدُ الشيخ المربِّي عبد الكريم الرفاعي، ويدُ الشيخ محيي الدين الكُردي رضي الله عنهما. وهذان العالمان من بركة الدنيا، وقد نفع الله بجهودهما الأمَّة من مشارقها إلى مغاربها. وهما امتدادٌ للشيخ بدر الدين الحسني، والشيخ علي الدَّقْر رحمهما الله. وهما وسائرُ علماء الشام تجلِّياتٌ لنور عمود الكتاب الذي وُضع في الشام، كما في الحديث الشريف.
وفي يوم الاثنين 24 من ربيع الأنور 1445 الموافق 9 من تشرين الأول 2023 وفدَ الشيخ هيثم إلى رِحاب رحَمات الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه أن يكونَ استجاب دعوته: (اللهم أوصلنا إلى دار السلام بسلام).
اللهم تقبَّل منه صالحَ عمله، ولقِّنه حُجَّته، واغفر له، وأدخله الجنَّةَ مع النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، واجعل قبرَه روضةً من رياض الجنَّة، واجعل أولادَه وذُرِّيته وطلَّابه خيرَ خلَفٍ لخير سلف.
رحم الله هذا الرجلَ الذي لم يعرفِ المَللَ ولا التعب، وأخلفَ على الأمَّة خيرًا.
وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم.
الشيخ هيثم إدلبي