بسام الجابي بقلم أحد محبيه
بسام الجابي بقلم أحد محبِّيه
كانت معرفتي بالأخ الحبيب المحقِّق المدقِّق المرحوم بسَّام عبد الوهَّاب الجابي في سنِّ الشباب (وهو أصغر منِّي بسنتين)، وكان يعمل في دار القلم بدمشق أواخرَ السبعينات، وكنت أتردَّد عليه، وتوطَّدَت العَلاقةُ بيننا، وعندما علم بأنني قد كتبتُ تعليقاتٍ على كتاب (متن الغاية والتقريب) للقاضي (أبو شجاع) ولم أبلغ سنَّ الثلاثين عرَضَ عليَّ طباعته، فاستعظَمتُ ذلك، فشجَّعَني عليه قائلًا: ألستَ واثقًا ممَّا كتبت؟ قلتُ: بلى، قال: إذن هاتِه لأطبعَه، قلت: إذن لا تكتب اسمي عليه، قال: بل سأكتبُه لتلومَكَ الناسُ إذا أخطأت، ممَّا جعلني أحرِصُ على الدقَّة فيما أكتب، وعرَضتُه على المرحوم الشيخ هاشم المجذوب قبل طباعته فأثنى عليه وقدَّم له بمقدِّمة، وطُبع الكتاب الطبعة الأولى عام 1399هـ في دار البصائر التي كان قد أنشأها بسام حديثًا.
ثم علَّمني فنَّ إخراج الكتب (المونتاج)، وله فيه باعٌ طويل، فتعلَّمتُ ذلك بسرعة، ففرح بذلك وقال: صِرتَ أمهرَ منِّي فيه، وهذا يدلُّ على إخلاصه وحبِّه الخيرَ لغيره. وعندما عرَضَ صاحبُ دار الملَّاح تجهيزَ طباعة (تفسير البيضاوي)، وكانت طبعةً فريدة كُتبت بخطٍّ جميل على هامش المصحف، لكنَّ التفسير لم يستوعِب الهوامش، وبقي فيه فراغاتٌ ملأها الدكتور مصطفى الخن بزيادات على قدر الفراغات، فعرَضَ عليَّ المرحوم بسام القيامَ بهذا العمل، وآثرَني على نفسه فيه، فوافقتُ على ذلك، وكنت أختصر التعليقاتِ إن زادت على الفراغ، ومكَّنَني من استخدام مكتبه (في شارع العابد) وأدواته حتى أنجَزتُ المشروع في شهر رمضان 1399هـ.
ولمَّا تخرَّجتُ في الجامعة وبحثتُ عن عمل فلم أوفَّق سافر إلى لبنان وأخذني معه؛ ليعرضَ على دُور النشر تجهيزَ كتب أو تحقيقها ليحصِّلَ لي عملًا، فجزاه الله عنِّي خيرَ ما جازى صديقًا عن صديقه.
وعندما سافرتُ إلى الإمارات أراد طباعةَ كتاب (الدُّرَر البَهيَّة فيما يلزمُ المكلَّفَ من العلوم الشرعية) لأبي بكر شطا صاحب (إعانة الطالبين)، وعرض عليَّ أن أعلِّقَ عليه، فقُمت بذلك، وطبعَه لي، وتدرَّجتُ في التحقيق والتعليق فأنجَزتُ كتاب (مسائل التعليم) المشهور (بالمقدِّمة الحَضْرَمية) لبافَضْل الحَضْرَمي، ونصحَني بطباعته لدى الشركة المتحدة، وطُبعَ طبَعاتٍ عديدةً حتى عُرِفَت طبعتي بين المحقِّقين، كلُّ ذلك بفضل الله، ثم بفضل المرحوم الجابي جزاه الله عنِّي خيرًا.
أمَّا صفاتُه: فقد كان مستقلًّا في الرأي، حريصًا على وقته، امتاز بالجِدِّية والوَقار، آلَى على نفسه نشرَ دُرر من التراث بثوب قَشِيب وهيئة بهيَّة، وظلَّ مثابرًا على هدفه طولَ حياته، ولم تقتصِر تحقيقاتُه على فنٍّ واحد، بل حقَّق في علوم شتَّى في العقيدة والفقه واللغة والأدب والأعلام، حتى في النوادر والطُّرَف، وبارك الله بوقته فحقَّق وطبع قرابةَ مئتي كتاب.
كانت جلَساتُه ممتعة، فيها الكثيرُ من الفوائد؛ إذ يخبرك بالطريف من مطالعاته، والأخطاء التي وقعَ فيها غيرُه من المحقِّقين. وكان لا يقتصر على السَّماع ممَّن يوافقه في الرأي، بل يسمع ممَّن يخالفه بأدب، ويستفيد منه. وكان يحبُّ الأطفال ويهتمُّ بهم ويسامرهم.
ومن صفاته رحمه الله: كرمُه الشديد، فلا يبخل على جُلسائه (وهو ذوَّاقة) بأنواع من المأكولات يعدُّها بنفسه، وهو ماهرٌ في ذلك.
مضى بسَّام الجابي إلى ربِّه في 20 من شعبان عام 1438هـ، وبقيَت آثارُه شاهدةً عليه، فذِكْرُه باقٍ لمن يُطالع كتبَه، وعملُه صدقةٌ جارية يعود نفعُها عليه في قبره.
رحم الله أخي بسام، وجمعَني به في مستقرِّ رحمته، وبارك في ذرِّيته من بعده.