الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم (التنصير والسيرة النبوية)
الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم[1]
(التنصير والسيرة النبوية)
محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم الذي يبدو أن سلمان رشدي قد عناه بروايته وأسماه ماهوند، “بناءً على خلفيات تاريخيَّة قديمة”، أو موهوند؛ التي يأتي من معانيها الشيطان وأمير الظلام[2] – لم يسلم من هذا “التجريح” على مرِّ الزمان، والمتابعون لمسيرة الإسلام – من خلال ما كتبه عنه جمع من المُستشرقين وغيرهم – يَستطيعون رصد ما كتب عنه صلى الله عليه وسلم.
إن ما يتعرَّض له خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، سيد ولَد آدم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم من هجوم مِن بعض القساوِسة، يبدو أن التأثير الصهيوني قد ظهر عليه جليًّا؛ ذلك أنه يكثر التأثير الصهيوني على بعض رعاة الكنائس الذين يؤيِّدون الوجود اليهودي في فلسطين المحتلَّة، على حساب الوجود الفلسطيني، مما يخلط هنا الجانب العقدي مع الجانب السياسي رغم الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة.
لعلَّ مِن آخر أشكال هذا الهجوم ما تَتناقله القنوات الفضائية الغربية بعد التداعيات التي صاحبت وأعقبَت حوادث يوم الثلاثاء 11 / 9 / 2001م الموافق 22 / 6 / 1422هـ، فهذا القس جيري فولويل أحد القيادات الدينية في الملَّة النصرانيَّة يقول عن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم: “أنا أعتقد أنَّ محمدًا كان إرهابيًّا، وأنه رجل عنْف”[3].
مثل ذلك يقول بات روبرتسون، الذي رشَّح نفسه مرة لرئاسة الجمهورية في الثمانينيَّات الميلادية، وله قناة تنصيرية خاصة CBN[4]، يقول عن نبي الهدى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم: “إنه رجل متعصِّب إلى أقصى درجة، إنه كان لصًّا وقاطعَ طريق، إن ما يدعو إليه هذا الرجل ما هو إلا خديعة وحيلة ضخمة، إن 80% من القرآن منقول من النصوص النصرانية واليهودية، إن هذا الرجل كان قاتلًا سافكًا للدِّماء”[5]، هكذا يتعرَّض نبيُّ الهدى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم سيد البشر لهذا من أشخاص مسؤولين، إمَّا أن يكونوا قيادات دينية أو علمية أو سياسية، بتأثير مباشر أو غير مباشر من طروحات المستشرقين حول السيرة العطرة والسنة المطهَّرة، فهم ينهلون هذه الافتراءات من مَعين الاستشراق الذي قال عن رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم أكثر مما قالته العرب المشركون عنه زمن البعثة، “فما مِن شيء شائن أو يفتقر إلى أيَّة بينة كان يستحيل قوله على محمد، فكما قال جيبرت النوجنتي Guibert of Nogent (حوالي 1053 – 1124)، مؤلِّف أقدَم السير عن النبي خارج إسبانيا، ردًّا على التساؤل عما إذا كانت الأشياء البغيضة التي يَرْويها عن محمد حقيقة من عدمها: “من المأمون أن نتحدَّث شرًّا عن شخص تتجاوز طبيعته الشريرة أيَّ سوء يمكن قوله”[6].
يستمرُّ التعرُّض لهذا الدين الذي جاء به محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم بالهجوم المباشر على رسول الله عليه الصلاة والسلام[7]، فهذا فرانكلين جراهام ابن القس بيلي جراهام يقول عن هذا الدين: “إن الإرهاب جزء من التيار العام للإسلام، وإن القرآن يحضُّ على العنف، وإن الإسلام دين شرير”، وينضمُّ إليهم دانيل فيكتوس، من زعماء الكنيسة الإنجيليكية[8].
يدخل في هذه الأشكال الإهانة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الإهانة إلى المسلمين من خلال تلك الرسوم الهزلية المسيئة (الكاريكاتورية) التي نشرتها صحيفة أوروبية مؤخرًا، فهبَّت الأمَّة احتجاجًا وغيرةً على الطاهر المطهر صلى الله عليه وسلم.
هذا الحدَث والموقف منه استدعى الاستشراق مجددًا، من ناحية العودة إلى إسهامات المستشرقين في السيرة النبوية ثم السنة المطهرة، ومن ناحية مواصلة الاستمرار في الكتابة عن نبي الهدى صلى الله عليه وسلم بالبحوث العلمية، والمقالات الصحفية العجلى، ودون استباق للأمور، فإنه يتوقع لهذا النتاج الاتكاء على رؤى المستشرقين السابقين والمعاصرين، لا سيما مع بروز عاملَي عدم الانتماء لهذا الدين، والضعف الواضح في الحصيلة اللغوية.
إن يكن تأثير الاستشراق في هذه الحادثة بعينها غير واضح، فإن التأثير اليهودي غير ظاهر كذلك، إلا أن البحث في خلفية القائمين على الصحيفة تقود إلى هذا التأثير، ويبدو أن للمراقب المستشار دانييل بايبس – اليهودي المتعصب ضد الإسلام والمسلمين – تأثيرًا من نوع ما، فيما حصل من هذه الصحيفة الغربية؛ إذ تبين أن له علاقةً ما برئيس تحرير الصحيفة، وإن كان دانيل بايبس نفسه يقلِّل من أهمية هذه العلاقة وأنها لا تتعدَّى إجراء مقابلة صحفية معه.
لا يتوقع أن يقف الأمر في الإساءات للإسلام والمسلمين عند هذا الحدِّ؛ إذ إن من المتوقَّع أن تظهر علينا أنواع أخرى من الإساءات بأشكال وأساليب حديثة؛ سواء بالفلم أم باستخدام تقنية المعلومات، فقد أساءت هوليوود عاصمة السينما في العالم إلى عبدالله ورسوله موسى بن عمران عليه السلام، وإلى عبدالله ورسوله عيسى ابن مريم عليهما السلام أكثر من إساءة.
إلا أنَّ هذه الهبة المتزامنة من الأمة أظهرت قدرًا من الاعتزاز برسول الله صلى الله عليه وسلم، تجعل هذه المحرِّكات تفكر مليًّا قبل أن تقدم على أي إساءة من مثل ما يتعرَّض له أنبياء الله؛ موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهم الصلاة والسلام.
كل هذه وغيرها تحتاج إلى مضاعفة الجهد على مختلف الصعد، والعديد من القنوات للدفاع عن نبي الهدى خاتم الرسل، ودين الإسلام خاتم الأديان، والكتاب المنزل خاتم الكتب.
ما ذكرتُه هنا حول الموقف من نبي الهدى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ليس حديثًا، ولكنه يتجدَّد مع حصول أحداث تصطبغ بالتأثير العام، ولعلَّ ذلك يرجع إلى قيام الحروب الصليبية، حينما تبيَّن جهل شمال أوروبا بالإسلام وبنبي الإسلام الذي عدوه عندهم إلهًا من ثلاثين إلهًا من آلهة المسلمين، ويُدعى مهومد؛ كما ذكر ذلك ريتشارد سوذرن، الذي كتب عن صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى[9]، وغير أولاء ذكروا أنَّ المسلمين يعبدون ثلاثة آلهة هم أبولون وماهون وزفاجان؛ كما يذكر كلود كاهن في كتابه الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية[10].
لعل منطق “من جهل شيئًا عاداه” ينطبق على النظرة الغربية القديمة والحديثة لرسول الهدى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن من عرف هذا الرسول النبي الأمي[11]، لا يَملك إلا أن يطريه، إطراءً يليق به رسولًا نبيًّا، لا إطراءً كما تطري النَّصارى المسيحَ عيسى بن مريم عليهما السلام، كما أن منطق العصيان على بصيرة حاضر هنا؛ إذ إن بعض المتهجمين على رسول الله يدركون بطلان هجومهم هذا، ولكنهم يصرُّون على ذلك من باب إنكار ظهور الشمس في وضح النهار.
وليس يصحُّ في الأذهان شيء
إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ
|
[1] نُشر هذا البحث: في: مجلة الجامعة الإسلامية (المدينة المنوَّرة)، عدد (1429هـ / 2008م).
[2] انظر: وليد بن بلهيش العُمري: السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية – دراسة تحليلية لما كُتب تحت مادَّة ((مُحَمَّد: النبي والرسالة))، ص 16، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية، المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة، 1425هـ / 2004م.
[3] في التعرُّف على المزيد من هذا التوجُّه، لا سيما مواقف القس جيري فولويل انظر: بحث عن حياة فولويل، ص (104 – 115)، في: غريس هالسل: النبوءة والسياسة: الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية / ترجمة: مُحَمَّد السمَّاك، ط 6، بيروت: دار النفائس، 1426هـ / 2005م، 231 ص.
[4] انظر: غريس هالسل: يد الله: لماذا تضحِّي الولايات المتَّحدة بمصالحها من أجل إسرائيل؟ ترجمة: مُحَمَّد السمَّاك، ط 2، القاهرة: دار الشروق، 1423هـ / 2002م، ص (13 – 33).
[5] انظر: رسول مُحمَّد رسول: نقد العقل التعارُفي: جدل التواصُل في عالم متغيِّر، بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2005م، ص 62.
[6] انظر: زكاري لوكمان: تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط؛ مرجع سابق، ص (84).
[7] انظر: مع جيري فولويل في أرض المسيح (معركة هَرْمَجدون)، ص (57 – 65)، في: غريس هالسل: النبوءة والسياسة: الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية؛ مرجع سابق، 231 ص.
[8] انظر: مصطفى الدبَّاغ: إمبراطورية تطفو على سطح الإرهاب: الكتاب الذي يجيب على التساؤل الأمريكي: لماذا يكرهوننا؟ بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2004م، ص 16 – 78.
[9] انظر: ريتشارد سوذرن: صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى / ترجمة: وتقديم رضوان السيِّد، ط 2، بيروت: دار المدار الإسلامي، 2006م، ص 14.
[10] انظر: كلود كاهن: الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية / ترجمة: أحمد الشيخ، القاهرة: سينا للنشر، 1995م، ص (66 – 70).
[11] يدور نقاش بين المستشرقين اليوم حول حقيقة أميَّة الرسول صلى الله عليه وسلم استنادًا إلى بعض إسهامات المسلمين في القرون الهجرية الأربعة الأولى، انظر: لخضر شايب: هل كان مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أمِّيًّا؟ الحقيقة الضائعة بين أغلاط المسلمين ومغالطات المستشرقين، دمشق: دار قتيبة، 1423هـ / 2003م، 231 ص.