موسى عليه السلام (4)
موسى عليه السلام (4)
بعد أن قضى موسى الأجلَ الذي التزم به وأدَّاه على أكمل وجه، ألهمه الله عز وجل أن يتَّجه بأهله نحو مصر، وهو لا يعلم أن مراسيم السعادة تنتظره في الطريق، وأن الله عز وجل سيناديه ويكلِّمه ويناجيه بالوادي المقدس طوى، فسار بأهله ومعه قطيع من الغنم متجهًا إلى أرض مصر، وفي أثناء سيره مرَّت به ريح باردة في ليلة مظلمة، لم يتمكَّن معها من مواصلة السير؛ إذ اشتد بهم البرد، ولم يعرف اتجاه الطريق، وفجأة لاحتْ له نار أبصر عندها شجرة، فدخل عليه لذلك أُنسٌ ومسرَّةٌ، وقال لأهله: ﴿ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ﴾ [طه: 10] سأذهب إليها، لعلِّي أجد عندها من يرشدنا إلى الطريق السوي والصراط المستقيم، أو آتيكم منها بقطعةٍ من النار؛ لعلكم تستدفئون بها، والظاهر أن زوجته عليه السلام لم تُبصر هذه النار، وأن النار إنما تجلَّت لموسى وحده، كما يظهر أن موسى عليه السلام لم يعرف اسم المكان الذي رأى النار فيه، ولم يدرك أنه الوادي الْمُقدس طوى، وأنه سيجد عنده أعظم الهدى، وما إن اقترب موسى عليه السلام من النار وبيده عصا حتى ﴿ نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ ﴾ [القصص: 30]، أي: من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب ﴿ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ [القصص: 30] ﴿ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 8] ﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾ [طه: 12] ﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النمل: 9] ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ [طه: 14 – 16].
وبعد أن توَّج الله عز وجل موسى عليه السلام بمراسيمِ السعادة سأله وهو العليم الخبير عمَّا بيده، ليدخل عليه الأنسَ وليثبت قلبه، وليُظهر له معجزة تبين له أن الله تعالى سيؤيِّده وينصره ويجعل العاقبة الحميدة له ولمن آمن به، فقال عز وجل: ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ ﴾ [طه: 17، 18]، ولم يقف موسى في الجواب إلى هذا الحدِّ، فأخذ يبيِّن بعض منافع عصاه زيادة في طول لذَّةِ المناجاة، فقال: ﴿ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ﴾ [طه: 18]، ثم قال: ﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴾ [طه: 18]؛ لعله يسأله عن هذه المآرب والمقاصد، فيزداد لذَّةً، وتطولُ لذَّةُ المناجاة؛ فالحبيب يودُّ ألا ينقطع عنه صوت حبيبه على حد قول الشاعر:
ولا حُسْنَ إلا من سَمَاعِ حديثِكُمْ
مشافهةً يُمْلَى عَليَّ فَأَنْقلُ
|
وعلى حد قول الشاعر الآخر:
وكنتُ إذا ما جئتُ سعدى أزورها
أرى الأرضَ تطْوَى لي، ويَدْنُو بعيدُها
من الخفراتِ البيضِ ودَّ جليسها
إذا ما انقضَتْ أحدوثةٌ لو تعيدُها
|
ولله المثلُ الأعلى، فأمره الله عز وجل بإلقاء العصا على الأرض، فألقاها فإذا هي حيَّة تسير على بطنها في غاية السرعة كأنها جانٌّ، فلما رآها موسى عليه السلام وهي تهتزُّ وتتحرَّك مسرعة ولَّى مدبرًا، ولم ينتظر من شدة الخوف، فناداه الله عز وجل: ﴿ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 10]، وقال له: ﴿ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ﴾ [طه: 21]، فأخذها، فعادت في يده عصا كما كانت أوَّل مرة.
ثم أمره الله عز وجل أن يُدخل يدَه في جيبه، أي: في طوق قميصه فأدخلها، فلما أخرجها إذا هي بيضاء من غير برَص ولا مرض، مع أن موسى عليه السلام كان أسمر اللون آدم، فهذه آية أخرى.
وأمره الله عز وجل بالذهاب إلى فرعون الطاغية الذي يقول لقومه: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، ويطالبه وقومه بإخلاص العبادة لله وحده، وأن يُسلمه بني إسرائيل، ويخلصهم من العذاب المهين، وطلب منه أن يتلطَّفَ في دعوة فرعون إلى الله، وأن يقول: ﴿ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]، فطلب موسى عليه السلام من ربِّه أن يشرح له صدره، وأن يُيسِّر له أمره، وأن يحلل له عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وأن يُرسل معه هارون أخاه ليَشُدَّ به أزرَه ويُشركه في أمره؛ لأنَّ هارون بن عمران عليه السلام مشهور بالفصاحة بين قومه، فأجابه الله عز وجل لذلك كله، وبيَّن له أن منَّة الله عليه عظيمة، وليست هذه أول منة، وذكَّره بمنة أخرى عند ولادته؛ إذ أوحى إلى أمِّه أن تلقيه في اليَم ليلتقطه آلُ فرعون ويُربَّى في حِجر عدوه، الذي يصونه ويرعاه مع أنه لا يفتأ يذبح أبناء بني إسرائيل.
وقد ذكر موسى عليه السلام أنه يخاف من فرعون أن يقتله بالقبطي، فطمأنه الله عز وجل وعرَّفه أنه سيجعل له سلطانًا، فلا يتمكَّن فرعون من قتله، وقال له: ﴿ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 46، 47].
وقد وصف الله تبارك وتعالى مجيء موسى إلى الوادي المقدَّس طُوى، وحدَّد المكان الذي تمَّت فيه المناجاة، وذكر ما ناجى به موسى عليه السلام في مواضع مِن القرآن العظيم ليُثبت بذلك فؤاد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وليكون آية بيِّنة للعرب والعجم أن محمدًا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من قومه يعرف هذه الأخبار الدقيقة الصادقة، وهو الأُمِّيُّ في القوم الأميين، فلم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بجانب الغربي إذ قَضى الله إلى موسى الأمر، وما كان من الشاهدين، وما كان بجانب الطور إذ نادى موسى عليه السلام، ولكنها رحمة من الله للبشير النذير ولمن آمن به إلى يوم القيامة.
وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة مريم: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ﴾ [مريم: 51 – 53].
ويقول عز وجل في سورة طه: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴾ [طه: 9 – 37].
وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته