الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم (طبيعة البحث في السيرة)
الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم
(طبيعة البحث في السيرة)
مع استمرار الكيد للمصطفى صلى الله عليه وسلم على مرِّ السنين والقرون تظلُّ سيرته عليه الصلاة والسلام مليئة بالعبر والحِكَم والأمثلة التي تجسِّد القدوة الصالحة؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، وهي لا تزال موضع بحث ودراسة على مستوى الدراسات العلمية في الجامعات والكليات والمعاهد العليا، وعلى مستوى الدراسات الثقافية والفكرية، وعلى مستوى الأفراد الذين يُسهمون في النهضة الثقافية التي يعيشها المسلمون اليوم، بفضل من الله تعالى.
تظلُّ سيرته عليه الصلاة والسلام منهلًا عذبًا للاقتداء والتأسِّي به صلى الله عليه وسلم، فهي لا تدرس كما تدرس سير العظماء والأبطال ورجال التاريخ، بل إن دراستها تدخل في وجه من وجوه العبادة، التي تجعل من سنته صلى الله عليه وسلم وسيرته مثلًا يُحتذى، فلم يكن صلى الله عليه وسلم ينطق عن الهوى، إنما كان ينطق عن وحي يُوحى؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]، ولذا تَنفرد هذه السيرة العَطِرة بأنها أكثر من مجرَّد أحداث تمرُّ على الأفراد وتسجَّل لبيان عظمتهم في التاريخ، وتُغفل بعض خصوصياتهم، بل إنها لسيرة شاملة في الأمور العامة والخاصة، حتى ليقال إنه كان صلى الله عليه وسلم في مثْل هذا الموقف يَفعل كذا، وفي ذاك الموقف يفعل كذا، ليفعل المسلمون كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم ودنياهم، مهما تعدَّدت الوسائل واختلفت الطرق وتنوعت الأساليب التي يَقتضيها الزمان والمكان[1].
لذلك حُفظت هذه السيرة العطرة بالتدوين منذ مرويات عروة بن الزبير بن العوام عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، ثم تدوين ابن إسحاق فابن هشام، ثمَّ تستمرُّ التدوينات عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، مما يَستدعي قيام قاعدة معلومات تحصر فيها المدَّونات المطبوعة والمخطوطة وباللغات المختلفة، وهذا ما دعت إليه التوصية الثامنة عشرة من توصيات ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية، السالف ذكرها.
مهما وقف المسلمون مع سيرة سيد الأولين والآخرين رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فلن يُشبعوه بحثًا ودرسًا وحِكَمًا مُستقاة وعِبَرًا مستفادة، في الوقت الذي أنصفه المنصفون من غير المسلمين وسطروا إعجابهم به، سواء اعترفوا به نبيًّا ورسولًا أم لم يعترفوا به، ولا ينتظر المسلم من غير المسلم أن يعترف بنبوة سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وإلا لأمكن أن يكون مسلمًا، وهو لا يريد أن يكون كذلك، وإن ظهرت تسمية نبي الإسلام ورسوله في بعض الكتابات، ولكن المسلم يَنتظر من الآخرين ألا يُسيئوا إلى نبيٍّ مِن أنبياء الله تعالى ورسله كلهم، ناهيك عن أن تكون هذه الإساءة لخاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
لا ينتظر المسلم كذلك أن تُسقط أفعال أتباع رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم عليه هو، وعلى ما جاء به من هدي، فما جاء به عليه الصلاة والسلام من هدي هو الذي يسقط على أفعال أتباعه، فما وافق الهدي كان تابعًا له، وما خالفه كان خارجًا عنه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد))[2]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد))[3]، فما يقوم به الناس المسلمون على مر التاريخ الإسلامي ليس حجة على الإسلام وعلى نبي الإسلام، ولكن الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم حجَّة على ما يقوم به المسلمون، ومِن ثمَّ فإن اتهام سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم بما يتهم به بعض أتباعه على مر العصور لا يستند على منطلق منطقي يقبله العقل وتقرُّه الممارسات الحضارية.
لقد كانت هذه الوقفة حول سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ المتنفذين من رجال الدين في الملل الأخرى قد تعرَّضوا بالهجوم على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهم المحسوبون بين قومهم ممَّن يتوقع منهم أن يعوا التاريخ، ويَحكموا عليه بقدرٍ من الإنصاف الذي يرشدون إليه، لا سيما أنهم يخرجون أسبوعيًّا على الفضائيات، خاصةً صباح كل أحد، عدا عن المواقف الوعظيَّة التي يَجتمع لها الناس في الملاعب الرياضية والأماكن العامة والتي تَستوعِب عشرات الآلاف، تفوق الثمانين ألف مستمع يقفون أمامهم يدعون إلى الفضيلة وإلى السماحة وإلى تبني تعاليم المسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى والدته صلاة الله وسلامه الذي بشَّر بمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
[1] انظر: الحسين بن مُحمَّد آيت سعيد: السنَّة النبوية وحي من الله محفوظة كالقرآن الكريم، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية؛ مرجع سابق، 75 ص.
[2] رواه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة وردِّ المحدثات، حديث رقم 3342.
[3] رواه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم 2499، ورواه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة وردِّ المحدثات، حديث رقم 3343.