الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم (السيرة النبوية)
الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم[1]
(السيرة النبوية)
وقف كثير من الدارسين والمحللين والباحثين في عظماء الرجال عند سيرة المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم العَطِرة، منذ مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل 570م إلى وفاته صلى الله عليه وسلم سنة 11هـ / 632م، وكانت حياته قبل البعثة وبعدها حافلةً بالخير والبركة، وكان مقبولًا من الجميع؛ لأنَّ الجميع لم يُظهر له قبل بعثته كيدًا أو يكن له أي لون من ألوان العداء، حتى دعته قريش قبل بعثتِه عليه الصلاة والسلام بالأمين.
صدق به من صدق به من المسلمين في أول يوم من بعثته صلى الله عليه وسلم بدءًا بأم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى أبي بكر الصديق إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ثم بقية الصحابة الذين كانوا يتعلمون ويتربون على يديه في مكة المكرمة، حينما كان ينبني فيها الإيمان، وكذب به من كذب من مشركي قريش والعرب الذين سمعوا به.
بدأت المكائد والمؤامَرات منذ البعثة المحمدية (سنة 610م) تأخذ أساليب شتى، وهي منذ بعثته عليه الصلاة والسلام إلى اليوم لم تتمكَّن من إطفاء النور الذي جاء به الرسول الأمين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8].
تظلُّ مسيرة التصديق مستمرة إلى اليوم، وإلى أن يشاء الله تعالى، كما تظلُّ مسيرة التكذيب مستمرة، مصحوبة أحيانًا بالكيد بأساليب مختلفة، تتناسب مع العصر الذي توجَّه فيه وإليه، ويتمثل التصديق في عودة المسلمين أنفسهم إلى الحق كما يتمثل في استمرار دخول غير المسلمين في الإسلام، على مختلف المستويات للأفراد؛ من حيث خلفياتهم ونِحَلهم ومِلَلهم.
التشكيك في سيرته عليه الصلاة والسلام وفي الطعن في حياته الخاصة، التي لم تكن تحيط بها الأسرار أو التكتُّمات، وفي زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهنَّ[2]، وفي إدارته لشؤون الدولة الإسلامية، وفي التشكيك بالكتاب، الذي أنزل عليه وحيًا من الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، ثمَّ يتمثَّل التكذيب في التشكيك بسنته صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وتقريراته المحفوظة كحفظ القرآن الكريم[3]؛ وذلك من حيث ثبوتها، ومن حيث صحتها، ومن حيث كونها مصدرًا من مصادر التشريع[4]، ثمَّ التشكيك في صحابته رضوان الله عنهم أجمعين، لا سيما رواة الحديث المُكثرين كأبي هريرة؛ عبدالرحمن بن صخر، وعائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق، وأبي ذر الغفاري، وأبي الدرداء رضي الله عنهم، ثمَّ التشكيك في سيرة الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، ثم التشكيك في علماء المسلمين الذين اشتغلوا بسنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبسيرته مِن تخريج وتجميع وتدوين وتصنيف وتبويب وغيرها؛ كالبخاري ومسلم وابن ماجه وابن حنبل والنسائي وأبي داود ومالك بن أنس، وغيرهم من أصحاب الصِّحاح والمسانيد، وعلماء الجرح والتعديل رحمهم الله أجمعين[5].
يأتي ذلك كله في زماننا الحاضر على أيدي رهط من المستشرقين والمنصِّرين ثمَّ الإعلاميين الغربيين ومَن في حُكمهم مِن الشرقيين، ومَن تأثَّر بهم من بعض علماء المسلمين عفا الله عنهم، الذين أرادوا من سيرته وسنَّته عليه الصلاة والسلام أن تكون مؤيدًا لتوجُّهات فكرية حادثة على الفكر الإسلامي أو وافدة على الأمة؛ كتيار الاشتراكية مثلًا، أو أنهم أُعجبوا بالطرح الاستشراقي وتأثروا به[6]، والأمثلة على هذا التوجه كثيرة لا يَخلو المنشور العربي من وقفات نقدية لها[7].
جهود المستشرقين والمنصرين في موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم تَحتاج إلى عناية بالرصد أولًا، ثم بالردود على الشبهات “بلغة علميَّة رصينة، ثم إيصال هذه الردود إلى مراكز البحث العلمي في الغرب، والعناية بترجمة هذه الردود إلى اللغات المنتشرة“، كما تنصُّ التوصية الحادية والعشرون لندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية، التي عقدت في رحاب مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، في المدة من 15 – 17 / 3 / 1425هـ الموافق 4 – 6 / 5 / 2004م، وشارك فيها أكثر من تسعة وسبعين باحثًا، من بينهم باحثون في الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته عليه الصلاة والسلام، جرى الاستشهاد ببعضهم في هذه الوقفات.
[1] نُشر هذا البحث في: مجلة الجامعة الإسلامية (المدينة المنوَّرة)، عدد (1429هـ / 2008م).
[2] انظر: محمود مهدي الإستانبولي ومصطفى أبو النصر الشلبي. نساء حول الرسول والردُّ على مفتريات المستشرقين، ط 2، جدَّة: مكتبة السوادي، 1410هـ / 1990م، 386 ص.
[3] انظر: أبو لبابة بن الطاهر حسين. السنَّة النبوية وحي من الله محفوظة كالقرآن الكريم، 58 ص، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية، المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة، 1425هـ / 2004م.
[4] انظر في مناقشة مواقف المستشرقين من صحَّة الحديث: السنة مع المستشرقين، ص 187 – 235، في: مصطفى السباعي. السنَّة ومكانها في التشريع الإسلامي، ط 3، دمشق: المكتب الإسلامي، 1402هـ / 1982م، 484 ص.
[5] انظر: عبدالغفور بن عبدالحقِّ البلوشي. علم الجرح والتعديل ودوره في خدمة السنة النبوية، 152 ص. وانظر، أيضًا: عبدالعزيز بن مُحَمَّد فارح: عناية العلماء بالإسناد وعلم الجرح والتعديل وأثر ذلك في حفظ السنَّة النبوية، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنَّة والسيرة النبوية؛ مرجع سابق، 59 ص.
[6] انظر مناقشة لآراء محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة الـمُحَمَّدية: مُحمَّد مُحمَّد أبو شهبة. دفاع عن السنة وردُّ شُبه المستشرقين والكتَّاب المعاصرين، القاهرة: مطبعة الأزهر، 1967م، 312 ص.
[7] انظر مناقشة لآراء أحمد أمين في السنة ورواتها لدى: تقي الدين الندوي. السنة مع المستشرقين والمستغربين.. مكَّة المكرَّمة: المكتبة الإمدادية، 1402 هـ / 1982م، 27 ص.